الحمد لله الكريم التوّاب ، والصلاة والسلام على خير من صلى وأناب ، وبعد /
✍️ فإنّ من أعظم أيام المرء في حياته ( يوم التوبة والإنابة )
فهو أجملُ يوم يمرّ على ذلك التائب منذ ولدته أمّهُ ، بل تلك هي الولادة
الحقيقة التي يصطفي الله لها من شاء من عباده ، فالولادة الطبيعية يشترك
فيها كلُّ بني آدم ، بل حتى الحيوان يشترك فيها ، لكنّ ولادة الروح وعروجها
لملكوت الإنابة لبارئها له شأنه الخاصُّ بها ، فهي الولادة التي تحيا بها
النفس الحياة الحقيقية وتمتدُّ معها لحياة الخلود الأبدي في دار النعيم
المقيم .
🍃 يومُ التوبة يومٌ عظيمٌ لصاحبه يعرف به حق ربه ، ويعترف فيه بحاجته
لرحمته ، ويُظهر ويُحقق فيه فقره لمولاه ( هذا الفقر الذي به غناه ) يعود
بها لحياته التي لأجلها خُلق ، فهو إنّما خُلق ليكون عبداً لله منيباً ،
طائعاً مخبتاً ذليلاً .
🍃 تأمّل يامن لازلت مصِرّاً على الذنوب وعالم الخطايا أي خير فاتك في عمرك
السابق حيث لم تعمره بطاعة ، وفاتك أغلى ما تملك وأضعته في دياجير الظلمات
؟
أعد الذاكرة الأن ( نعم الأن ) فأي فائدة جنيتها من معاقرة المحرمات
وملابسة الخطيئات ؟
أين اللذات المتوهمّة ، هل بقي منها شيء ؟
لقد ذهبت ولم يبق إلا الوزر وخطورته وتبعاته ، وليس بين يديك إلا التوبة
النصوح التي بها النجاة .
🍃 يصبح يوم التوبة خير يوم يمرّ على المرء منذ ولدته أمُّه لأنّ فيه
الإستجابة لنداء الله الذي دعاه لها ،
فاللهُ ينادي عباده بأن يتوبوا لأنّ بها سعادتهم الأبدية وطيب حياتهم
الدنيوية ، فيقول سبحانه :
" قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا
تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ
جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ "
ينادي المسرفين الذين تجاوزوا الحدّ في الذنوب والخطئيات ، فما من ذنب إلا
فعلوها ، وما من خطيئة إلا ارتكبوها ، ومع ذا يناديهم الرحيم بأجمل الأسماء
بقوله : " يَا عِبَادِيَ "
ويرغبهم بقوله : " لَا تَقْنَطُوا "
ويُطمئنهم بقوله : " إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ " .
فمهما عظُم في قلبك ذنب فأيقن أنّ الله يغفره ، ومهما أسرفت على نفسك
بالخطايا فيبقى بابُ التوبة مفتوحاً لك .
عش بقلبك مع هذا النداء الرباني الرحيم :
" يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرتُ لك على ماكان منك ولا أُبالي ،
ياابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أُبالي "
فأي رحمة أعظم من هذه ؟!
وأي عطاء أوسع من هذا العطاء ؟!
🍃 لئن ثبط الشيطانُ العبدَ عن التوبة زمناً ، فأيقنّ أنّ التأخر عنها
زيادةً هو أشدّ عقوبة ، وأسوأ مآلاً .
لا تخف من استهزاء النّاس وسخريتهم فغداً سيقدرونك كلهم ، وهذا واقعٌ
ومجرّب .
ولا تخف من العودة إلى حمأة الذنوب ، فعلاج هذا بإحسان الظنّ بالله ،
فالمنتكسون قلة - ولله الحمد - والثابتون لا حصر لهم .
🍃 لا تترد ولو أذنبت وتبت في اليوم مئة مرة .
فلو تُبت في الصباح ونقضتها في المساء فتُبّ .
ولو تُبت في المساء ونقضتها في الصباح فتُبّ .
فإنّ الله لرحمته بعباده ، وعلمه بضعفهم يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار
، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل .
الضعفُ من طبعنا ، والميل للشهوات من شأننا ، ولو لم نذنب لأماتنا الله
وأتى بقوم آخرين يُذنبون ويذنبون ويستغفرون فيغفر لهم ، ويتوبون فيتوبُ
عليهم ، فجدّد التوبة على الدوام وأيقن برحمة ربك .
⚡️ أضاع الصلاة - وهي أعظم شرائع الإسلام - زمناً طويلاً ، وفرّط فيها
تفريطاً كثيراً ، ولكنّه تاب وندم وعاد إلى رشده فصار من المصلين المحافظين
عليه .
توبته هذه كانت سبباً في نيل رحمة الله ، وتأهله لدخول جنّة عرضها السموات
والأرض التي أُعدت للتائبين ، قال تعالى :
" فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا
الشَّهَوَاتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ
وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ
شَيْئًا " ( سورة مريم - 60 )
⚡️ يرتكب عظائم الأمور من الشرك وقتل النفس بغير حق ويزني ويسرف على نفسه
كثيراً كثيراً .
فيتعدى على حق الله الخاص ( التوحيد ) ويدعو غيره من الآلهة ، و يقتل نفساً
أو أنفساً بغير حق ، ويزني ويتعدى على محارم النّاس ويرتكب جرماً عظيماً
تكاد السموات يتفطرن من شناعته ، وتخرّ الجبال هداً من فظاعته ، ولكنّه
يوماً من الأيام يعود إلى رشده ، ويُقلع عن هذا كله ، ويندم على شنيع فعله
لأنّه لم يرَ فيه إلا الهمّ والغمّ ، فيعود إلى ربه تائباً نادماً ، فكيف
هو صنيع الله معه مع هذه الجرائم ؟
والله لو عفا عنه لكان هذا منه إحساناً ورحمة ليس مثلها رحمة ، ولكن انظر
لرحمة الرحيم ليس فقط يغفرها له ويعفى عنه ويسامحه بل يُبدّلُ سيئاته حسنات
بفضله وجوده .
قال تعالى ؛
" وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا
يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا
يَزْنُونَ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ
الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَن
تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ
سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (سورة
الفرقان - 70 )
ذلك أنّ التوبة محبوبةً إلى الله تعالى ، فإلى متى التأخر وعدم المسارعة
بعد هذا !؟
🍃 أخي ... أخيتي /
⚡️ التوبة : هي الإنابة والرجوع لله بلزوم طاعته إلى يوم الممات .
⚡️ التوبة : هي الدخول إلى عالم السعداء ، والطمأنينة التي ينشدها أفرادُ
العالم أجمع .
⚡️التوبة : هي حياة الراحة ، والتجرد من الحقوق فلا يبقى عليك تبعة تؤلمك ،
أو حقوق تقلقك ، أو مطالب تؤرقك .
⚡️ التوبة : هي العبودية الحقة التي بلغها الكُمّل من البشر ابتداءً
بالأنبياء والصالحين من بعدهم .
⚡️ التوبةُ : فيها التخفّف من الآثار السيئة لها ، فإنّ للذنوب آثاراً لا
يعرفها إلا صاحب الحي القلب ؛
وما لجرح بميتٍ إيلامُ .
⚡️ التوبة : سبباً في نزول البركات والحياة الطيبة ؛
ينالها التائب في الدنيا ، ولئن لقي ألماً وغصصاً في بدايتها فإنّما هو
امتحانٌ وابتلاء ليرى اللهُ صدقه ، وليكون ثباته أعظم بعد هذه الابتلاءات .
⚡️ التوبة : فرصة للفوز بدعوات ملائكة الرحمن ، وهم عبادٌ دعاؤهم أقرب
للإجابة ، وأرجى للقبول .
⚡️ التوبة : منشور الولاية والمحبة من الرحمن وكفى بهذه عطيةً وفضلاً ، قال
تعالى :
" إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ "
ووالله لو لم يكن في التوبة إلا هذا الفضل لكان حرياً بالناصح لنفسه أن
يُسارع إليه ، فكيف وقد جمعت من الفضائل ما لا يحصى .
📍ختاماً /
اعلم أنّ في التوبة من الفضائل أضعاف أضعاف ما ذُكر ، وتذكّر أيها المؤمن
أنّ :
" مِن قِبلِ مغربِ الشَّمسِ بابًا مفتوحًا، عَرضُهُ سبعونَ سنةً، فلا
يَزالُ ذلِكَ البابُ مفتوحًا للتَّوبةِ ، حتَّى تطلعَ الشَّمسُ مِن نحوِهِا
" كما صح بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلنبادر لها قبل
فوات الأوان .
اللهم يسر لنا التوبة ، واجعلنا من المسارعين لها يارحمن .
كتبه حامداً ربه مصلياً على نبيه صلى الله عليه وسلم /
عادل بن عبدالعزيز المحلاوي
١٤٤٢/١/١٥ هجري .