|
الحمد لله العلي الأعلى ، الملك الحق المبين
، والصلاة والسلام على الهادي الأمين ، الناصح للعباد أجمعين .
أما بعد ، فإنّ الحديث في قضية القضاء والقدر يحتاج إلى تروٍّ وتأمّل وطول
نظر ؛ لأنّها من أعظم القضايا التي شَغَلَت النّاس قديمًا وحديثًا ، وهي
قرينة البحث في الأسماء والصفات كما قرر ذلك ابن تيمية وابن القيم رحمهما
الله في بعض المواضع من كتبهما .
لن أكتب هنا كلامًا عاليًا بلغة المتخصصين من أهل العلم ، ولكن كلامي سيكون
سهلاً يؤدي إلى المقصود - بإذن الله - بلغة يفهمها عامة النّاس ، وتساعدهم
في حل بعض الإشكالات التي تسكن نفوس كثير منهم في هذه القضية وإن لم
يُفصحوا عنها .
ومع أنّ الحاجة قائمةٌ للكتابة في هذا الأمر للنَّاس عامة ، ولفئة الشباب
منهم خاصة ، وقد ازدادت الحاجة إليها في هذا الوقت بالذات ، إلا أنّ
الإحجام عنه والتقصير فيه ظاهر ، ولا تكاد ترى الحديث عن هذه القضية مع
أهميتها إلا في كتب المتخصصين ، أو الأبحاث الأكاديمية التي لا يكاد يطلّع
عليها إلا الأفراد ، وما ذاك إلا لوعورة مسالكه ، وصعوبة الكتابة فيه ،
والخشية من الخطأ ومجانبة الصواب عند الحديث عنه ، أو عدم إيفائه حقه من
التوضيح والتبيين عند تناوله .
ولا أزعم أنّي بما كتبته هنا سأوفيه حقه من البيان ، لكني أستطيع القول إن
الشريعة قد أبانته أشد البيان في نصوص الكتاب والسنة ؛ لأنّه من القضايا
الكبرى .
وإذا كان المرء صافيَ الذهن من إشكاليات القدر ، سالمًا من وساوس الشيطان
فيه ، فليحمد الله ؛ فإنّ هذه عافية ما بعدها عافية ، ونعمة من نعم الله
التي يجب عليه شكرها ، وأمَّا إذا كانت قضية القدر تؤرقه ، ويشعر باضطراب
كبير فيها ، فلا بأس أن يطّلع ويسأل ، ويبحث ويتعلم ؛ حتى يسلم له دينه ،
ويطمئن قلبه ، ويعتقد الاعتقاد السليم في ربه ، ويرضى بأقداره رضا تامًّا ،
تُقبل به نفسه على عبادته بصدر منشرح ويقين تام
.
🌿 ابتداءً
أقول : لقد حذرنا رسولنا من الخوض بلا علم في قضية القدر ؛ لأنّها قضية تضل
فيها الأفهام ، ومن تكلم فيها بلا علم ضل ضلالاً بعيدًا ، فعن ثوبان عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "
إذا ذُكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكر النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر القدر فأمسكوا
"
صححّه الشيخ الألباني في السلسة الصحيحة .
ولذا كانت السلامة عدم الخوض فيها إلا ببرهان جلي ، فالعقل مهما بلغ من
النضج فلن يبلغ كنه حقيقة القدر ؛ لأنّ حكمة الله في شرعه وأقداره لا يمكن
الإحاطة بعشر معشارها ، وعلى المرء ألا يغتر بعقله ، فهو جارحة كسائر
الجوارح ، فكما أنّ العين لها حدٌّ ، وللأذن حدٌ ، ولقوة البدن حدٌ ، فكذلك
العقل له حدٌ لا يمكن أن يتجاوزه .
غير أن هناك إشارات مهمة في قضية القدر أرى أنّها تزيل إشكالات كثيرة متى
ما تعرّف عليها العبد ، ومنها :
🌿 أنّ الأصل
عدم التعمّق في قضية القدر لاستحالة معرفة العقل لكنهه وحقيقته ، ولذا كان
الأسلم فيه التسليم لمحدودية العقل أمام عظَمَة حكمة الله العزيز الحكيم
.
ومن تأمّل في عظمة الله في خلقه وعلمه وتدبير شؤون خلقه ، علم أنه لا يمكن
للبشر أن يُحيطوا بعشر معشار كنه ذلك ، والقدر إنّما هو من أمر الله تعالى
، فأنّى لبشر أن يدُرك أسراره ؟!
ولذا قال علي رضي الله عنه :
( القدر سر الله في خلقه )
وقال أبو حنيفة - رحمه الله - :
( الناظر في القدر كالناظر في شعاع الشمس ،
كلما ازداد نظرًا ازداد حيرة )
والنقول في هذا الباب كثيرة .
قال ابن تيمية - رحمه الله - :
" وقياس أفعاله تعالى
على أفعالنا خطأ ظاهر ....ويكفي ( الناس ) التسليم لمن قد عرفوا حكمته
ورحمته وقدرته ، فمن المعلوم مالو علمه كثير من النّاس لضرهم علمه ، فحكمته
أكبر من العقول ...وهذه المسألة
( مسألة : غايات أفعال الله تعالى ونهاية
حكمته )
لعلها من أجلّ المسائل الإلهية ، وماضلّت القدرية إلا من جهة قياس الله
بخلقه في عدلهم وظلمهم .."
بتصرف يسير من كتاب المنتقى من مناهج
الاعتدال لابن تيمية رحمه الله .
فمن الخطأ البيّن قياس أفعال الله بأفعال خلقه ، فمن فهم هذه المسألة حق
الفهم انحلت عنده كثير من الإشكالات في هذا الباب المهم
.
وإذا كان من شأن ملوك الدنيا ألا يبثوا لرعيتهم أسرار ملكهم ومملكتهم ، وهو
أمر مقبول عند عامّة النّاس ، ولا يطلبه - أصلاً - أحد من الرعية ، ولو
طلبه آحاد النّاس وألحفوا في طلبه لعَدَّ العقلاء ذلك جراءةً منهم وتعديًا
، ولربما عُوقب الطالب وعُدَّ هذا منه تدخلاً غير مقبول في شؤون الملك ،
فإذا كان هذا هو شأن النّاس مع ملِك من ملولك الدنيا ، فكيف الشأن مع الله
وله المثل الأعلى سبحانه ؟!
🌿 الإيمان
الجازم التام بعدل الله وبعده عن الظلم ، فالله ملِكٌ عدل كامل الأوصاف ،
ليس محتاجًا أن يظلم أحدًا ، فهو منزّه عنه ، ولذا يتفضل على بعض خلقه
بالهداية والاستقامة ، ويرزقهم وهو الغني عنهم ، ويعلّمهم ، ويهدي المسلم
والكافر لمصالح دنياهم تفضلاً منه ورحمة ، وهدى ملايين البشر من غير طلب .
وإذا تعارض عندك كيف يكون الله عدلاً ومع هذا يخلق كافرًا ، فارجع إلى
الأصل الأول وهو " أن القدر سر
" وليكتنفه الأصل الثاني وهو "
أنّ الله عدل لا يحتاج أن يظلم أحدًا ولا
يُلجئه العباد لظلمهم " وتابع في
قراءة الأصول التالية :
🌿 أنّ الله
أرسل الرسل ، وأنزل الكتب ، وأقام الحجج على الخلق بما لا يستطيع أحدٌ
إنكاره ، ومع ذلك لم يؤمن كثير من النّاس مع قوة الدلائل التي مع الرسل ،
فالرسل من لدن نوح إلى آخرهم محمد عليهم السلام ومن بعدهم من الدعاة
للإسلام قد بذلوا جهودًا كبيرة لا يستطيع أحدٌ إنكارها ، ومع هذا كان
الإعراض والتكبّر من كثير من البشر في دلالة على كِبر نفوسهم وشدة إعراضهم
، وأمّا من لم تبلغه الدعوة فالله لا يعذبه حتى يبعث إليه رسولاً ، وهذا
كما هو ظاهر من تمام العدل .
🌿 أنّ الله
جعل للعبد حرية الاختيار واتخاذ القرار ، فالمرء يستطيع اختيار طريق
الهداية أو طريق الغواية ، فله الخيار أن يكون مصليًا قانتًا أو عربيدًا
مفسدًا ، فكم من كافر أسلم بعدما تبيّن له الحق ، وكم من ضال اهتدى بعد
الغواية ، في صور ظاهرة تدل على أن للعبد اختيارًا ، ولا ينكر ذلك إلا
مجنون .
🌿 أنّ
المحتجين بالقدر على غوايتهم لا يحتجون به على مصالحهم الدنيوية لحرصهم
عليها ، ويحتجون بالقدر لهوى نفوسهم وضعفها عن الطاعة ، فمع أنّ الله قضى
الهداية والضلالة ، وقضى الرزق والمنع ، والفقر والغنى ، وقضى الصحة والمرض
، وقضى كل شيء على المرء من بداية خلقه إلى وفاته إلا أنّك ترى هذا المحتج
بالقدر حريصًا على مصالح دنياه ، لا يلتفت للقضاء السابق ، بينما تراه
يحتجُّ بالقدر عند الهداية والضلالة ، وعند الطاعة والمعصية ، وهذا لاشك
تناقض ظاهرٌ بيّن في قضية الاحتجاج بالقدر .
🌿 أنّ المحتج
بالقدر يحتج بالقدر له ولا يقبل بالاحتجاج عليه ، فلو أنّ أحدًا سُرق مالُه
، أو تُعدي على عرضه ، أو أُخذ حقه ثم اعتذر الآخذ بالقدر لم يقبله ، ولذلك
قال ابن تيمية في هذا الشأن كلمة توزن بماء الذهب ، قال رحمه الله :
" لو قلنا بالجبر - وأنّ المرء مجبور - لفسد
العالَم "
فهذا يسرق ويحتج بالقدر ،
وهذا يقتل ويحتج بالقدر ،
وهذا يتعدي على الأعراض ويحتج بالقدر ... في سلسلة من المخالفات والتجاوزات
التي تفسد الكون ولا تستقيم معها الحياة .
وهذا لا شك دلالة على فساد هذا المذهب ، وفساد هذه الأقوال
.
🌿 كن عاقلاً
وقدِّر لنفسك الخير .
لماذا لا تُقدِّر أنّ الله قضى لك خيرًا ؟!
لماذا لا تُقدِّر أنّ الله قضى أنّك تكون أعظم مستقيمٍ في زمانه ، وتسعى
لهذا ؟!
لماذا لا تُقدِّر أنّ الله قضى أنّك تكون عالمًا بشرعه ، وتسعى لهذا ؟!
لماذ لا تُقدِّر أنّ الله قضى أنّك تكون أنفع رجل لأمّتك ، وتسعى لهذا ؟!
🌿 الحمد لله
أنّك مسلم :
أتعجَّبُ من مسلمٍ يحتج بالقدر عند المعصية والانحراف وقد منّ الله عليه
بالإسلام عطاءً منه ورحمة وتفضلاً ، في حين أنّ المليارات من البشر قد
خُلِقوا كُفَّارًا ضُلاَّلاً ، فمنّة الله عليه بالإسلام توجب عليه أن يحمد
اللهَ على هذا القدر ، ويُكمل المنّة بالاستقامة على أمر الله
.
🌿 لا تغامر
وكن عاقلاً :
بعض النّاس يحتج بالقدر في أعظم مصير يلقاه الإنسان ، فيقتحم المعاصي
محتجًّا بحجة غير مقبولة عند الله - كما تقررّ بالكتاب والسُنّة - فلا
تغامر بالاحتجاج بالقدر وتفعل الذنوب التي ربما أوجبت لك دخول النّار ، بل
ربما أوجبت دخولها دخولاً أبديًّا .
وتذكر أنّ القرآن قد أبان عن اعتراف أهل النّار باستحقاقهم لدخول النّار
لأنهم لم يعقلوا "
وقالوا لو كنّا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب
السعير..."
🌿 الضلال
إنّما هو بسبب الذنوب :
قد قرر القرآن هذه القضية المهمة في مواضع كثيرة لتجليتها ، وأبان أنّه ما
ضل مَن ضل إلا بسبب ذنبه ، وأنّ ضلاله إنّما هو عقوبة استحقها ، وأنّه
بُيّن له الطريق ووضحت له المحجة ، ولكنّه أبى إلا الغواية فاستحق العذاب
قال تعالى :
" والله أركسهم بما كسبوا .."
وقال : " فلمّا
زاغوا أزاغ الله قلوبهم .."
وقال : "
ونقّلب أفئدتهم كما لم يؤمنوا به ..."
والآيات في هذا المعنى كثيرة .
أخيرًا،،،
نعلم جميعًا أنّه لا أغلى على المرء من نفسه التي بين جنبيه ، وقد تقدّم أن
الاحتجاج بالقدر لا ينفع صاحبه ، وأنّ الله لا يظلم أحدًا ، وأنّ المصير
للعاصين مُخوِّف ، فهي نار محرقة مؤلمة وهذا أمر لا يمكن لعاقل أن يقحم
نفسه فيه .
فاستقم على شرع الله ، الذي سهّل لك الطريق ولم يطلب منك إلا اليسير ،
واعلم أنّ الدنيا قصيرة ، والمآل في الآخرة أبديٌّ طويل جدًّا ، واستعن
بالله ولا تعجز ، والزم الدعاء فهو سبيل كل خير
.
وفقني الله وإياك وهدانا ورحمنا برحمته الواسعة
.
كتبه
/
عادل بن عبدالعزيز المحلاوي
١٤٤٠/١٠/٢٣
هجري