|
إن عصرنا الحاضر مفعم بالعجائب والغرائب ، وأصبح جم غفير في ميدان الثقافة يلهث
وراء الشهرة ، ويسلك من أجلها منحنيات الدروب ، ومجاهيل الفلوات ، وربما ضحى
بالنفيس من أخلاقه ، وإن خرق ذلك مروءته بل وأمانته ، وهذا الصنف هم على
استعداد كامل للتشغيب على الآخرين في الميادين العلمية ، إذا كان هذا يصب في
صالح الهدف ، بل وبإمكانهم التعمية على القراء إن استطاعوا ذلك ما دامت تفتح
لهم باب الشهرة ولست في حاجة إلى التدليل على ذلك ، لأن أمثلة تأبى على الحصر
تلوح هنا وهناك .
وقبل أيام وقع في يدي كتاب ( النحو المستطاب سؤال وجواب وإعراب ) للدكتور / عبد
الرحمن بن عبد الرحمن شميلة الأهدل ، في طبعة جديدة وحلة مزركشة ( طبع دار ابن
حزم – بعناية مكتبة الإرشاد ) فاستحسنتها ، وبدأت أقلب أوراق الكتاب ، ووقفت
أمام مقدمة حديثة للكاتب ( عبد الرحمن عبد القادر المعلمي ) وإذا بي أقرأ
انتقاده المؤلف في المقدمة ، إذ زعم أنه راجع الكتاب ، ووجد إعرابًا لآية كريمة
تعثر فيها قلم المؤلف وجانبه الصواب ، فرد بزعمه الحق إلى نصابه بعد أن بين خطأ
المؤلف ، ثم غير في الكتاب ، وقيد إعرابه الذي رأى أنه الصواب في المقدمة ثم في
موضعها من الكتاب ثم أردف مستدركًا بأن تصحيحه للمؤلف لا يقلل من أهمية الكتاب
، لأنه اعتقد أن نقده هز قواعد علم الدكتور حين أسدى إليه وإلى القراء معرفة
وهذا نص كلامه في المقدمة قال :
وأشير هنا إلى أمرين :
1- في إعرابه للمثال { نرفع درجات من نشاء } ( الأنعام/83 ) ( ج/1-78 ) قال (
درجات ) مفعول به ، قلت : الصواب أنه مفعول به ثان للفعل ( نرفع ) .
2- قال ( من ) اسم موصول في محل جر .. إلخ ، قلت الصواب في محل نصب مفعول به
أول . اهـ .
قلت : اشتمل استدراكه على مغالطات فكان تصويبه ظاهر الاعوجاج ، وتقويمه للإعراب
وحصره في وجه واحد عين التخبيط ، وهو دليل فاضح على التخليط وذلك للاعتبارات
التالية :
أ- وقبل الخوض في المسائل العلمية أقول : من أذن لهذا المقدم أن يرقم مقدمة
للكتاب إضافة إلى مقدمة المؤلف ، بل ومن أذن له بطبعه بدون ترخيص من أصحاب الحق
المأذون لهم في طبعه وهم ( دار طيبة ) وهبوا يا معشر القراء أن المعلمي هذا لم
يتمكن من الاتصال بالمؤلف ولا بالمأذون لهم بطبعه لأن بينهما وبينه بعد
المشرقين فهلا راجع كلام أهل العلم قبل أن ينتقد ، وعليه لزاما أن يترك التصويب
والتخطئة للمتخصصين وللعلماء الأوائل الراسخين ، لأن هذا بيان لآية كريمة ويرحم
الله صاحب الخلاصة إذ يقول :
وقد تزاد كان في حشوكما **** كـان أصح علم من
تقدما
ب- التصويب الذي قيده عمدا في مقدمة هذه الطبعة
إن كان قصد به وجه الله تعالى وكان مؤهلاً لتصحيح علم الآخرين ، فكان عليه أن
يغير مثلاً موضع الخطأ في مكانه من الكتاب ، وقد فعل لكنه بدون تثبت ، ولا تأهل
كما سيأتي بيانه ثم ليس له أن يعيد ذلك ، ويكرر ، ويتغنى به في المقدمة فهذا
الصنيع يكشف عن رغبته في الشهرة ، ولا تفسير لهذا إلا عشق مقيد تلك الأحرف
للظهور وإن كان في ذلك كسر الظهور بل وإن كان على حساب غمط الآخرين والتعمية
على الطلاب المبتدئين :
والغبن في العلم أشجى محنة علمت **** وأبرح الناس
شجوا عالم ظلما
ج- أما من الناحية العلمية فالأمر أعجب من هذا
وذاك ، وانظروا إلى التعمية واختزال النصوص للوصول إلى الغرض عند المعلمي ، فقد
اعتمد على السمين الحلبى في التصويب بحسب قوله ( ص/29 ) إذ قال : انظر إعراب {
نرفع درجات } في ( الدر المصون / للسمين الحلبى ) فأوهم عفا الله تعالى عنه
أمرين :
أولاً : أن الحلبى اقتصر على هذا الإعراب .
ثانياً : أنه أيضا صوب هذا الإعراب ،
وخطأ ما سواه ، وأنه لا توجد وجوه إعراب إلا الذي ذكره المعلمي ، وهذا كله باطل
، فهذا نص السمين الحلبى ( ت/756 هـ ) رحمه الله تعالى في الدر المصون في علوم
الكتاب المكنون الذي يفضح مغزاه ، ويشير إلى ما يهواه .
( قرأ أهل الكوفة _ يعني عاصما وحمزة والكسائي _ درجات بالتنوين وكذا التي في
يوسف والباقون بالإضافة فيهما ) اهـ
ومعنى هذا أن القراء بإضافة ( درجات ) أكثر عددا من الثلاثة ، فاعتمد المؤلف
قراءة الأكثر ، وهم الأربعة الباقون بقية السبعة وغيرهم ، ولأن هذه القراءة لا
تحوج إلى تقدير ولا تضمين فهي أولى بالذكر ، فهو على الجادة والمنتقد خبط خبط
عشواء ، وركب متن ناقة عمياء .
د- ثم أردف الحلبى قائلاً ( فقراءة الكوفيين يحتمل نصب ( درجات ) فيها من خمسة
أوجه : أحدها : أنها منصوبة على الظرفية ، و ( من ) مفعول ( نرفع ) أي - نرفع
من نشاء مراتب ومنازل ، الثاني : أن ينتصب على أنه مفعول ثان قدم على الأول
وذلك يحتاج إلى تضمين ( نرفع ) معنى فعل يتعدى لاثنين وهو نعطي مثلاً أي - نعطي
من نشاء درجات ) اهـ .
فنلاحظ : أن الحلبى ألمح إلى ضعف هذا الوجه بقوله : وذلك يحتاج إلى تضمين نرفع
.. إلخ ، ورغم هذا استمر المعلمي في لجاجه ، وصمت قلمه عن ذكر الأوجه الأخرى
عند الحلبى .. لماذا ؟! لأنه لو ذكرها لافتضح ، وكان نقده ليس له مكان فلجأ إلى
التمويه والتعمية .
أوردها سعد وسعد مشتمل *** ما هكذا يا سعد تورد
الإبل
هـ ثم ساق الحلبي بقية الوجوه إلى أن قال ( وأما
على قراءة الجماعة – أي بالإضافة – فدرجات مفعول نرفع ) اهـ ، فهو رحمه الله لم
يصوب ولم يخطئ ولكنه ألمح إلى تضعيف إعراب المعلمي ، لاحتياجه إلى تضمين
وتقدير، وفي الوجوه الأخرى غُنية .
وهذا من حيث الصنعة النحوية وإلا فكلها قراءات ثابتة بالتواتر ولهجات سائغة في
كلام العرب ، فقد تواتر عنه صلى الله عليه وسلم بأن القرآن أنزل على سبعة أحرف
.. أي على لهجات عدة ، وليس المراد القراءات السبع ، وبهذا تبين أن المعلمي بتر
النص ، وأخذ بالوجه الضعيف ، ثم بدى له أن يصوبه ويخطئ الوجه الآخر وإن قرأ به
الجماعة في القراءات السبع وغيرها ، كل هذا رغبة في إظهار أنه الراسخ المتمكن
في هذا الفن ، وليس بعد هذا الصلف مرمى ، وشئ آخر وهو أنه لم أر حتى الآن من
وافق الحلبى في إعراب ( درجات ) مفعول ثان ، لذا اضطر إلى التضمين والتقدير
بفعل ينصب مفعولين ، ولا يخفى ما في هذا من التكلف .
و- وفي مشكل إعراب القرآن للقيسي ( ت / 437 هـ ) (1-259) ط مؤسسة الرسالة {
نرفع درجات من نشاء } مَن نوّن ( درجات ) أوقع ( نرفع ) على ( من ) ونصب (
درجات ) على الظرف أو على حذف حرف الجر ، تقديره ( إلى درجات ) كما قال تعالى {
ورفع بعضهم درجات } ومن لم ينون نصب ( درجات ) بـ ( نرفع ) على المفعول به ،
وأضافها إلى ( من ) ومثلها التي في يوسف ) اهـ ، وهذا الذي جرى عليه المؤلف .
وفي البرهان في إعراب القرآن ( 3/176- 177) للخال أحمد ميقري الأهدل رحمه الله
تعالى ( درجات ) بالكسر مفعول به لأنه جمع مؤنث سالم ( من ) بمعنى الذي في محل
جر بالإضافة ، إن قرأنا ( درجات ) بالكسر وفي محل نصب مفعول به ، إن قرأناها
بالتنوين ، و ( درجات ) حينئذ مفعول فيه والتقدير ( نرفع من نشاء رفعه في درجات
أي رتب ) اهـ ، وهكذا إعراب العلماء قديما وحديثا لا تصويب ولا تخطئة ، ولكنها
وجوه إعرابية كلها تخدم القراءات والله أعلم .
ثم إن المعلمي قال إن مدير ( مكتبة الإرشاد ) عهد إليه أن يراجعه ولم يذكر إلا
انتقادا واحدا أخفق فيه ، ولو كان راجعه حقيقة لوجد فيه بعض المواضع تحتاج إلى
تصويب فعلا لسبق قلم ، أو خطأ مطبعي ، أو غير ذلك .
فعلى سبيل المثال قال المؤلف ( ج/1/96) طبع دار طيبة ( امرأتان ) خبر مرفوع
وعلامة رفعه ضم آخره ، والصحيح : وعلامة رفع الألف نيابة عن الضمة لأنه مثنى .
وفي ( ج/1/212 ) ط/دار طبية { إن ربك لسريع العقاب } قال ( رب ) اسم ( إن )
منصوب ، والكاف ضمير متصل في محل نصب اسمها والصواب : في محل جر بالإضافة ،
والمعلمي لم تقع عيناه على الخطأ الحقيقي الذي لو نبه إليه لاستحق الثناء
والأجر ، فَطَبَعَه بدون تصويب ، فشاء الله تعالى أن لا يكون للمعلمي فضل في
التصويب الحقيقي .
ز- وختاما فإن هذا الكتاب كتب له القبول فشرّق وغرّب ، وأنجد وأتهم وطبع أكثر
من اثنتي عشرة طبعة شرعية ، وقرر تدريسه في أقطار عديدة وتلقفه أولو العلم
وأقرّوه ، ولم يحصل منهم عليه نقد ، ولا استدراك وصاحبه قد قال إنه ليس في مأمن
من الخطأ ولا بمنجى من العثار اهـ
وكل من أهل العلم يؤخذ من قوله ويرد ، إلا أن هذا المستدرك تعثر قلمه ، وكبا به
فهمه ، فلم يأت بشيء مفيد ولا برأي سديد ، فحركت من أجل هذا قلمي وبالله تعالى
الاستعانة .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
وكتبه
د. محمد عبد الرحمن شميلة الأهدل
الأستاذ المشارك في جامعة الطائف
21/7/1435هـ