خطبة عشر ذي الحجة…والفرصة العظيمة.

عادل بن عبدالعزيز الجهني


بسم الله الرحمن الرحيم


عباد الله.
تتوالى الأيام، ويدور الزمان، وتُقبل الأيّامُ المباركة لأهل الإسلام ليتزودوا منها بالأعمال الصالحة، ويبادروا إلى مرضات ربهم ليفوزوا بالأجر العظيم.
تدخل بعد أيّام خير أيّام الدنيا، وأعظم مواسم الطاعات، وأنفس اللحظات ليتزوّد منها المؤمنُ الصادق، ويغتنمها العابدُ المخلص، ويفوز المُجدُّ بالأجر المُضاعف.
بين أيدينا أيّها المؤمنون أفضل أيّام الدنيا بمنطوق حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم: (أفضلُ أيامِ الدنيا أيامُ العشْرِ) وهو في صحيح الجامع.
وإنّما اكتسبت أفضليتها وخيّرتها بالأعمال الصالحة التي تُضاعف فيها الحسنات، ويتبارك فيها العمل الصالح، ليكون أعظم أجرًا، وأنفس ذخرًا لصاحبه.
عشرُ ذي الحجة أيّام عظيمة، وموسم كريم لا يعلم قدره إلا المؤمن، ولا يغتنمه إلا الجاد، ولا يحرص عليه إلا الموفق.
ولقد أقسم الله بهذه الأيّام تنويهًا ورفعةً لشأنها لتلتفت إليها النفوسُ، ويظهر فيها الجاد من الكسول، ويتبيّن من خلالها المؤمنُ الصادق ممّن هو دونك.
قال اللهُ تعالى: (وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ)
وعلى الصحيح من أقوال أهل العلم أنها العشر الأوائل من ذي الحجة .
ما ظنكم -يا عباد الله- بأيّامٍ العمل الصالح وإن كان يسيرًا جدًا خيرًا وأعظم أجرًا من الجهاد في سبيل الله، والذي هو ذروة سنام الإسلام.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من أيَّامٍ العملُ الصَّالحُ فيهنَّ أحبُّ إلى اللهِ من هذه الأيَّامِ العشرِ . قالوا: يا رسولَ اللهِ ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ إلَّا رجل خرج بنفسِه ومالِه فلم يرجِعْ من ذلك بشيءٍ" رواه البخاري .
فتسبيحةٌ واحدة أو تحميدة أو تهليلة، أو تلاوة آية، أو ركعتي نافلة، أو صدقة يسيرة أفضل عند الله من الجهاد في سبيله، ومقاتلة الأعداء، ومقارعة السيوف، ولا تقل كيف هذا، لأنّ هذا الفضل من الله، (والثواب لا يدخلها القياس) كما يقول أهل العلم رحمهم الله.
ولأنّ الغاية التي خلقنا من أجلها هي عمارة الأرض بالطاعات، والتقرّب إلى الله بالباقيات الصالحات، فاكتسبت الأيام وليالي العشر الأفضلية من هذه الناحية.
والمؤمنون سيعمرون وقتها هذا الزمان في الطاعات، والباقيات الصالحات.

عباد الله
أنّ الزمان يمضي، والعمر ينقضي، والفرص قد لا تأتي مرة أخرى.
تذكروا هذا الموسم العام الماضي، وكيف كان إقباله علينا مفاجئ لسرعة الأيّام، وتعاقب الزمان، ومضى كلمحة بصر أو أقلّ من ذلك.
تذكروا من أدركه العام، أو قبل العام، ولن يُدركه هذا العام، بل لن يدركوه أبدا، فقد رُهِنوا بأعمالهم تحت أطباق الثرى، وحُبسوا في قبورهم لانتهاء مدة حياتهم.
إنّه إن أدركنا هذا الزمان الفاضل، فهو فرصة كريمة، ومنحة عظيمة من الرحمن حقها أن تُغتنم، وسبيلها أن تُبادر بالأعمال الصالحة.
ومن رحمة الله تعالى بالعباد أن نوّع الأعمال الصالحة لهم حتى لا تملّ النفوس، ويأخذ كل واحدٍ منهم ما يناسبه.
فين يديك المؤمن عبادة الصلاة، وعبادة القيام، وعبادة الصيام والذكر وتلاوة القرآن والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وأمامك برّ الوالدين، وصلة الأرحام، ومعونة العباد، وغيرها من العبادات والقربات والتنوّع في هذا يجعل وقتك كله عبادة.
اعقد العزم على أن تغتنم كل ساعة من ساعات العشر، فساعاتها نفسية، ودقائقها شريفة.
خذ نفسك بالقوة والعزيمة (فالمؤمن القوي خير وأحب الله) وأقرب منه منزلة، وأدنى منه مكانة.
كن جادًا في اغتنام هذا الموسم لا تضيّع منه شيئًا، وكل يوم يمرّ منه، بل كل ساعة حدّث نفسك أنّه قد مضى زمن شريف، لتُبادر في اغتنام بقيته، وهكذا حتى تأتي على جميع العشر، وقد اغتنمتها خير اغتنام.
صلاتك صلاتك، بادر إلى الصلاة في أوّلها.
اعقد العزيمة أن تدرك تكبيرة الإحرام، بل لا يُؤذن المؤذن إلا وأنت مستعد لها، قد قصدت بيتًا من بيوت الله، وبهذا الأمر تنال أجر التبكير، وتصلي ما شاء الله أن تصلي، وتدعو وتقرأ القرآن.
اجعل هذه العشر بداية الالتزام بالسنن الرواتب.
واجعلها بداية المحافظة على صلاة الليل وصلاة الضحى، والإكثار من النوافل المطلقة.
اجتهد أن تصومها كلها أعني تسعة أيّام، فإن عجزت ولا أراك تعجز وأنت تتذكر الأجر.
أمّا إن ضعُفت فصم يومًا وأفطر يومًا، فإن عجزت فصم الاثنين والخميس منها، فإن ضعفت فلا يفوتك صوم يوم عرفة.
املأ هذه الأيّام والليالي بالتلاوة وذكر الله، وتفرّغ لها، وقلّل من الخلطة، وأقبل على نفسك، فتلاوة آية في العشر خير من تلاوتها في العشر الأواخر من رمضان عدا ليلة القدر، وليلة القدر غير معروفة زمانًا بليلة معيّنة أمّا هذه العشر فتلاوة كل ليلة منها أجرها مضاعف، وثوابها لا مثيل له.
اجتهد أن تختم القرآن، ولو مرة واحدة، وإلا فإن من الموفقين من يختمه مرتين وثلاث وربما أكثر من ذلك.
اجعل لسانك فيها رطبًا بذكر الله، فقد جاء الحديث الحث عليه على الخصوص كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من أيَّامٍ أعظمُ عندَ اللهِ ولا أحبُّ إليهِ العملُ فيهنَّ من هذِه الأيَّامِ العشرِ فأكثروا فيهنَّ منَ التَّهليلِ والتَّحميدِ والتسبيح والتَّكبيرِ) أخرجه أحمدُ وغيره.
فحافظ على أذكار الصباح والمساء، والذكر المطلق، وقول لا إله إلا الله مئة مرة، وقول سبحان الله وبحمده مئة مرة، والتسبيح المطلق والتحميد والتكبير والتهليل، اجعل لسانك متعوّدًا على الذكر عسى أن تكون هذه العشر منطلقًا وميقاتًا للتعوّد على هذه العبادة المباركة.
أطلق يدك بالصدقة كل يوم في العشر، ولو بالشيء اليسير كشربة ماء، أو كسرة خبز، فإنّها عند الله تعالى بمكان، وأجرها مضاعف، وثوابها مدّخرٌ لصاحبها.
أيّها المؤمنون لا يفوتكم هذا الموسم، ولا تتكاسلوا عن هذه التجارة، فهي التجارة الرابحة التي لا خسارة فيها البتّة، يقول اللهُ تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ یَتۡلُونَ كِتَـٰبَ ٱللَّهِ وَأَقَامُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُوا۟ مِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ سِرࣰّا وَعَلَانِیَةࣰ یَرۡجُونَ تِجَـٰرَةࣰ لَّن تَبُورَ ۝٢٩ لِیُوَفِّیَهُمۡ أُجُورَهُمۡ وَیَزِیدَهُم مِّن فَضۡلِهِۦۤۚ إِنَّهُۥ غَفُورࣱ شَكُورࣱ ۝٣٠﴾ [فاطر ٢٩-٣٠]
واعلموا رحمني الله وإيّاكم أنّ أعظم ما يعينكم على اغتنام هذه العشر
النية الصالحة، والدُّعاء النية فيه صاحبه، والصحبة الطيبة، وتجديد العزيمة كل يوم، والموفق من وفقه الله وأعانه وسدده.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم…