لبس البشت فقها ونظاما

العلاج بالكي في السنة النبوية

كتبه الدكتور عبدالعزيز بن سعد الدغيثر في 21/12/1446هـ

 
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد:

فقد كان العرب يلجؤون إلى العلاج بالكي؛ فأقره النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث جابر قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن كان في شيء من أدويتكم خير ففي شرطة محجم، أو شربة عسل، أو لذعة نار يوافق الداء، وما أحب أن أكتوي»([1]).

وفيه دليل على عدم محبته  - صلى الله عليه وسلم - للكي.

وورد الثناء على تاركه، وأن تركه من تمام التوكل، ففي حديث عمران بن حصين في السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب، " الَّذِينَ لا يَكْتَوُونَ " أخرجه البخار ي (6541) ومسلم (218)، ونص الحديث ما رواه البخاري [5705] عن عمران بن حصين قال: لا رقية إلا من عين أو حمة، فذكرته لسعيد بن جبير فقال: حدثنا ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عرضت علي الأمم، فجعل النبي والنبيان يمرون معهم الرهط، والنبي ليس معه أحد، حتى رفع لي سواد عظيم، قلت: ما هذا؟ أمتي هذه؟ قيل: بل هذا موسى وقومه، قيل: انظر إلى الأفق، فإذا سواد يملأ الأفق، ثم قيل لي: انظر ها هنا وها هنا في آفاق السماء، فإذا سواد قد ملأ الأفق، قيل: هذه أمتك، ويدخل الجنة من هؤلاء سبعون ألفا بغير حساب. ثم دخل ولم يبين لهم، فأفاض القوم، وقالوا: نحن الذين آمنا بالله واتبعنا رسوله، فنحن هم، أو أولادنا الذين ولدوا في الإسلام، فإنا ولدنا في الجاهلية، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فخرج، فقال: هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون. فقال عكاشة بن محصن: أمنهم أنا يا رسول الله؟ قال: نعم. فقام آخر فقال: أمنهم أنا؟ قال: سبقك بها عكاشة.

وروى الترمذي [2055] عن عقار بن المغيرة بن شعبة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من اكتوى أو استرقى فقد برئ من التوكل. ثم قال: هذا حديث حسن صحيح. وصححه ابن حبان

وفي حديث عمران بن حصين رضي الله عنه: أن الملائكة كانت تسلم عليه، لأنه لا يكتوي، فلما اكتوى تركت السلام عليه، فلما ترك الاكتواء عادت تسلم عليه " رواه مسلم (1226).

وورد النهي عن الكي في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: الشِّفَاءُ فِي ثَلاثَةٍ فِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ أَوْ كَيَّةٍ بِنَارٍ وَأَنَا أَنْهَى أُمَّتِي عَنْ الْكَيِّ ) رواه البخاري (5681).

ونظرا لما في الكي من ألم وتشويه للبدن، فقد كرهه صلى الله عليه وسلم، ففي حديث عن عمران بن حصين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «نهى عن الكي فاكتوينا فما أفلحن ولا أنجحن» ([2]) وفي رواية : «فما أفلحنا ولا أنجحنا» ([3]) . فهو آخر الدواء، فإذا زال الداء بسبب أقل ضررا من الكي فهو الأفضل.

ومما يدل على جوازه للحاجة ما ثبت عن أنس «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كوى أسعد بن زرارة من الشوكة ([4]) » ([5]) .

وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالكي كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن قوما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: صاحب لنا يشتكي، أنكويه؟ قال: فسكت. قالوا: أنكويه؟ فسكت، فقال: " اكووه وارضفوه بالرضف رضفا"([6]).

وفي صحيح البخاري [5719] عن أنس أن أبا طلحة وأنس بن النضر كوياه، وكواه أبو طلحة بيده. وقال عباد بن منصور عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس بن مالك قال: أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل بيت من الأنصار أن يرقوا من الحمة والأذن. قال أنس: كويت من ذات الجنب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي، وشهدني أبو طلحة وأنس بن النضر وزيد بن ثابت، وأبو طلحة كواني. اهـ

ورواه البيهقي [19555] عن أنس قال: كويت من ذات الجنب فشهدني أنس بن النضر، وأبو طلحة كواني. اهـ

وروى مالك برقم 3476 أنَّ عَبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ اكتوى من اللَّقْوةِ. ورواه ابن أبي شيبة برقم 25156 والبيهقي برقم 19657. وفي رواية ابن الجعد برقم 2605 والطحاوي برقم 7162 أنه اكتوى من اللقوة في أصل أذنيه. واللقوة شلل يصيب نصف الوجه.

ورواه ابن سعد [4519] عن أنس أن أبا طلحة اكتوى، وكوى أنسا من اللقوة.

وروى ابن أبي شيبة [25159] عن أنس قال: كواني أبو طلحة واكتوى من اللقوة. اهـ

والجمع بين الأحاديث التي فيها نهي عن الكي، وعدم محبته، والثناء على من ترك الكي توكلا على الله تعالى، وبين فعله – صلى الله عليه وسلم – وإذنه للصحابة بالكي، وفعل الصحابة أن النهي عنه يدل على كراهته، وأحاديث فعله تدل على جوازه إذا احتاج إليه.

قال ابن عبد البر: ما أعلم بينهم خلافاً أنهم لا يرون بأساً بالكيِّ عند الحاجة.

وسبب كراهته ما فيه من تعذيب النفس وإيلامها.

إيقاف النزيف بالكي

كان الكي الوسيلة الأنجح لإيقاف النزيف، وهذا لا يدخل في الكي المنهي عنه، وأدلة ذلك ما يأتي:

1)     صح عن جابر قال: «بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أُبي بن كعب طبيبًا فقطع منه عرقًا ثم كواه» ([7]) .

2)    وروى مسلم 2207 عن جابر بن عبد الله قال: رُمِيَ أُبَيٌّ يَومَ الأحْزَابِ علَى أَكْحَلِهِ فَكَوَاهُ رَسولُ اللهِ ﷺ.

3)    وروى مسلم 2208 عن جابر قال: رُمِيَ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ في أَكْحَلِهِ، قالَ: فَحَسَمَهُ النبيُّ ﷺ بيَدِهِ بمِشْقَصٍ، ثُمَّ وَرِمَتْ فَحَسَمَهُ الثَّانِيَةَ. وعنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى سعد بن معاذ لما رمي على أكحله يوم الأحزاب([8]).

 قال عياض في المشارق [1/ 337] في الأكحل: هُوَ عرق مَعْرُوف قَالَ الْخَلِيل هُوَ عرق الْحَيَاة وَيُقَال هُوَ نهر الْحَيَاة فِي كل عُضْو مِنْهُ شُعْبَة لَهُ اسْم على حِدة إِذا قطع من الْيَد لم يرقا الدَّم قَالَ أَبُو الحاتم هُوَ عرق فِي الْيَد وَهُوَ فِي الْفَخْذ النسا وَفِي الظّهْر الْأَبْهَر. اهـ

ويظهر أن الكي لإيقاف النزيف لا يدخل في الكي المنهي عنه لغير حاجة، لكون الكي هو الطريقة الأسرع لإيقاف النزيف وخصوصا في حال الجروح الغائرة وعدم وجود وسيلة أخرى.

هذا ما تيسر جمعه والحمد لله أولا وآخرا.


 

([1]) البخاري (5/2152، 2157) (5359، 5375، 5377) ، مسلم (4/1729) (2205).

([2]) أبو داود (4/5) (3865) ، الترمذي (4/389) (2049) ، ابن ماجه (2/1155) (3490) ، أحمد (4/427، 430، 444، 446) ، وهو عند النسائي في "الكبرى" (4/377) (7602) ، وابن حبان (13/445) (6081) ، والحاكم (4/238). وصححه الترمذي.

([3]) قال ابن القيم - رحمه الله - في زاد المعاد: أحاديث الكي في هذا الباب قد تضمنت أربعة أشياء أحدها: فعله، ثانيها: عدم محبته، ثالثها: الثناء على من تركه، رابعها: النهي عنه، ولا تعارض بحمد الله فإن فعله يدل على جوازه، وعدم محبته لا تدل على المنع منه، والثناء على تاركه يدل على أن تركه أفضل، والنهي عنه إما على سبيل الاختيار من دون علة أو عن النوع الذي لا يحتاج معه إلى كي.

([4])الشوكة : حمرة تعلو الوجه والجسد،.

([5]) الترمذي (4/390) (2050) ، والبيهقي (9/342) ، والحاكم (3/207، 4/462) ، وابن حبان (13/443) (6080) ، وأبي يعلى (6/274) (3582).

([6]) أخرجه النسائي 4/377 والحاكم 4/214،416 وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.

([7]) مسلم (4/1730) (2207).

([8]) رواه مسلم(2208) وأبو داوود(3866).