|
في كل مجتمع تتزايد فيه مساحات الفساد, تتزايد فيه مساحات الفهلوة. وفي كل
مجتمع تنحصر فيه مساحات العدالة والحرية, تتزايد فيه مساحات الشطارة. ومن ثم
تتزايد أعداد الوصوليين , والانتهازيين , والمتسلقين على أكتاف الكبار. في مثل
هذه المجتمعات تترعرع فلسفات خاصة أمثال :
"الرزق يحب الخفية"
و " يا بخت من كان النائب خاله "
و"من جاور السعيد يسعد"
و " شيلني وأشيلك "
إلى آخر هذه الفلسفات الانتهازية , التي هي أخطر وأقسى ما يدمر المجتمعات
ويجعلها تشيخ وتهرم قبل الأوان .
في هذه المجتمعات تبرز شريحة من الشطار ( بمعناها العامي والفصيح ) , هذه
الشريحة تجيد استغلال هذا الفساد وتستثمره لصالحها أيما استغلال . هؤلاء الشطار
يؤمنون بأن التعلق بحبال أهل السلطة , والسير في كنفهم , والوقوف على أبوابهم ,
والانتظار رهن إشاراتهم, وتلبية أوامرهم ؛ هو أقرب طريق للوصول للقمة بدون عناء
؛ كما أنه أسهل طريق لتحقيق المزيد من المآرب الشخصية بأقل جهد ممكن . هؤلاء
مؤهلون نفسيا للأكل على كل الموائد , و التصفيق لكل قرار, وتلميع كل زمان ,
وتحسين كل قبيح , وتقبيح كل حسن . هؤلاء يؤمنون بأنه لا مانع أبدا من أخذ خطوة
للخلف من أجل خطوتين للأمام ؛ مصالحهم الشخصية مقدمة على المصلحة العامة التي
لا تشغل أدني حيز من بالهم ولا تفكيرهم . فما أشبههم بالجراد يلتصق بثدي الدابة
, يمتص دمها , وينحل جسدها , ويعيش على قوتها طيلة حياته .
إن هؤلاء " الجراد يون "
عندما يقومون بهكذا دور في المجتمع ؛ إنما يحدثون فيه تصدعات مميتة , وشروخ
عميقة . فعندما يرى المشمرون , والمجتهدون, والمتميزون , والمتفوقون أنهم
مهمشون في المجتمع , بينما أمثال هؤلاء الشطار مقربون ؛ عندما يشعر أصحاب
الكفاءات , والقدرات , والمهارات بأنهم منبوذون بينما كتيبة
" الجراديون"
يحكمون , ويُنظرون , ويشرعون ؛ عندما يرى العلماء , والفضلاء , والحكماء ,
أنفسهم خلف القضبان ؛ بينما مدمني لعق النعال يتصدرون ؛ فإن كل هذا مما يهدم
المجتمع ويحكم عليه بالشيخوخة والموت البطيء.
هذه السياسية عندما تنتشر في المجتمع وتشيع , ينجم عنها شيوع وانتشار روح
السلبية بين أفراد هذا المجتمع. فلسان حال قطاع عريض من المنبهرين بهؤلاء
المحظوظون يهتف مع كل طلعة شمس : بأنه لا داعي لبذل الجهد من أجل الإبداع , أو
الاجتهاد , أو التفوق ؛ إنما الداعي اللازم اللازب في هكذا مناخ هو بذل الجهد
صوب التعلق بحبال الحكام (للطموحين) , أو السير في كنف الوزراء ( للقنوعين ) أو
الوقوف على أبواب الكبار( للمتواضعين ) . ويصير هدف شريحة كبيرة في المجتمع
مجرد الحلم بـأن يتعلقوا بالحبال , أو يقفوا على الأبواب ليكونوا من أصحاب
الحظوة. وهذا - أيضا - مما يهدم المجتمع ويحكم عليه بالشيخوخة والموت البطيء.
إنك إن دققت النظر - في كل شبر من حولك - ستجد حقيقة كبيرة مفادها : أنه وراء
كل جراد كبير, مأساة كبيرة , لمظلوم كبير في المجتمع . فهذا طالب متفوق يستحق
التعيين ولم يعين ولكن سلب حقه من لا يستحق , وهذا شاب متميز يستحق البعثة
ولكنه لم يُبتعث ؛ وهذا موظف كفء يستحق الترقية ولم يترق للسبب نفسه ؛ وهذا
...... , وهذه ...... وهؤلاء...... كلهم يحكون قصصا وحكايات تحمل العديد من
المآسي , والسبب الرئيسي هو أن من لا يملك أعطى لمن لا يستحق. وعندما يتصدر في
المجتمع من لا يستحق فإن هذا – أيضا - مما يهدم المجتمعات ويحكم عليها
بالشيخوخة والموت البطيء .
ولا أدري عزيزي القارئ هل تمنيت ذات مرة - مجرد تمني - أن تكون مثل ( س ) الذي
تأتيه الدنيا حتى عتبات بيته لأنه من المقربين؟ أو ندبت حظك ذات مرة لأنك لست
مثل ( ص ) الذي لا يعجزه شيء في مؤسسات الدولة- شرعي كان أم غير شرعي - لأن كل
مؤهلاته أنه جراد كبير ؟ أو هل ُأصابتك لوعة حزن وأسى لأنك لست مثل ( ع ) الذي
تغيرت حياته 180 درجة بسبب قربه من الكبار ؟ أو هل قلت بينك وبين نفسك ذات مرة
: ( يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون) ؟ , أو على الأقل مثل ما أوتي رجال قارون ,
أو أتباع قارون أو صبيان قارون ؟. هل تمنيت يوما أن تكون جرادا كبيرا مثل هؤلاء
؟ أم أنك من المؤمنين بالمثل الفارسي القديم الذي يقول :"
لا الملك معرفة ولا البحر جار "؟ ( أي
لا تتعرف إلى الملك , ولا تجاور البحر فكلاهما غدار ).
وهنا يجب على كل من يفكر في تحقيق أحلامه الشخصية , أو طموحاته الخاصة عبر هذه
البوابة , أو من يعيش الآن مرحلة الحلم والمحاولة , أو يعيش ألآن مرحلة التخطيط
, أو يمر بمرحلة التنفيذ الفعلي لتحقيق أحلامه الخاصة , وطموحاته الشخصية عبر
هذه البوابة سواء بتصفيق لفاسد , أو بتهليل لباطل ؛ أم بتفريط , أو بتقصير, أو
بمداهنة ؛ على هؤلاء جميعا مراجعة أنفسهم قبل فوات الأوان . عليهم الإنصات
لنصيحة نبي الله عيسى- عليه وعلى نبينا الصلاة و السلام- لما نصح المؤمنين في
كل زمان ومكان بقوله :
" تحببوا إلى الله ببغض أهل المعاصي ,
وتقربوا إلى الله بالتباعد منهم ,
والتمسوا رضا الله بسخطهم " .
ولما سألوه : يا روح الله فمن نجالس إذن ؟؟؟ فقال
:
" جالسوا من تذكركم بالله رؤيته ,
ومن يزيد في عملكم كلامه ,
ومن يرغبكم في الآخرة عمله "..
هؤلاء هم من يجب أن نتقرب منهم , هؤلاء هم من يجب
أن تتوق إليهم أنفسنا , هؤلاء هم من يجب أن نتزاحم على أبوابهم , ونعيش في
كنفهم , ونتسلق على أكتافهم , بل و ننام تحت أقدامهم طمعا فيما هو خير وأبقى .
هؤلاء هم من يجب أن نحبهم لننال- على اقل التقديرات - فضيلة الحشر معهم يوم
القيامة . فكما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم": (يحشر المرء مع من أحب ).
وكما يذكرنا عبدالله بن مسعود بقوله :
" والله الذي لا اله إلا هو
لو أن رجلا قام بين الركن والمقام
يعبد الله سبعين سنة
لبعثه الله من مع أحب "
وكأنه يقول لنا جميعا : مهما أدى العُباد من
عبادات , ومهما حسنت هذه العبادات , ومهما طالت أزمنة هذه العبادات , ومهما
تقدست أماكنها , فلن يمنعنا ذلك كله من أن نحشر مع من كنا نحب ونؤيد , ونكتوي
بنير من له كنا نصفق ونبايع , ولطول بقائه نهلل ونبارك .
إن تفشي ظاهرة " الجراد يون "
في المجتمع تجعل من الواجب علينا جميعا التذكير بأن الله خلقنا أغنياء وفقراء ,
حكام ومحكومين , وزراء وخفراء , لا لشيء إلا ليبتلينا , ويختبرنا , ويمتحننا .
فلا يغيب عنا هذا البعد , كما لا يغيب عن ذهن كل لبيب أن هذه الأيام دول والله
يقول : " وتلك الأيام نداولها بين الناس "( ال عمران 140) فلن يظل الغني غنيا ,
ولا الفقير فقيرا ؛ لن يظل الحاكم حاكما , ولا المحكوم محكوما ؛ لن يظل المريض
مريضا ولا الصحيح صحيحا ؛ لن يظل الكبير كبيرا , ولا الصغير صغيرا ؛ ولكنها
الحقيقة الكبرى التي يجب ألا تغيب عن أذهاننا : حقيقة المداولة بين الناس ,
والتي هي سنة من سنن الله الكونية ؛ تلك السنة التي يجب أن ندركها و نعيها ,
لنعيش مطمئنين بأقدار الله , أعزاء بإتباعنا لأوامره , خاضعين له وحده دون غيره
من المحاويج , وأتباع المحاويج , وصبيان المحاويج من عباد الله في أرض الله .
طارق حسن السقا
alsaqa22@hotmail.com