|
من تأمّل آيات القرآن وأحاديث السُنّة في الحث
على العفو ، والدعوة لسلامة الصدر وجدها كثيرة كاثرة ، وبيّنة ظاهرة ، تدل على
سمو هذا الأمر ، ورفعة منزلة أهله ، ووجوب تحلي المسلمين به لِما له من أثر
بيّن في استقرار حياة المسلمين وقوة شوكتهم .
🌿
في آيات آل عمران يأمر الله بالمسارعة للجنّة
بقوله تعالى :
" *وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن
رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ
لِلْمُتَّقِينَ *"
ثم يذكر صفات أهلها بقوله :
" *الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ
وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ* "
وكثيراً ما أقف عند هذه الآيات متعجبًا ، فعندما
يأمر الله بالمسارعة لجنّة عرضها السماوات والأرض ثم تذكر الآيات صفات أهلها
يدور في خلَدك أنّهم قوّام الليل ، صوام الدهر ، المجاهدون الذين لا يتركون
عدوًّا إلا قاتلوه ... ولكنّ الآيات تجيبك أنهم قومٌ صفت قلوبُهم
وسلمت صدورهم لإخوانهم فبلغوا ما بلغوا من منازل الجِنان ،
وذلك لأنّها صفة عزيزة في النّاس ، وصاحبها يحتاج إلى تجرّد وصدق تعامل مع الله
عز وجل .
وحديث صاحب النعلين - مَن بشّر به رسولُ الله
وأنّه وارث جنّة - عجيب جد عجيب - رجل قليل صلاة النافلة قليل الصيام ، ولكنّه
فاز بخير منزل ، وأشرف دار
بـ" سلامة
صدره ، وبعده عن الانتقام "
🌿
أهل العفو والكرامة والإحسان سمت نفوسهم أن
يُقابلوا الخطيئة بالخطيئة ، والسيئة بمثلها ، لمعرفتهم أنّ هذا سهل يفعله كلُّ
أحد لكنّ مقابلة السيئة بالحسنة ، والإساءة بالإحسان خلُق شريف لا تفعله إلا
النفوس الطاهرة التي ترجو بإحسانها الثواب من ربها ، فلذا اتبعوا
شريعة ربهم بالعفو وغض الطرف عن الخطأ فكان هديهم
:
"....**وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ*.*.."
فأكرمهم الله بدخول الجنّة وتحيات الملائكة
الكرام لهم في كل حين " *وَالْمَلَائِكَةُ
يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ
ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ *"
🌿
وفي آيات التنزيل - أيضًا - حث عجيب على العفو ،
وتجريد التعامل مع الله تعالى لأنّه أصدق تعامل ، وأوفى ثواب .
فيدعو الله من كان بينه وبين أحد خصومة أو منازعة
بقوله : " *وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا
ۗ* "
إنّ الأمر بالعفو - هنا - قيل للصديّق رضي الله
عنه بعدما قال أحد قرابته ماقال من اتهام عائشة في عِرضها - وهو أبلغ ما يكون
من الأذى للرجل - ومع ذلك يعفو أبو بكر عنه لأنّه قد تلا قوله تعالى : "
*أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
*"
فقال بلسان حاله ومقاله : بلى ، والله إنا نحب -
يا ربنا - أن تغفر لنا .
عجيب أمر الذين يُصرون على القطيعة ، وهم يقرؤون
ويسمعون :
" *وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا
تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
*"
الله يدعوهم للعفو والصفح ، ويشجعهم بحب المغفرة
، وهم يقولون : لا ، سننتصر لأنفسنا .
🌿
من عجائب ثواب العفو ( *أنّ أجر صاحبه على الله*
) .
وهذا - والله -
يكفي في العفو ، فاللهُ أبهم الأجر تعظيمًا لشأنه
، وتنبيهًا على جلالته .
إذا كان المرء عندما يأتيه كريم صاحب سلطان وقدرة
فيقول له : جائزتك عندي ، وحظوتك لدي ، وأنا ضامن لها ، تقوى طمأنينته وثقته
بهذا الوعد أضعاف أضعاف ما لو وعده به رجل من عامة الناس.
فكيف إذا كان المثيب على عفوه هو الله الجواد
الكريم ، فليذهب عقلُك كل مذهب في تصوّر هذا الأجر ، وليتفكر قلبك في عظيم هذا
الإحسان ، وأيقن أنّه لن يصل لحقيقة أجر العافين عن النّاس لأنه باختصار (
*أجره على الله* )
وأختم لك بهذا الحديث لعله يكون دافعًا لك للعفو
والتجاوز عن كل من قصّر في حقك .
فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : " *ألا
أخبركم بمن تحرم عليه النار*؟ , , قالوا : بلى يا رسول الله ،
قال : " *كل
هيّن ، لين ، قريب ، سهل* "
فاختر - أيها المخاصِم - أي طريق شئتَ ؛ إمّا
اللين أو القسوة ، وإمّا السهولة أو الفظاظة والغلظة .
وفقني الله وإياك لسلامة القلب ، وحب العفو
.
كتبه / عادل بن عبدالعزيز المحلاوي
صبيحة الرابع من عيد الفطر
لعام ألف وأربع مئة أربعين من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل صلاة وأزكى سلام