فقه الموازنة وأولويات المواجهة في زمن التحديات

فقه الموازنة وأولويات المواجهة في زمن التحديات

د. عبدالله بن معيوف الجعيد
@abdullahaljuaid
- مكة المكرمة -

 
بسم الله الرحمن الرحيم


في ميدان الإصلاح والتقويم، لا يَكفي أن يُشخّص الخلل أو يُكشف الخطأ، بل لا بد أن تُطرح البدائل الراشدة التي تراعي الواقع وتقلّل المفاسد.
فكم من مصلح أسهم، بحُسن نية، في تقويض ما فيه بعض الخير دون أن يهيئ بديلاً راشداً، فمهّد بذلك الطريق لتمكين شرٍّ محضٍ، لم يكن ليظهر لولا ما فعله من هدمٍ غير موزون.

الإسلام،
في بنيته المعرفية والواقعية، جاء بتوازن دقيق في النظر إلى الأعداء والمخالفين، ومارس هذا التوازن النبي ﷺ حين فرح بانتصار الروم، رغم كونهم غير مسلمين، لأنهم أقرب في المعتقد والسلوك إلى الحق من أعدائهم الفُرس. وقد سماه الوحي في هذا السياق “نصرًا من الله” في دلالة على مبدأ المفاضلة في الخصومة بحسب القرب والبعد عن الحق.

السياسة الشرعية تُفرق بين “العدو الأخف” و”العدو الأشد”، ولا تُجيز الانشغال بالمواجهة الشاملة للجميع دون نظر إلى التبعات، بل تدعو إلى ترتيب الأولويات.
لذلك لم يبدأ النبي ﷺ في المدينة بمواجهة المنافقين، ولا فتح الصراع مع يهود المدينة، بل اشتغل أولًا بإضعاف القوى الوثنية المركزية، ثم انتقل بحسب الحكمة والقدرة إلى بقية التحديات.

المصلح الذي يُغفل هذا التقدير الواقعي، وينشغل بالخلافات الجزئية في زمن التهديدات الكبرى، قد يخدم من حيث لا يشعر أجندة الباطل، ولو كان حسن القصد.
كما أن الاقتصار على نقد المخالفين في مسائل الاجتهاد، مع الصمت عن منتهكي الإجماعات الشرعية الكبرى، يكشف عن خلل في الميزان العلمي أو انحراف في البوصلة المقاصدية.

التمييز مطلوب بين من يبادر بإحداث المنكر أو يؤسس له، ومن يضعف في مقاومته أو يتراخى في تغييره. فالأول يُذم من جهة الإنشاء، أما الثاني، فالموقف منه يُبنى على مقاصده وسياق حاله.

الانشغال بالخلافات التفصيلية، فيما الأصول الكلية تُنتهك وتُجتث من جذورها، نوع من صرف الجهد عن مواضعه.
ولهذا بدأ النبي ﷺ دعوته بالتوحيد وأصول الاعتقاد، ثم بنى على ذلك الفروع والشرائع، فاستقرت الرسالة وثبتت دعائمها.

وقد يكون أقرب إلى الصواب أن يُقابل العاصي المقبل على الخير باللين والتشجيع، ولو لم يكتمل صلاحه بعد، بينما يُشدّد على المتديّن إذا أخلّ، لأن التراجع من القرب أخطر من البطء في الإقبال.

وتُعد مراعاة مراتب الخصومة من محاسن هذا الدين، فلا يُنازع الطرف الأخف إذا كان في خصومة مع طرف أشد ضررًا، بل يُترك له المجال حتى يُضعف خصمه، ثم يُنظر بعد ذلك في شأنه.

إن توحيد الصفوف في زمن الأزمات الكبرى مقدَّم على الخوض في تفصيلات الخلافات الجزئية، ومن لم يُدرك هذا فهو إما جاهل بحقائق الأمور، أو خاضع لهوى يتزيّا بلبوس الغيرة على الدين.

ففي ميزان الشريعة:

كل خطوة من البعيد نحو الهداية يُحتفى بها، وتُقابَل بالرفق والتأليف، بينما يُنظر إلى تقصير القريب بعين الغيرة والتقويم، وإن بدا أن الأول أقل نفعًا من الثاني.

أما مكر أهل الباطل، فمصيره إلى الفشل ولو بعد حين، وقد جرت سنة الله أن يحيق مكرهم بهم، وإن طال الأمد أو خفيت آثاره في بداياته.