|
الحمد لله الذي حث على الذي حث على الإكثار من الطاعات لينال العبد بذلك انشراح
الصدر وسعة العيش وهناء الحياة , فقال تعالى : "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ
ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً
وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ "
والصلاة والسلام على خير الورى وخير من وطئ بقدمه الثرى , صلاة وسلاما دائمين
إلى يوم الدين ثم أما بعد .
أعلمُ أخي المبارك أننا صرنا نعيش زماناً يعزُّ على الإنسان أن يستمسك بإيمانه
حينما يزيد ولربما شكا كثيرا من قلبه المتقلب , ولربما تذكر زماناً عاشه مرت
عليه لحظات كان قلبه في سعادة تمنى تكرارها , ولربما تفكر وتذكر طاعات بدأت
تزول شيئا فشيئا , ورأى من نفسه تهاوناً في كثير من الطاعات , فتارة ينظر في
وتره , وتارة في صيامه , وأخرى في صلاته للضحى , وأخرى في بقية نوافله , وتارة
في أذكاره , وأخرى في أخلاقه وقلبه , فإذا بقلبه يتحسر هنا ويزيد حسرة هناك ,
وأعظم منه حسرة من لم يحاسب نفسه ولم يتدارك قلبه , فيغيثه بما يغذيه ويقويه ,
وأحببت أخي أن أذكر نفسي قبل أن أذكرك بما يقوي الإيمان ويزيده في القلب ,
ويساعد العبد على الثبات , فجمعت أسباباً عشرة راجياً من الله تعالى بها سبيل
الدلالة لقلبي وقلبك فإليك هذه الأسباب رعاك الله .
اعلم أخي المبارك أن الإيمان يزيد بأمور وبضدها ينقص الإيمان ، فمما يزيد
الإيمان عشرة أسباب أسوقها لك مع أدلتها:-
أولاً : معرفة الله جل وعلا بأسمائه والحسنى وصفاته العلى .
ومما يدل على ذلك : قول الله عز وجل : {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ
الْعُلَمَاءُ} فاطر: ٢٨ ووجه ذلك أن العلماء أعرف الناس بأسماء الله تعالى
وصفاته ، فاستحضروها في دعائهم وفي جميع شؤون حياتهم حتى كانوا أخشى الناس ،
والخشية أثر لقوة الإيمان في قلوبهم ، وإلا فالعلم الذي لا يورث هذه الخشية علم
مدخول نسأل الله السلامة والعافية .
قال ابن رجب : " العلم النافع يدل على أمرين : أحدهما : على معرفة الله وما
يستحقه من الأسماء الحسنى والصفات العلى والأفعال الباهرة ، وذلك يستلزم إجلاله
وإعظامه وخشيته ومهابته ، ومحبته ، ورجاءه والتوكل عليه والرضاء بقضائه والصبر
على بلائه ، والأمر الثاني : المعرفة بما يحبه ويرضاه ، وما يكرهه وما يسخطه من
الاعتقادات والأعمال الظاهرة والباطنة والأقوال ، فيوجب ذلك لمن علمه المسارعة
إلى ما فيه محبة الله ورضاه والتباعد عما يكرهه ويسخطه فإذا أثمر العلم لصاحبه
هذا فهو علم نافع ، فمتى كان العلم نافعاً ووقر في القلب فقد خشع القلب لله
وانكسر له ، وذل هيبة وإجلالا وخشية ومحبة وتعظيما " [ انظر فضل علم السلف على
فضل الخلف في ص ( 64-65 ) ]
وقال أيضاً في ص ( 67 ) " فالعلم النافع ما عَّرف العبد بربِّه ، ودلَّه عليه
حتى عرفه ووحَّده وأنس به واستحى من قربه وعَبَده كأنه يراه " أ.هـ .
وإذا وصل العبد إلى عبادة ربه كأنه يراه لا شك أنه وصل إلى مرتبة عظيمة من
الإيمان لأنه وصل إلى أعظم المراتب وهي الإحسان .
ثانياً : طلب العلم الشرعي
ويدل عليه ما تقدم : قول الله عز وجل : {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ
الْعُلَمَاءُ}فالعلم طريق للخشية التي هي علامة لما وقر في القلب من إيمان وذلك
يأتي بالعلم النافع كما تقدم ، ولذا يقول الأمام أحمد : " أصل العلم الخشية "
وأيضاً لما تكلم أحد الناس عن الإمام الزاهد العابد " معروف الكرخي " رحمه الله
في مجلس الإمام أحمد وقال عنه : " إنه قصير العلم " نهره الإمام أحمد وقال : "
أمسك عافاك الله وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف " ولذا جعله النبي
طريقاً إلى الجنة فقال : " من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به
طريقاً إلى الجنة " رواه مسلم .
ثالثاً : التأمل في آيات الله الكونية ومخلوقاته جل وعلا
ويدل على ذلك : قول الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} عمران:
١٩٠ وقوله تعالى : {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ}الذاريات: ٢١ وقوله
{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ
وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} يونس: ١٠١فإن العبد إذا تفكر في آيات
الله تعالى في هذا الكون عرف عظمة الله تعالى فازداد إيمانه
قال عامر بن عبد قيس : " سمعت غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم
يقولون : " إن ضياء الإيمان أو نور الإيمان التفكر " [ انظر الدرر المنثور (
2/409) ]
رابعاً : قراءة القرآن وتدبره
ففي قراءته وتلاوته يزداد الإيمان ويدل على ذلك : قول الله عز وجل في وصف
المؤمنين الصادقين : {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ
إِيمَانًا}[الأنفال: ٢ وكذلك تدبره ففيه أعظم النفع لزيادة الإيمان وأما القلوب
الغافلة فلا تتدبره ، ويدل على ذلك قول الله تعالى : {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ
الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} محمد: ٢٤ .
- قال ابن القيم رحمه الله : " قراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير
تدبر وتفهم وأنفع للقلب وأدعى في حصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن "
وقال أيضاً : " فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده ، وأقرب إلى نجاته من تدبر
القرآن ، وإطالة التأمل ، وجمع الفكر على معاني آياته ، فإنها تطلع العبد على
معالم الخير والشر بحذافيرها ... وتثبت قواعد الإيمان في قلبه وتشيِّد بنيانه
وتوطِّد أركانه " [ انظر مدارج السالكين 1/485 ]
فإذا تدبر العبد آيات الله تعالى وما فيها من وعد ووعيد وجنة ونار والأعمال
التي تسوق إليهما زاد إيمانه ويقينه بوعد ربه ووعيده .
خامساً : الإكثار من ذكر الله تعالى
ويدل على ذلك : قول الله تعالى : {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ
بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}الرعد: ٢٨
وقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي موسى : " مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه
مثل الحي والميت " رواه البخاري ، فذكر الله عز وجل فيه حياة للقلب فيزداد إيمان
العبد كلما أكثر من ذكر ربه ، ويموت القلب وينقص إيمان العبد كلما كان بعيداً
عن ذكر ربه وفي هذا علامة على الغفلة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى
ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ}المنافقون: ٩ وقال في وصف المنافقين الذين ملئت قلوبهم كفراً
وبعداً عن الله تعالى : {وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} النساء:
١٤٢ قال أبو الدرداء رضي الله عنه " : لكل شيء جلاء ،وإن جلاء القلوب ذكر الله عز وجل " [ انظر
شعب الإيمان (1/396) والوابل الصيب (60) ] قال عمير بن حبيب : " الإيمان يزيد
وينقص . فقيل فما زيادته وما نقصانه ؟ قال : إذا ذكرنا ربنا وخشيناه فذلك
زيادته ، وإذا غفلنا ونسيناه وضيعنا فذلك نقصانه " [ انظر الإيمان لابن أبي
شيبة (7) ] وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : " الذكر للقلب مثل الماء للسمك ، فكيف
يكون حال السمك إذا فارق الماء " [ انظر الوابل الصيب (63) ]
سادساً : تقديم ما يحبه الله ورسوله على هوى النفس
ويدل على ذلك : حديث أنس قال صلى الله عليه وسلم : " ثلاث من كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان : أن
يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن
يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار" متفق عليه
قال ابن حجر : " قال البيضاوي : وإنما جعل هذه الأمور الثلاثة عنواناً لكمال
الإيمان لأن المرء إذا تأمل أن المنعم بالذات هو الله تعالى ، وأن لا مانح ولا
مانع في الحقيقة سواه ، وأن ما عداه وسائط ، وأن الرسول هو الذي يبين مراد ربه
، اقتضى ذلك أن يتوجه بكليتيه نحوه : فلا يحب إلا ما يحب ، ولا يحب من يحب إلا
من أجله ... " [ انظر الفتح المجلد الأول كتاب الإيمان باب حلاوة الإيمان ] ومن
أعظم علامات محبة الله ورسوله تقديم ما يحبه الله ورسوله على هوى نفسه ، قال
تعالى : {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ
اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}آل عمران: ٣١
وكذا مما يزيد الإيمان الحب في الله ، وكراهة الوقوع في الكفر فيبتعد عن كل ما
يهوي به إلى ذلك .
سابعاً : حضور مجالس الذكر والحرص عليها
ويدل على ذلك حديث حنظلة الأُسيدي قال : " قلت : نافق حنظلة يا رسول الله ،
فقال صلى الله عليه وسلم : " وما ذاك ؟ " قلت يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة ، حتى
كأنّا رأي عين ، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات ، نسينا
كثيراً ، فقال صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر
لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة " رواه مسلم
والضيعات : هي معاش الرجل من مال أو حرفة أو صناعة .
وقال معاذ بن جبل لأحد أصحابه يتذاكر معه : " اجلس بنا نؤمن ساعة " رواه
البخاري في صحيحه معلقاً ، وقال ابن حجر في الفتح : " وهو عن الأسود بن هلال
قال : قال لي معاذ بن جبل : " اجلس بنا نؤمن ساعة " وفي رواية : " كان معاذ بن
جبل يقول للرجل من إخوانه : " اجلس بنا نؤمن ساعة فيجلسان فيذكران الله تعالى
ويحمدانه " [ انظر الفتح المجلد الأول كتاب الإيمان باب بني الإسلام على الخمس
]
قال أبو الدرداء : " كان ابن رواحة يأخذ بيدي ويقول : " تعال نؤمن ساعة ، إن
القلب أسرع تقلباً من القدر إذا استجمعت غليانها " [ انظر ( الزهد و الرقائق )
لابن المبارك وانظر ( الإبانة الكبرى ) لابن بطة ]
وفي شعب الإيمان للبيهقي : " عن عطاء بن يسار أن عبد الله بن رواحه قال لصاحب
له : " تعال حتى نؤمن ساعة " قال أو لسنا مؤمنين ؟ قال : " بلى ولكنا نذكر الله
فنزداد إيماناً "
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى : " كان الصحابة رضي الله عنه يجتمعون أحياناً :
يأمرون أحدهم يقرأ والباقون يستمعون . وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : يا أبا موسى
ذكرنا ربنا فيقرأ وهم يستمعون "
ولأن العبد في مجالس الذكر يسمع ما يحثه على طاعة غفل عنها وما يذكره في معصية
وقع فيها لينتهي .
- ويدخل تحت هذا السبب سبب آخر من مقويات الإيمان وهو مصاحبة الأخيار ، وتقدم
نماذج للصحابة في ذلك
ويدل عليه : قول الله تعالى : {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ
رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ
عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ
أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ
فُرُطًا} الكهف: ٢٨ ، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " المرء على دين خليله
، فلينظر أحدكم من يخالل " رواه أحمد و أبو داود والترمذي ، و الحديث صححه
الحاكم ، وصحح إسناده النووي
قال المباركفوري : " (على دين خليله ) أي على عادة صاحبه وطريقته وسيرته (
فلينظر ) أي فليتأمل وليتدبر ( من يخالل ) من المخالة وهي المصادقة والإخاء ،
فمن رضي دينه وخلقه خالَلَه ومن لا تجنبه ، فإن الطباع سراقة والصحبة مؤثرة في
إصلاح الحال وإفساده . قال الغزالي : مجالسة الحريص ومخالطته تحرك الحرص
ومجالسة الزاهد ومخاللته تزهد في الدنيا لأن الطباع مجبولة على التشبه
والاقتداء " [ انظر تحفه الأحوذي كتاب الزهد ]
قال الشاعر :
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه --- فكل قرين بالمقارن يقتدي
وقال آخر :
فصاحب تقياً عالماً تنتفع بـه --- فصحبة أهل الخير ترجى وتطلبُ
وإياك والفسـاق لاتصحبنهم --- فقربهمُ يُعدي وهذا مجَّــربُ
فإنا رأينا المرء يسرق طبعه --- من الألف ثم الشرُ للناس أغلبُ
وفي المثل (الصاحب ساحب ) فصاحب الإيمان يسحبه إلى ما فيه زيادة الإيمان والعكس
بالعكس .
وفي الصحيحين من حديث أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مثل الجليس الصالح والسوء
كحامل المسك ونافخ الكير ، فحامل المسك إما أن يحذيك ، وإما أن تبتاع منه ،
وإما أن تجد منه ريحاً طيبة ، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما تجد ريحاً
خبيثة " ويحذيك أي يعطيك ، والأدلة وأقوال السلف كثيرة في أثر الصحبة الصالحة
في زيادة الإيمان .
ثامناً : البعد عن المعاصي
لا شك أن اقتراف المعاصي سبب في نقصان الإيمان والبعد عنها ومدافعتها سبب
زيادته فمن عقيدة أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،
وإن من طاعة الله تعالى أن يبتعد الإنسان عن المعاصي ، والفتن ، فأي عبد أراد
أن يعيش قلبه سليماً من الأمراض لا تضره الفتن ما دامت السماوات والأرض فليبتعد
عنها ولينكرها .
ويدل عليه : حديث حذيفة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " تعرض الفتن على
القلوب كالحصير عوداً عودا ، فأي قلب أُشربها نكت فيه نكتة سوداء ، وأي قلب
أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين ، على أبيض مثل الصفا فلا تضره
فتنة مادامت السموات والأرض ، والآخر أسود مُرباداً كالكوز مجخيا لا يعرف
معروفاً ولا ينكر منكرا إلا ما أَشرب من هواه " رواه مسلم ، ومرباداً أي
مخلوطاً حمرة بسواد ، كالكوز مجخيا أي كالكأس المنكوس المقلوب الذي إذا انصب
فيه شيء لا يدخل فيه .
قال القاضي عياض : " ليس تشبيهه بالصفا بياناً لبياضه ، لكن صفة أخرى لشدته على
عقد الإيمان وسلامته من الخلل ، وأن الفتن لم تلصق به ولم تؤثر فيه كالصفا وهو
الحجر الأملس " [ انظر شرح مسلم للنووي المجلد الأول كتاب الإيمان ]
وهكذا المؤمن كلما كان من الفتن والمعاصي أبعد كان حفاظه على سلامة قلبه
وازدياد إيمانه أكثر ، وكلما تهاون بالذنوب وتعرض للفتن كلما نقص إيمانه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " غض البصر يورث ثلاث فوائد : حلاوة الإيمان ولذته
، نور القلب والفراسة ... قوة القلب وثباته وشجاعته " [ انظر الفتاوى (10 / 252
)]
قال ابن المبارك :
رأيت الذنوب تميت القلوب --- وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب --- وخير لنفسك عصيانها
تاسعاً : الإكثار من النوافل والطاعات
فكلما أكثر العبد من النوافل نال ثمرات كثيرة منها محبة الله له ومعيته فلا
يصدر من جوارحه إلا ما يرضي الله جل وعلا ، وأيضاً يكون مجاب الدعوة ، وإذا نال
العبد هذه الثمرات زاد إيمانه لأنه نال محبة الله ورضاه عنه مع ما في النوافل
من ثمرات .
ويدل عليه : حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل : " وما
يزال عبدي يقترب إليَّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به
وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني
لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه " فليجتهد العبد ويكثر من النوافل في الصيام
والصلاة والذكر وسائر أعمال البر .
عاشراً : سؤال الله تعالى زيادة الإيمان وتجديده
ويدل عليه : حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه و عبد الله بن عمر رضي الله عنه قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: " إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب ، فا سألوا الله تعالى أن
يجدد الإيمان في قلوبكم " رواه الطبراني عن ابن عمر وقال الهيثمي : " إسناده
حسن " ورواه الحاكم عن ابن عمرو وقال : " رواته ثقات " وأقره الذهبي وحسنه
الألباني في الصحيحة (1585) ، وقوله : " إن الإيمان ليخلق " أي إنه ليبلى ،
فالمؤمن إذا أحس بقسوة في قلبه وفتور ونقص في الإيمان سأل الله تعالى أن يجدد
الإيمان ويزيده في قلبه ، فقد كان السلف يحرصون على هذا الجانب فيسألون الله
عز وجل زيادة الإيمان ، فهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول : " اللهم زدنا إيماناً ويقيناً
وفقهاً " قال الحافظ في الفتح (1/48) " رواه أحمد في الإيمان وإسناده صحيح "
وتقدم قول معاذ لبعض أصحابه : " اجلس بنا نؤمن ساعة " وكذلك قول ابن رواحة لأبي
الدرداء : " تعال نؤمن ساعة " وكان أبو الدرداء يقول : " من فقه العبد أن يعلم
أمزداد هو أو منتقص – أي من الإيمان – وإن من فقه العبد أن يعلم نزغات الشيطان
أنى تأتيه "
ما تقدم من الأسباب العشرة هي من أهم أسباب زيادة الإيمان ، وهناك أسباب أخرى :
كالأمر بالمعروف والنهي عن النكر ، وزيارة القبور ، وتأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ،
والقراءة في سير السلف ، الاهتمام بأعمال القلوب كالخوف والرجاء والمحبة
والتوكل وغيرها ، والدعوة إلى الله تعالى ، والتقلل من الدنيا ومن المباحات
والفضول في الطعام والكلام والنظر ، وتنويع العبادة ، وتذكر منازل الآخرة ،
ومناجاة الله تعالى والانكسار بين يديه ، وتعظيم حرماته ، والولاء والبراء "
وبضد أسباب زيادة الإيمان نعرف أسباب نقصانه ، أسأل الله أن يزيدنا إيماناً
ويجدده في قلوبنا .