|
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد
عام انتهى بخيره وشره ، عام انتهى ومعه انتهى الآلاف من البشر ، وسوف يولد
مثلهم أو أكثر ، أيام من أعمارنا مضت وتمضي فعجلة الحياة تدور ونحن معها
ندور ، ومع إطلالةِ عام ، وذهابِ عام يبرزُ للمتأمل أحداثٌ عظام ، وقضايا
جسام ، يجدرُ بالعاقل الفطن أن يقفُ عندها وقفات ، ويسترجعَ فيها الذكريات
، يجددُ العهد ، ويبرمُ العقد ، ينظرُ في ماضيه وما أحدث فيه ، ويتأملُ في
مستقبله وما عزم أن يفعل فيه 0
ها نحن نودع عاماً ، ونستقبل عاماً ، والسؤال الذي يطرح نفسه ماذا قدمنا في
عامٍ أدبر ، وماذا أعددنا لعام أقبل ، من يجيب على هذا السؤال يستطيع أن
يحاسب نفسه ، عام حوَى بين جنبيه حِكمًا وعِبرًا ، وأحداثًا وعظات ، كم
شقيَ فيه من أناس ، وكم سعد فيه من آخرين ، كم من طفل قد تيتّم ، وكم من
امرأة قد ترمّلت ، وكم من مريض قد تعافى ، وسليم في التراب توارَى ، أهل
بيت يشيعون ميّتهم ، وأهل بيت يزفّون عروسهم ، بيت يفرح بمولود ، وبيت
يُعزَّى بمفقود ، آلام تنقلب أفراحًا ، وأفراح تنقلب أتراحًا ، أيام تمرّ
على أصحابها كالأعوام ، وأعوام تمرّ على أصحابها كالأيام :
مرّت سنون بالوئام وبالهنا --- فكأننا وكأنها أيّــــام
ثُم عقبت أيام ســـوء بعدَها --- فكأننا وكأنها أعـوام
إنّ هذه الدنيا ليست بدار قرار ، كُتِبَ عليها الفناء ،
الركون إليها خطر ، والثقة بها غَرَرٌّ ، كثيرة التغيير ، سريعة التنكير ،
شديدة المكر ، دائمة الغدر ، أمانيها كاذبة ، وآمالها باطلة ، عيشها نكد ،
وصفوها كدَر ، والمرء منها على خطَر ، ما هي إلا أيام معدودة ، وآجال
مكتوبة ، وأنفاس محدودة ، وأعمال مشهودة ، إن أضحكت قليلاً أبكت كثيرًا ،
وإن سرّت أيامًا ساءت أشهرًا وأعوامًا ، وإن متعت قليلاً منعت طويلاً ، وما
حَصّلت للعبد فيها سروراً إلا خبّأت له شروراً ، ولا ملأت بيتاً فرحاً إلا
ملأته ترحاً وحزناً ، قال تعالى ( يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ) ، كم من شخص
بنَا وسكَن غيرُه ، وجمع وأكل وارثه ، وتعب واستراح من بعدَه ، قال أبو
الدرداء يا أهل الشام ما لي أراكم تبنون ما لا تسكنون وتجمعون ما لا
تأكلون ، إن الذين كانوا من قبلكم بنوا مُشَيدًا ، وأمّلوا بعيدًا ، وجمعوا
مثيرًا ، فأصبح أملهم غرورًا وجمعهم ثُبورًا ومساكنهم قبورًا ، قال الشاعر
:
إن للَّـه رجـالاً فطنـــــــا --- طلقوا الدنيا وخافوا
الفتنا
نظروا فيها فلمــا علموا --- أنها ليست لحـيّ وطنــــا
جعلوهـا لجّة واتــخـذوا --- صالِح الأعمال فيها سُفُنا
إننا عندما نستقبلُ عامًا ، ونودعُ عامًا ، فهذا ليس أمرًا
عاديًا ، فالعام الذي مضى هو من أيام أعمارنا ، وذهبَ من سنيّ آجالنا ،
وأصبحنا إلى الموت أقرب منه إلى الحياة , ونحن تفرحنا الأيام إذا ذهبت
لأننا نتطلع إلى الدنيا وزخارفها ، وقد مددنا الآجال ، وسوفنا في الأعمال ،
وبالغنا في الإهمال 0
ذهب عامكم شاهدًا عليكم أو لكم ، فهيئوا زادًا كافيا ، وأعدوا جوابا شافيا
، واستكثروا في أعماركم من الحسنات ، وتداركوا ما مضى من الهفوات ، وبادروا
فرصة الأوقات ، قبل أن يفاجئكم هادم اللذات ، فاغتنم شبابك قبل هرمك ،
وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك ،
فما بعد الدنيا من مستعتَب ، ولا بعد الدنيا دار إلا الجنة ، أو النار،
فاستدرك من العمر ذاهبا ، وقم في الدجى مناديا ، وقف على الباب تائبا ،
وأحسن فيما بقى يغفر ما مضى ، ( قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا
عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ
يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) ، إن
الدنيا ظل زائل ، وسراب راحل ، غناها مصيره إلى فقر ، وفرحها يؤول إلى ترح
، وهيهات أن يدوم بها قرار ، وتلك سنة الله تعالى في خلقه ، أيامٌ يداولها
بين الناس ، ليعلم الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين ، إنما هي منازل ،
فراحل ونازل ، وهي بزينتها وبريقها ونعيمها إنما هي :
أحلامُ نومٍ أو كظل زائلٍ --- إن اللبيب بمثلها لا يخدع
كتبه
محمد فنخور العبدلي