|
من المفاهيم التي يجب تدخل في بوتقة التغيير عند الكثيرين منا اليوم - وبالطبع
أنا وأنت منهم - تغيير مفهومنا ونظرتنا للمستقبل. فكثير منا ينشغل بتأمين هذا
المستقبل انشغالا لا حدود له , نصرف له جل وقتنا وجهدنا , بل و نستهلك حاضرنا
كله لتأمين هذا المستقبل الذي قد لا يأتي , والذي قد لا نصل إليه .
إن تأمين المستقبل تحول إلى هوس , هوس شغل الناس جميعا , شغل الكبير والصغير,
شغل الغني والفقير, شغل العالم والجاهل , شغلنا جميعا ؛ هوس تحول إلى داء , داء
تكمن خطورته في كونه عطل أمورا كثيرة عند من ابتلاهم الله به . وأكثر من
ابتلاهم الله بهوس تامين هذا المستقبل تجدهم دائما قلقين , حائرين , مضطربين ,
متسرعين , خائفين . وغالبا ما تجد أكثرهم يتنازلون , يفرطون , يقصرون , يذلون
تارة و يداهنون تارة أخرى ؛ باختصار تجدهم ممن يستبدلون الذي هو أدني بالذي هو
خير .
إن هذا المستقبل الذي يشغلنا , ويقلقنا , ونخافه هو ذلك المستقبل الذي قد لا
تخرج ملامحه عن صور ذلك اليوم الذي فيه سيداهمنا العمر بإمراضه , وأعراضه ,
وعدم القدرة فيه على الحركة أو العمل ؛ أو ذلك اليوم الذي سيصدر فيه قرار
إحالتنا إلى المعاش , أو إلى التقاعد ؛ أو ذلك اليوم الذي فيه سيتزوج
(آخر
العنقود ) وينصرف - مثل بقية إخوانه- لبيته , و أسرته الجديدة , ويتركنا فيما
بين الوحدة و الشيخوخة ؛ أو ذلك اليوم الذي نصبح فيه بالنسبة لأبنائنا أشياءً
هامشية خارج حدود الدائرة ؛ أو ذلك اليوم الذي سنفاجئ فيه بوفاة شريك الحياة
ويعيش الواحد منا فيه بين تبعات الوحدة وجحود الأبناء . هذه الموروثات - وغيرها
- أمور ورثناها وتسربت إلى حياتنا ساهمت بقدر كبير في جعلنا نخشى ذلك المجهول
ونهابه , بل ونسعى مبكرين لتأمينه - ليس قدر استطاعتنا فحسب , بل بما هو فوق
القدر وفوق الاستطاعة . مما يترتب على هذا من المخاطر ما لا ندرك عواقبه إلا
بعد فوات الأوان .
إن المستقبل الحقيقي الذي يجب أن يشغلنا ليس هو ذلك اليوم الذي نعتقد . إن
المستقبل الحقيقي للإنسان يبدأ من لحظة إغلاق قبره عليه , من لحظة مفارقة أهله
وأحبابه له , من لحظة عودتهم إلى دورهم وأعمالهم وتركه بلا أنيس ولا رفيق ,
وحيدا تحت التراب , أنيسه الدود , في وحشة الليل , في ظلمة اللحود , يوم يحال
بينه وبين العمل , أو يحال بينه وبين إدراك أو استدراك ما مضى وفات . إن
المستقبل الحقيقي الذي يجب أن يشغلنا هو ما بعد الموت: يوم لا ينفع مال , ولا
بنون , ولا حسب , ولا نسب , ولا أملاك , ولا ألقاب .( يوم يفر المرء من أخيه*
وأمه وأبيه* وصاحبته وبنيه* لكل امرئ منهم يومئذ شان يغنيه* ). ( عبس 34:37)
إن تأمين ذلك المستقبل- والذي حتما سنلاقيه- لا يكون إلا بأمور يجري ثوابها على
الإنسان في قبره بعد موته - وهي كثيرة- منها : ما رواه البزار في مسنده من حديث
أنس بن مالك أن النبي قال: (سبع يجري للعبد أجرهن وهو في قبره بعد موته : من
عَلّم علماً ، أو أجرى نهراً ، أو حفر بئراً ، أو غرس نخلاً ، أو بنى مسجدا ً،
أو ورّث مصحفاً ، أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته ( (حسّنه الألباني في صحيح
الجامع:3596)
إنك إذا ما نظرت إلى هذه الوسائل السبعة - التي تضمنها حديث رسول الله صلى الله
عليه وسلم , و التي تساهم في تامين مستقبل الإنسان الحقيقي بعد موته - ستجد أن
جزءا كبيرا من مستقبل الإنسان بعد موته مرهون بتفانيه أثناء حياته في خدمة
مجتمعه , لا بالانكباب على همه الشخصي ؛ ستجد أنها تحمل دعوة لكل مسلم بان
يتحلى بالايجابية , و يتخلى عن السلبية تجاه أهله ,ومجتمعه , ودائرته التي يعيش
فيها ؛ ستجد أنها تحمل دعوة بان يعيد كل إنسان تقييمه إلى فلسفته ونظرته إلى
الحياة . فليس من مصلحة الإنسان في المجتمع أن يكسب بمفرده , بل يكسب ويكسب معه
الآخرون ؛ وليس من مصلحته أن يأكل بمفرده , بل يأكل ويأكل معه الآخرون ؛ وليس
من مصلحته أن يعلم بمفرده , بل يعلم ويعلم معه الآخرون ؛ وليس من مصلحته أن
يأمن بمفرده , بل يأمن ويأمن معه الآخرون . هنا يأمن المجتمع على حاضره
ومستقبله , وبالتالي يأمن أفراده أيضا على مستقبلهم في الدنيا والآخرة .
هذا الفهم هو الذي جعل عثمان بن عفان - رضي الله عنه - يلبي نداء الواقع على
لسان رسول الله- صلى اله عليه وسلم - لما وقف ينادي في الناس :
من يشتري لنا بئر معونة , ويجعلها صدقة للمسلمين ,
سقاه الله يوم القيامة من العطش .
فعلى الفور قام عثمان بن عفان- رضي الله عنه - بشرائها وجعلها صدقة للمسلمين
يشربون منها وينتفعون بها . ولما فعل هذا لم يكن - رضي الله عنه - منشغلا
بالمستقبل الوهمي الذي يشغلنا اليوم , إنما كان مهموما بتأمين مستقبله الحقيقي
. كان مهموما بفعل فعل يعود عليه نفعه ومردوده بعد موته .
نفس الفهم هو الذي جعل أبا هريرة - رضي
الله عنه وأرضاه - لما دخل على رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقسم الغنائم على أصحابه يجلس غير مكترث بهذه
القسمة , ولا بهذه الغنائم . فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له :
" يا أبا هريرة , ألا تسألني من هذه الغنائم التي
يسألني أصحابك؟ "
فرد عليه أبو هريرة رد المهموم بتأمين مستقبله الحقيقي :
يا رسول الله , أسالك أن تعلمني مما علمك الله.
يقول أبو هريرة :
فنزع رسول الله رداءه وفرشه , وجلسنا , وحدثني حتى
استوعبت حديثه ثم قال لي : "اجمعها فصرها إليك . "
فما أسمى همتك يا أبا هريرة . فلو طلب المال
لحازه , ولو طلب نصيبه من الغنائم لناله , ولو فكر في تأمين مستقبله الوهمي
لأمَنه . ولكنه طلب ما يبقي على ما يفنى . فلقد ذهب المال , وذهبت الغنائم ,
وبقى علم أبي هريرة الذي نقله للأمة تتعلم منه وتنهل حتى قيام الساعة. وهذا مما
يصب في رصيده - رضي الله عنه وأرضاه - إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
هذا الفهم – أيضا - هو الذي يجعل العقلاء في الأمة لا يكلون ولا يملون من
الحديث عن حسن تربية الأبناء والاهتمام بهم . فحسن تربية الأبناء وتنشئتهم
التنشئة الإسلامية الصحيحة أحد أهم مراحل تامين المستقبل الحقيقي للإنسان بعد
موته .
فلقمان الحكيم
- ذلك الرجل الصالح الذي خيره الله بين النبوة والحكمة ،
فاختار الحكمة على النبوة- لما ذكره الله تعالى بأحسن الذكر، و امتن الله عليه
بأنفع العلم , تجلت لنا هذه الحكمة , وهذا العلم من بوابة مواعظه ووصاياه
التربوية لابنه , وحرصه الكبير على تنشئة الولد الصالح الذي هو أحد أهم روافد
تأمين مستقبل الإنسان , بنص حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والذي قال فيه
:
( إذا مات ابن ادم انقطع عمله إلا من ثلاث:
صدقة جارية , أو علم ينتفع به, أو ولد صالح يدعو
له .) " رواه مسلم ".
وكان من كرم الله علينا أن قص علينا حكمة ذلك
الرجل الصالح
- لقمان -
ليكون لنا فيها الأسوة والمثل , ولنسير على نهجه في عدم
الكلل ولا الملل في نصح أبنائنا , ووعظهم بما يفيدهم , وتربيتهم على القيم
النبيلة والفضائل السامية التي تسمو بهم , وبمجتمعاتهم . تربية نحوز بها رضا
الله أولاً , ومن ثم الفوز باستحسان المجتمع الذي نعيش فيه. وهذا مما يساهم في
تامين مستقبل الإنسان بعد موته .
إن تأمين مستقبلنا الحقيقي مهمة تتطلب منا إنفاذ كل الجهد , و بذل كل الوسع في
كل ما نستجمعه من طاقات, ومواهب , ورغبات , ورؤى , وقدرات . إنها مهمة يجب أن
تبرز إلى بؤرة اهتمامنا و تحظى بعنايتنا , ووقتنا , وتفكيرنا , وتخطيطنا . فيجب
أن نقدر لهذا الأمر قدره . وليس معنى هذا إغفال تامين مستقبلنا القريب- والذي
ذكرنا بعضا من صوره - بل نقدر لكل أمر قدره , ولا ننشغل بالذي هو أدنى عن الذي
هو خير . ولا ينسينا هوس تأمين مستقبلنا الوهمي تأمين مستقبلنا الحقيقي , وليكن
ذلك بفعل كل ما يرضي الله ورسوله , وفعل ما يعود نفعه على الناس في مجتمعاتنا
التي نعيش فيها .
الرياض : 4/ شوال / 1428هـ
16/ أكتوبر /2007م
طارق حسن السقا
alsaqa22@hotmail.com