الدعوة أولًا:
الدور المحوري لجمعيات الدعوة في بناء الإنسان والمجتمع
د. عبدالله بن معيوف الجعيد
@abdullahaljuaid
- مكة المكرمة -
بسم الله الرحمن الرحيم
تمثل جمعيات الدعوة في المجتمعات المسلمة البنية التحتية الفكرية
والإيمانية لتربية الإنسان على منهج التوحيد، وهي الجسر الذي يصل بين هداية
الوحي وواقع الحياة. فليست مجرد كيانات تنظيمية تُعنى بالمحاضرات والدروس،
بل هي مؤسسات تغيير حضاري، تُعيد تشكيل وعي الإنسان، وتغرس فيه القيم التي
بها يُصلح دنياه وآخرته.
أولًا: الدعوة في ميزان الشرع
إن المتأمل في مقاصد الشريعة، يجد أن أصل الأصول فيها هو تحقيق عبودية الله
تعالى في الأرض. وقد جاءت الرسل، وبُعث الأنبياء، وسُنّت الشرائع، لأجل هذا
المقصد العظيم، كما قال تعالى:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:
٥٦]،
وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ ٱعْبُدُوا
ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُوا ٱلطَّاغُوتَ} [النحل: ٣٦].
فالدعوة إلى الله هي الوعاء الأعظم لتحقيق هذا الغرض، ولذلك كانت وظيفة
الأنبياء، ثم ورثتهم من العلماء والدعاة، كما قال صلى الله عليه وسلم:
“إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا،
إنما ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر.” [رواه أبو داود والترمذي].
ومن هنا كان الإنفاق في سبيل الدعوة إنفاقًا في أعلى مقامات البر، إذ هو
إنفاقٌ على الهداية، لا على الكفاية، وشتان ما بين من يُعين على سد الجوع،
ومن يُعين على الهداية إلى طريق الله.
ثانيًا: جمعيات الدعوة وتشكيل وعي الإنسان
الدعوة ليست وظيفة وعظية محضة، بل مشروع لبناء الإنسان الرباني الذي يعرف
الغاية من خلقه، ويعي مسؤوليته في عمارة الأرض بالحق. فالدعوة تُعنى ببناء
الإدراك، وتصحيح المفاهيم، وتحرير الإنسان من العبوديات الزائفة للأهواء
والمادية.
وقد أثبتت التجارب أن المجتمعات التي تتغلغل فيها الدعوة الواعية، القائمة
على فهم الكتاب والسنة، أقل عرضةً للتفكك، وأكثر صلابةً أمام التيارات
الفكرية المنحرفة والتغريبية. وهي أيضًا أكثر قدرة على ترسيخ الهوية
والانتماء، وتحقيق السلم الاجتماعي، وبناء جيلٍ يوازن بين التوكل والعمل،
والروح والمادة.
ثالثًا: الإغاثة ضرورة، والدعوة أولوية
لا يُنكر عاقل فضل العمل الإغاثي، فهو من أعظم صور البر والإحسان، غير أن
الموازنة واجبة، إذ لا تعني ضرورة الإطعام تعطيل وظيفة الإيمان، كما قال
ابن القيم:
“فإن قوامُ الدين والدنيا إنما هو بالعلم والهداية لا بالطعام والشراب
وحدهما، إذ الحيوان يشترك مع الإنسان في الحاجة لهما، أما الهداية فهي
خصيصة الإنسان وكرامته.”
ولهذا لما بعث النبي ﷺ معاذًا إلى اليمن، قال له:
“فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله…” [متفق عليه]،
فبدأ بالتوحيد، لا بالطعام، مع أنهم كانوا فيهم فقراء ومحتاجون، بل بعضهم
أهل كتاب.
رابعًا: جمعيات الدعوة والتنمية المستدامة
الدعوة ليست عملًا ظرفيًا، بل أساس للتنمية المستدامة. فالمجتمعات التي
يُصلح أفرادها مع الله، تُصلح علاقاتهم بأنفسهم وأسرهم ومجتمعاتهم، مما
ينعكس على التعليم، والاقتصاد، والسلوك، والأمن.
بل إن كثيرًا من الأزمات الاجتماعية والاقتصادية تعود في أصلها إلى فساد في
العقيدة أو القيم أو السلوك، لا في الموارد.
خامسًا: إعادة ضبط البوصلة التمويلية
إن من الخلل الخطير أن تُقصى جمعيات الدعوة من أولويات الدعم، بينما تُغدق
الأموال على مشروعات مادية آنية. وهذا لا يعني تقليلًا من تلك المشاريع، بل
دعوة لتصحيح التوازن، فالدعوة هي المشروع الأجدر بأن يُستثمر فيه، لأنها
تصنع الإنسان الذي يحمي، ويبني، ويعطي.
وإذا كان من يُطعم فقيرًا يكافأ بأجر عظيم، فإن من يُعين على هداية إنسان،
قد يكون سببًا في نجاته ونجاة غيره. كما في الحديث:
“لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا، خير لك من حُمر النَّعَم.” [رواه البخاري
ومسلم].
خاتمة:
إن دعم جمعيات الدعوة ليس خيارًا ثانويًا، بل ضرورة شرعية ومجتمعية، لأنه
استثمار في الإنسان قبل البنيان، والإيمان قبل العيش.
وإن كل يدٍ تمتد لنصرة هذه الجمعيات، فهي في الحقيقة تزرع نورًا في قلبٍ،
وتُحيي أمةً، وتُقيم حُجّة لله في أرضه.