|
🍃 نحتاج في زماننا هذا أن نتذاكر سير الشباب الصالحين الذين لا يخلو
الزمان منهم ، فهذه الأمّةٌ مرحومةٌ ولوودةٌ بالأخيار ، والله يصطفي منهم
من يشاء قال تعالى : " وربُك يخلق ما يشاء ويختار " .
🍃 وأنشر في هذه الأسطر سيرة شاب قضى نحبه غرقاً وهو ( في عمر العشرين )
نحسبه فاز بأجر الشهادة ، ف " الغريق شهيد " بمنطوق رسول الله صلى الله
عليه وسلم.
إنّه الشاب : محمود بن حسين حمزة الفرشوطي من سكان محافظة الوجه .
🍃 وهبه الله من أمور الدنيا ما تطمع بمثله النفوس فهو على وشك التخرج من
الكلية البحرية برتبة ملازم ، ومع ذا لم تغرّه بزينتها وزخارفها ، بل كان
قلبُه معلقاً بالآخرة ، مغتنماً حياته فيما يقرّبه من ربه ( يظهر هذا من
سيرته وحياته القصيرة التي عاشها ) ونحسب أنّ الله حقق له ما أراد من هذه
الميتتة الحسنة ، والذكر الطيب بعد الممات حتى قال بعض قرابته :
( محمود - رحمه الله - ) عمل من الأعمال
الصالحة مع عمره القصير ما يعمله غيره بأضعاف عمره .
🍃 نشأ هذا الشاب نشأة طيبة فقد وُفق لطاعة ربه منذ نعومة أظفاره ، ووُفق -
أيضاً - للبرِّ والإحسان للأقربين والأبعدين ، مع صفاء النفس ، وطيبة القلب
حتى اجتمعت القلوب على حبه ، وتوافقت الألسن على الثناء عليه في حياته وبعد
مماته .
🍃 من أبرز صفات ( محمود - رحمه الله - ) :
حبه للصلاة ومسابقته إليه ، ففي حيه كان الأوّل دخولاً للمسجد ، وفي مسجد
كليته شهد له القادة والطلاب أنّه أسبقهم إليها ، بل اشتهر بتقدمه لصلاة
الفجر حتى صار متميزاً بالمحافظة عليها والتبكير لها .
فهنيئاً لتك الروح الطاهرة ، وياغبطت هذا الحال لهذا الشاب وقد جعل أهمّ
مهماته في الحياة : ( الصلاة ) فطبت
( يا محمود ) حياً وميّتاً .
ابني الشاب /
صلاتك نجاتك ، وهي طريق الحياة الطيبة في الدنيا ، وأعالي الجنان في الآخرة
، فكن خير عابد ، واجعل صلاتك الأمر الأول في حياتك لتنجو وتسعد .
🍃 لم يتوقف حرص ( محمود - رحمه الله - ) على
صلاة الفريضة بل امتد إلى حبه لصلاة النافلة ( وهكذا الحسنات ينادي بعضها
بعضاً ) فقد كان محافظاً على صلاة الوتر فلا يتركها أبداً وهذا من توفيق
الله له .
و يذكر لي أحد قرابته :
أنّهما في رمضان هذا العام كانا في سفر فصليا المغرب والعشاء جمعاً قصراً ،
فلما وصلا المنزل استأذن ( محمود - رحمه الله - )
ليدخل الغرفة ليستريح وأراد أخونا أن يصلي التراويح فلما دخل عليه الغرفة
وجده واقفاً مصلياً في حرص عجيب على صلاة التراويح مع أنّه قادماً من سفر
وتعب ؛ ولكنّه حب الطاعات الذي يهون معه كل تعب ، فلله درك أيّها الفقيد .
🍃 بِرهُ بوالديه عجيباً ، فقد كان باراً بهما ، مطيعاً لهما ، لا يكاد
يرفض لهما طلباً ، بل يشعر بالسعادة أثناء خدمتهما .
وهنا رسالة لكل ابن وبنت ينظران أنّ في خدمة الوالدين مشقة وتعب ، ها هو
البارُّ قد أفضى إلى ربه حاملاً معه هذه المنقبة التي تُعلي مثله في درج
الجِنان ، فدونك هذه الطاعة فلا يسبقك إليها أحد من إخوانك .
🍃 وتبع هذا البِّر صلته لذوي رحمه وخدمتهم وإدخال السرور عليهم ، فتحقق له
من التوفيق من أمور ما يطمع بمثله أقرانه .
فأيقن أيها الشاب :
أنّ التوفيق مقروناً بطاعة الرحمن وبر الوالدين ، ولئن فاتك ما فات من
الدنيا فإنّه لن يفوتك الأجر الأكبر والأبقى في الآخرة .
🍃 كان القرآن له صاحباً ، والتلاوة له نعم الأنيس فلا يتركها أبداً حتى
إنّ كل قرابته ليغبطونه على هذا الخير ، فكان لا ينتهي من ختمة إلا أتبعها
بأخرى ، وأما في رمضان فكانت له عدة ختمات .
فيا من انشغل بأجهزة التواصل وأخذ الجوال والجلسات الفارغة كل وقته ارفق
بنفسك ، واجعل كتاب الله خير رفيق لك ليكون أنيسك في قبرك ويوم نشرك ،
ونحسب أنّه رفيق ( محموداً - رحمه الله - )
في قبره ليحمد عمله ، فاغتنم حياتك فإنّك لن تعيش إلا مرة واحدة .
🍃 يحج ( محمود - رحمه الله - ) وعمره خمسة
عشر عاماً في مبادرة عجيبة لأداء هذا الفرض وهذا من توفيق الله له ، فقلما
يحج أحدٌ في مثل هذا السن ولكنها الرحمة السابقة التي يخص اللهُ بها من شاء
.
🍃 كان ( محموداً - رحمه الله - ) نقي
السريرة ، طاهر الجنان ، ولذا اجتمعت القلوب كل القلوب على حبه ، وسعد به
كل من عاشره ، فلم تُذكر له إساءة لأحد ، وإن ذُكرت فهي من اللمم الذي لا
يسلم منه أحد ، بل كان إذا اخطأ عليه أحد لا يقابل السيئة بالسيئة ، بل في
الغالب يعفو ويصفح ، وهذه لعمر الله خصلة منيفة ترفع صاحبها درجات .
🍃 ( محمود - رحمه الله - ) لم يرزقه الله
إلا بأخت واحدة ، ولسمو خلقه ، وكمال إنسانيته علم أنّها تحتاج إلى من يكون
قريباً منها ، قاضياً لحاجتها ، لطيفاً معها ، حنوناً عليها ، ففاز بأجر
الإحسان وأبقى له الذكر الحسن معها .
🍃 كان مسارعاً للخيرات يظهر هذا بمبادرته لصيام الست من شوال فقد كان من
شدة حرصه يصوم اليوم الثاني من شوال مسابقةً لهذا الفضل .
🍃 أمّا حبه للصدقة ومبادرته لها فعجبٌ من الحال ، فقد وُجِد له كفالة
أيتام وتحويلات لجمعيات خيرية ، فبالله عليك من بمثل سنه يعمل مثل هذه
الخيرات ، فلله دره ، وعند الله ثوابه وأجره .
🍃 ختم الله له بخير وهو في مقتبل عمره بخاتمة - نحسبها حسنة إن شاء الله -
فقد مات غريقاً بعد أن صلى المغرب والعشاء جماعة ، ورسول الله صلى الله
عليه وسلم :
" مَن قال : لا إلهَ إلا اللهُ خُتِمَ له بِها دخل الجنةَ ، و من صامَ
يومًا ابْتغاءَ وجْه اللهِ خُتِمَ له به دخلَ الجنةَ ، ومَن تصدَّقَ بصدقةٍ
ابْتغاءَ وجْهِ اللهِ خُتِمَ له بِها دخل الجنةَ " فكيف وآخر أعماله كانت
الصلاة التي هي أعظم الأعمال قربة !
ومن شواهد حسن الخاتمة له - فيما نحسب - أنّهم وجدوا في ثيابه كرت أذكار
الصباح والمساء التي لا يفوته المحافظة كل يوم .
🍃 الحديث يطول هذا الشاب الصالح - رحمه الله -
ومثل هذه السيرة العطرة تبقى نبراساً لشباب الأمة ليحدوا حدوى هذه القدوات
، وليجتهد كل واحد منهم أن يخرج من الدنيا بمثل هذه الأخبار لتؤنسه في قبره
، ولتكون خير زاد له ليوم التناد .
🍃 واختم مقالتي بتعزية صادقة لوالديه الذَين سجلا صبراً عجيياً على فراقه
خصوصاً أنّه غرق أمام نظر أمه ، وأُخرج أمام أنظار والده وأمّه غريقاً
ولكنّ النّاس حمدا لهما صبرهما لتكون لهما شهادة على رضاهم على قضاء الله ،
فقد كان الذكر والاسترجاع الزاد لهما ، والصبر والرضا شعارهما ليقينهم أنّ
أمر الله نافذ ، ومشيئته ماضية في عباده ، وأعظم ما يسليهما ويربط على
قلوبهما أنّ ابنهما كان صالحاً ، ووفد على كريم يحسنان الظنّ به أنّه
سيُكرم وِفادته وضيافته ، ولسان حالهما :
يا كوكباً ما كانَ أقصرَ عمرَهُ
وكذا تكون كواكبُ الأسحارِ
وهلالَ أيَّامٍ مضى لم يستدرْ
بدراً ولم يُمْهَلْ لوقتِ سِرارِ
جاورتُ أعدائي وجاورَ ربَّهُ
شتَّانَ بين جوارهِ وجوارِ .
عوّضهما ربهما خيراً وجمعهم وأبناءهم جميعاً في مستقر رحمته .
اللهم اغفر لمحمود وأموات المسلمين ، واختم لنا بخير يارحمن .
كتبه المحبّ لأبي محمد /
عادل بن عبدالعزيز المحلاوي
١٤٤١/١١/٢١ هجري
ترجمة المقال