لقد منّ الله عليكم بهذا الفضل ، واصطفاكم بهذا الشرف المنيف ، واختاركم من
بين مليارات البشر لتفِدوا إليه في أعظم المواسم ، وأشرف الأزمان ، وتتمتع
أبصاركم برؤية بيته المطهّر ، فلتمتلىء القلوبُ شكراً ، ولتستحضر نفوسكم
هذه المنّة .
حجاج بيت الله /
لعله تطوف بخواطركم هذه اللحظات شعائر حجكم ، فتتذكرون طوائفكم بالبيت
العتيق مسبحين داعين مبتهلين لمولاكم .
تستحضر نفوسكم حال طوافكم حال المسلمين وهم يتوجهون لهذا البيت المعظّم
وأنتم ليس بينكم وبينه إلا أمتاراً معدودة ، فيالهذه المنّة ما أجلّ قدرها
، وأرفع منزلتها .
تستحضر نفوسكم حال سعيكم بين الصفا والمروة متذكرين سعي أمّكُم هاجر وهي
تسعى جاهدة بحثاً عن ماء رضيعها .
وتستحضرون حال نبيكم عليه الصلاة والسلام وقد رقى على الصفا وقد منّ الله
عليه بالنصر على أعداءه فهللَّ وكبّراً متذكراً حاله يوم كان وحيداً فريداً
محَارباً ، وهاهو اليوم وبين يديه مئة ألف من البشر موحدين ربهم .
تستحضرون يوم عرفة وماأدراك مايوم عرفة !
ذلك اليوم الذي تتذكرون معه منّة الله عليكم وقد وفقكم للوقوف في هذا
المكان المبارك متذكرين دعواتكم الخاشعة ، وابتهالاتكم التي تذللتم بها
ربكم ، وقد اجتمع في قلوبكم حسن الظنّ به لتفيضوا من عرفات وقد اُعتقت
رقابكم من النّار ، وحقق الله لكم الأماني ، واستجاب لكم الدعوات .
تستحضرون - في هذه اللحظات - ساعة المبيت في المزدلفة في خير مبيت لنائم .
فكم من خلائق عن أيمانكم وشمائلكم وبين أيديكم يباتون كيوم ولدتهم أمهاتُهم
طاهرين من الذنوب والخطايا ، فلله ما أعظم هذا الفضل لهذه النفوس الطاهرة .
ثمّ أصبحتم في يوم النحر مسبحين ذاكرين داعين شاكرين ربهم في خير يوم طلعت
عليه شمس الدنيا ، وقد حملتكم أقدامكم لرمي الجمار متحللين من حجكم محلقين
رؤوسكم ومقصرين .
فلله درّ نفوس تفِدُ إلى بيته صبيحة هذا اليوم طائفين خاشعين لربهم قد
امتلأت قلوبهم شكراً وامتناناً لربهم ، وقد قضوا تفثهم ووفوا نذورهم ، فكم
لله في هذه الساعات من فضل على هؤلاء الطائفين .
وهاأنتم تتذكرون أيام التشريق وقد فرحت النفوس بفضل ربها عليها ، فذكرتَ
وسبّحتَ وشكرت وأكلت وشربت لا كشرب العالمين ، بل هو شرب وأكل الشاكر
الذاكر في أشرف البقاع ، وقد زادكم الله فضلاً برمي الجمار وجعل لكم فيه
موطناً من مواطن إجابة الدعوات ، فكم لله من فضائل عليكم ، وكم تحيط بكم
نعمة .
ثمّ هاهي ساعات الرحيل تدنو لتودعوا بيت الله الحرام بما منّ الله عليكم من
فضل ومغفرة .
حجاج بيت الله الحرام /
استدامة العمل الصالح ديدن المؤمن ، وسبيل المتقين ، فلتجعلوا من هذا الحج
الإنطلاقة الكبرى لجنّة عرضها السموات والأرض ، ولتجدوا ثواب أعمالكم في
يوم عيد هو من خير الأعيادي .
لنستفيد من حجنا أنّ الدنيا أيام معدوات كما كان الحج كذلك .
لنجعل منه تهذيباً للنفوس وقد حرصتم على ذلك في حجكم فحفظتم الجوارح من كل
ما يفسد حجكم ويؤثر عليه تكميلاً له ، فلتحرصوا على حفظها بقية حياتكم
ارضاءً لربكم ، وطلباً للزلفى لديه .
ليكن الحج انطلاقة للمحافظة على الصلاة بسننها وأركانها وواجباتها ونوافلها
، فالصلاة خير موضوع وهي خير قرباتكم .
ذكر الله على ألسنتكم التي كانت معمورة به اجعلوه ديدنكم فرطبّوا به
ألسنتكم على الدوام فهذه وصية نبيكم عليه الصلاة والسلام ، وأفضل الذكر
تلاوة القرآن الكريم فاجعلوا لكم منه وِرداً دائماً كل يوم لتستقي منه
النفوس ، ويرتوي ظمأها .
عززوا صلتكم بربكم بلزوم الدعاء على الدوام فهو حبل الله المتين ، وكل خير
يُستنزل بالدعاء ، وكل فضل ثَمّ إنّما هو بفضل المنان ربكم .
تقبل الله حجكم وغفر الله ذنبكم وأعادكم لمثله ، وجمعكم وأهليكم في جنّات
النعيم .
كتبه /
عادل بن عبدالعزيز المحلاوي
حملة العمّاري لحج عام ١٤٤٠ هجري .