الاختلاف بين البشر سُنّة باقية ، هكذا قضى
اللهُ -عز وجل - وهو القائل :
" ... ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربُك
" ولا تعني معرفة ذلك الاستسلام له ، وإنّما
المقصود التقرير والبيان ، فهو كحقيقة وجود الكفر والإسلام، لا تعني الاستسلام للكفر وقبوله ، ولكنها
توجب سعي من هو واقع فيه للخروج منه ، وكذلك الخلاف ، حتميته لا تعني أن
يكون المرء من أهله ، بل توجب عليه أن يسعى جهدهللبعد عنه ، وإن حصل خلافٌ بينه وبين أحد إخوانه أن يعرف
كيف يتعامل حينها وُفْق الشريعة الغراء .
ولن أتناول موضوع الخلاف برمته ، فهو متشعب
الأطراف ، ولكني سأذكر نقطة مهمة أرى أنّها جوهرٌ في الموضوع ، ومن تعامل
معها بديانة وعقلانية وواقعية ، تجلت له الحقيقة ، وقلّ في حياته الخلاف
وضاق ، واستطاع أن يقصّر مدته ، وأن يتعامل معه كلما حصل بما يقلل نتائجه
السيئة .
هذه النقطة الجوهرية هي :
(ادّعاء كل طرف أنّه مظلوم وأنّ الحق معه)
وهذه من أكبر الأخطاء ، وأشد العوائق في طريق
الصلح . وابحث في مشاكل النّاس ستجد هذا الأمر بيّنًا
ظاهرًا ، فكل طرف يدّعي أنّه المظلوم ، وأنّه المُفترى عليه ، والمُقصَّر
في حقه . واستحضر معي هاتين الصورتين المتقابلتين
:
الأولى : رجلان تخاصما وكل واحد منهم يدّعي أنّه مظلوم
وأنّه قد أخطئ في حقه ، وأنّه قد تُعُدِّي عليه ، والثاني يُفكر بالتفكير
نفسه . فأنى لهما أن يصطلحا ، وكيف السبيل لردم
الخلاف بينهما ؟ والنتيجة الحتمية لحالهما : هجران للأبد أو على أقل تقدير امتداد
هجرانهما زمنًا طويلاً ، وهذا أمر لا يقرّه الشرع .
والصورة الثانية : رجلان تخاصما وكلاهما أو أحدهما اعترف بخطئه
، أو قال : لعلي أخطأت وقصّرت في حق أخي وأنا لم أشعر ، فهل تتصوّر أن تمتد
هذه الخصومة بينهما ؟!
إنّ وهم (أنّ الحق معي ، وأنّني المجني عليه)
هو السبب الرئيس في كثرة الخصومات وامتدادها زمنًا طويلاً ، وللشيطان دورٌ
كبير في غرزها في نفوس المتخاصمين ، وربما شكاها بعضهم لأصدقائه من قليلي
الفقه فعززها له للأسف الشديد .
يا من يحمل هذا الوهم ، أنت لستَ ملَكًا لا
تخطئ ، ولا رسولاً مَعصومًا ، ولا امرأً مبرأً من العيب ، ولكنك بَشَرٌ
خَطَّاءٌ ، وربما صدر منك تصرفٌ فعلته بغير قصد فكان له أثره السيئ عند
أخيك ... فكما أنَّ أخاك يخطئ فأنتَ تخطئ ، وكما أنّك
تدّعي أنّك صاحب حق فأخوك يدعي هذا ، وكما أنّك تظنّ أنّك مظلوم فهو يظنُّ
هذا ، بل وكما تفهم أنت خطأً فقد يفهم هو بالطريقة نفسها . والشيطان - كما قرر القرآن - يوقع هذه
العداوة ويعززها ، فاحرص ألا يجد في قلبك مرتعًا خصبًا لنزغاته .
والأنكى والأشنع في حال المتخاصمين ، أن يحصل
الاعتذار من أحدهما فلا يقبل الآخر العذر ، بل ولا يكون جوابه إلا : إنّك
لا ترى مني إلا الهجر الأبدي ، والعداوة أبد الدهر لأنّك قد أخطأتَ في حقي
.
أيها المتخاصمان ، ليجلس كل واحد منكما مع
نفسه ، وليكن صادقًا معها ، وليتصوَّرْ - ولو بنسبة يسيرة - أنّه هو المخطئ
، أو أنّه متوهم في تحليله لأحداث الخصومه ، وأنا على يقين أنّ الخصومة لن
تطول إذ ذاك ، وأنّ خصوماتنا مع النّاس ستخف حدتها كثيرًا بإذن الله وتقل، بل وقد لا تكاد توجد أبدًا . أيها المتخاصمان ، الخصومة نكد في الحياة ،
وضيق في الصدر ، وزيادة في الهموم ، وذكر سيئ للمرء في المجتمع ، وصورة غير
حسنة له عند الآخرين ، وتنفيرٌ من الخلق ، وإبعادٌ عن مواطن الرحمة ،
وخسرانٌ للذة كثير من العبادات ، وفقدان للأثر الحسن لأعمال صالحة ، فلا
يوهمكالشيطان أنّك بخصومتك
مرتاح ، وأنّ نفسك مطمئنة ، وأنّ البعد - خصوصًا عن الأقربين ومن تجب صلتهم
- هو العلاج الناجع في الخصومة . لم يأت بهذا نص ، ولا دلّ عليه أثر صحيح ،
بل كل نصوص الشريعة تدل على إحسان الظنّ بالنّاس ، وحمل أقوالهم وأعمالهم
على أحسن المحامل ،وطرد أوهام الشيطان ونزغاته عند
حصول أي موقف منهم ... هذا شأن العقلاء وأهل الديانة الصادقين ، المتبعين
لأوامر الكتاب والسنة ، الداعية للتآلف والتآخي وسلامة الصدر للمسلمين
.