الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد :
فقد اطلعت على ما كتبه المسمى بـ ( عبدالرحمن الأديب ) من مقالٍ مشينٍ في موقع
الساحة الإسلامية تحت عنوان : (تناقضات عقائد مشبهة الحنابلة التيميين انظر كيف
يرد عليهم ابن الجوزي ) ، ونقل فيه عن ابن الجوزي الحنبلي من كتابه " دفع شبه
التشبيه !! " ومن المؤسف أن الكاتب زيادة على فساد ديانته فسدت أمانته وسلب
بركة العلم !! ، فقد نقل كلام ابن الجوزي وتعليقات حسن السقاف في تحقيقه لهذا
الكتاب بالنص ، ولم يذكر ذلك !! .
فأين الأمانة ؟! .
وصاحب المقالة الحق لا يستحي من نسبتها إلى صاحبها وإن سخط من سخط!.
ومع ذلك فأقول :
إن ابن الجوزي الحنبلي – عفا الله عنه – قد سلك في الصفات مسلكاً متخبطاً حتى
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( إنه لم يثبت على قدم ! ) .
وهذا واقع ، فمن تتبع كتبه وجد هذا التناقض واضحاً جليا ، ومع ذلك فقد نصّ غير
واحد على انحرافه العقدي في مسائل الصفات ، ومن نظر في أشهر كتبه فضلاً عن
أقلها شهرة ظهر له ذلك جلياً ، ومن أقربها وأكثرها تداولاً بين الناس كتاب "
صيد الخاطر " وفيه من الانحرافات في هذا الباب وغيره العجائب ، وقد رددت عليه
ولله الحمد في كتابٍ مفرد سميته " الصيّب الماطر " يسر الله طباعته ونشره .
فقد سلك في كتابه مسلك الجهمية في نفي الصفات ، وشنّع بغليظ القول على أهل
السنة - عامة وعلى ابن عبدالبر خاصة - في مسائل الصفات عامة وفي مسألة النزول
خاصة .
وكتابه " دفع شبه التشبيه " يكشف بكل وضوح عقيدته ! .
قال الإمام الموفق المقدسي ابن قدامة : ( ..كان حافظاً للحديث وصنّف فيه إلاّ
أننا لم نرضَ تصانيفه في السنة ، ولا طريقته فيها ..) [ ذيل طبقات الحنابلة : 3
/ 415 ] .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (4/169 ) : ( متناقض في هذا الباب لم يثبت على قدم
النفي ولا على قدم الإثبات !! ) .
وقال ابن رجب : ( ومن اجله – أي التأويل – نقم عليه جماعة من مشايخ أصحابنا
وأئمتهم ميله إلى التأويل في بعض كلامه .... ولا ريب أن كلامه في ذلك مضطرب
مختلف ) [ ذيل الطبقات : 3 / 414 ] .
وقال عنه سيف الدين ابن المجد : ( سمعت ابن نقطة يقول : قيل لابن خضر : ألا
تجيب عن بعض أوهام ابن الجوزي ؟ ، فقال : إنما ينبع من قلّ غلطه ، فأما هذا ،
فأوهامه كثيرة ... قال سيف الدين : ما رأيت أحداً يعتمد عليه في دينه وعلمه
وعقله راضياً عنه !! ) [ سير الأعلام : 21/382 ] .
وكتب له إسحاق بن أحمد العثلي [ ت: 634هـ ] رسالة طويلة ينكر فيها عليه مقالاته
في الصفات ، ومن ذلك قوله نافياً نسبة تفويض المعاني إلى أهل السنة : ( وزعمت
أن طائفة من أهل السنة والأخيار تلقوها وما فهموا وحاشاهم من ذلك .. ) "[ ذيل
طبقات الحنابلة : 4/205-211 ] .
فلا والله ما ابن الجوزي أدرى بمذهب الإمام أحمد لا في الأصول ولا في الفروع
ولا في الحديث من غيره ممن سبق ذكر بعضهم ، فكيف يكون قوله حجة على السادة
الحنابلة رحمهم الله تعالى ؟! .
وما حاول أن ينسبه ابن الجوزي إلى الإمام أحمد من عقيدة التأويل والتفويض ، كذب
مخالف للواقع ، وكتب الإمام أحمد ، ومرويات الناس عنه تخالف هذه العقيدة
الفاسدة ! ، فقد نقل عنه ابنه عبدالله ، وصالح ، والمروذي ، وحنبل ، وجماعة ،
وعنهم الخلال وجماعة ، عقيدة الإمام أحمد في الصفات ، ونصوصه على مخالفة الفرق
المنحرفة ، بل وصنّف في الرد على الجهمية والمؤولة كتابه " الرد على الجهمية "
الذي حاول بعض أهل الجنون والهوس الجهمي تكذيب نسبته إليه وهو ينقل منه منذ
عصره ، ويتسابق أهل الحديث إلى سماعه والشرف بروايته ، ويُذكر في تراجمه ،
وينقل منه ، حتى جاء زمن الكوثري وجنوده فأنكروا نسبته إليه !! .
كما صنف الإمام أحمد " أصول السنة " وقد رواها كاملة اللالكائي في "شرح أصول
اعتقاد أهل السنة " و ابن أبي يعلى في " الطبقات " .
وصنّف عبدالله بن أحمد كتاب " السنة " ونقل عن والده كثيراً .
ولما ختم ابن أبي داود قصيدته الحائية في العقيدة قال : هذا قولي وقول أبي وقول
أحمد بن حنبل .. .
وهي برئية من التعطيل والتفويض والتأويل والتجسيم .
وكذا أبو الحسن الأشعري في " الإبانة " و "رسالة أهل الثغر" نص على عقيدة أهل
السنة وذكر أنها عقيدة الإمام أحمد بن حنبل .
ومحنته في القول بخلق القرآن أكبر دليل براءته من التعطيل ، وإثباته للحرف
والصوت أكبر دليل على إبطاله لعقيدة التفويض والتأويل .
فهذه الدلائل تؤكد براءة الإمام أحمد من مقالة الجهمية والمفوضة والمؤولة، ومن
نسب إليه غير ذلك فليأت بالدليل والبرهان على صحة زعمه ! .
وابن الجوزي قوله ليس بحجة في فروع المذهب فكيف بأصوله ! ، مع تأخره عمن هم
أوثق منها وأقرب منه لعصر الإمام أحمد وأكثر نقلاً لمروياته ممن ذكرت سابقاً
وغيرهم .
وبهذا يظهر فساد قول الكاتب : (بل كان على مذهب السلف الصالح في نفي التجسيم عن
الله تعالى والإقرار بصفاته تعالى الواردة والثابتة عنه مع التفويض والتأويل
فيما يلزم منه ذلك ) .
قلت : وهذه ليس عقيدة الإمام أحمد ، وحاشاه والله من عقيدة الضلال والضلاّل ! ،
أما الإقرار بصفات الله فنعم ، أما أنه يقابلها بالتفويض والتأويل فهذا كذب
وبهتان على الإمام أحمد بن حنبل وإن قال به ابن الجوزي .
أما زعمه أن مذهب التجسيم انتشر في الحنابلة فهذا كذب ، وهم أبعد الناس عن
التشبيه والتجسيم ، وهم أكثر المذاهب الأربعة سلامة في أبواب الصفات لمقام إمام
المذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ، وموقفه الصريح الواضح ، وما حصل
في فتنة القول بخلق القرآن .
ولا شك أن هذا الأديب !! ومن سرق منه هذه المقالة لا يريد بالتجسيم إلاّ :
إثبات الصفات على الوجه اللائق به سبحانه ، فهذه عادة أهل التعطيل والتأويل مع
أهل السنة كما نصّ على ذلك الإمامان أبو حاتم الرازي وأبو زرعة الرازي في "
عقيدتهما " وغير واحد ، لأن عطنهم ضاق عن قبول عقيدة أهل السنة ، وظنوا أن
الإثبات تشبيها ، ففزعوا إلى التعطيل ، وألزموا المثبت بالتجسيم!! ، فهربوا من
ضلالٍ إلى ضلال !! ، و وصفوا الحق بالضلال ! ، فأنّى يؤتى لهم الحق ؟! .
وعقيدة التفويض التي يَنْسب – هذا الكاتب - الإمام أحمد إليها وهو- والذي لا
إله إلا هو - كاذب في دعواه : من أخبث العقائد وأبشعها وإن جاءت تحت ستار (
الحكمة والسلامة !! ) ، وأهل التفويض هم أهل التجهيل حقيقة لما يترتب عليه أن
الله تعالى تكلم بكلامٍ مجهول ( المعنى ! ) .
والنبي صلى الله عليه وسلم حمل كلاماً ( لا يدري ما معناه ) !!! .
والصحابة نقلوا كلاماً ليس له ( معنى !! ) ، وإنما مجرد حروف متراكبة تقول (
بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَان)(المائدة: 64) ، وتقول : ( قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا
مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ
مِنَ الْعَالِينَ) (صّ:75) ، وتقول : (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش)(الأعراف:
54) .
فلا يدري نبينا صلى الله عليه وسلم ولا صحابته الكرام – على حد زعم هؤلاء
الأفّاكين - ( معنى ) اليد ، ولا ( معنى ) الاستواء ، وإنما يتلون هذه الآيات
تبركاً بعدد الحروف !! ، وهذا من أبطل الباطل .
كيف لا وهو من أجسر التطاول على الكتاب الذي وصفه الله بالهدى والبيان والنور ،
فأي هدى وبيان ونور فيه إن لم تفهم معانيه ؟! .
بل أكثر آياته تدور على هذا الأصل من التوحيد : توحيد الأسماء والصفات ، ولا
تكاد تخلو آية من اسمٍ من أسماء الله وصفة من صفاته عز وجل ، فهل يقول مسلم :
بأن أكثر القرآن لا معنى له ؟! .
فالمعاني – وكل المعاني – في القرآن الكريم لابدّ من معرفتها بما يفسرها من
القرآن والسنة ولغة العرب وفهم الصحابة وأئمة الدين ، وما أضافه الله تعالى
لنفسه لا يحق لنا أن نسلبه منه ، وإنما نقول مثل ما يقول الله تعالى ، ونؤمن
بما جاء عن الله ورسوله : على ما يريد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ولو
كان فيه مظنة فهمٍ سيئ لكان الله تعالى ، ورسوله صلى الله عليه وسلم أعلم أبعد
عنه ولما لبّس الله تعالى على عباده ، ولا الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته
، مع اتفاق أهل السنة على ( تفويض ) كيفية هذه الصفات ، كما نفوّض كنه ما لا
نعلم ( ماهيته ) من سائر الموجودات ! ، والله أبعد ما يكون عن التصور والتكهن
في تحديد صفاته ، وإن علمنا معناها ، كما أن من المخلوقات الغائبة عن أنظارنا
ما لا نعلم كنهها ، وإن جاءتنا أوصافها ، فنعي الوصف ، ولا نستطيع تحديد الكنه
والكيفية ، والله أعلى وأجل .
ومصيبة الفرق الضالة مع النصوص هو توهم التشبيه بين الخالق والمخلوق! ، فظنوا
أن ( ظواهر ) نصوص الصفات ( يوهم !! ) التشبيه !! .
ولنضرب مثالاً بقول الله تعالى: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً)(النساء:
164) ، ففزعوا ، وفرَقُوا عند ذلك !! ، وانقسموا إلى أربع فرق :
1- فرقة قالت هذا كذب فالله لا يتكلم !! ، فصادموا صريح القرآن ، واستوجبوا
بذلك الكفر والردة !! ، وهم ( أهل التعطيل ) من الجهمية وغيرهم .
2- وفرقة خشيت من مصادمة القرآن ومعارضته ، وأن يلحقهم حكم من قبلهم ! ، فقالوا
( نعم !! : الله يتكلم ! ) ولكن كلامه ليس حقيقياً وإنما هو معنى قائم بالنفس
ليس له حقيقة في الخارج ، وأن الموجود اليوم في المصاحف ، وترتله الألسنة ليس
كلام الله وإنما هو ( حكاية ) عنه أو ( عبارة ) عنه !! ، فوقعوا في ( التأويل
الفاسد ) فهم ( أهل التأويل ) من الأشاعرة المريسية ! ، فتظاهروا بقبول ظاهر
نصوص الصفات ثم تطاولوا عليها بالتأويل الفاسد فراراً من التشبيه المتوهم ! .
3- وفرقة لما رأت أن مصادمة القرآن أمر خطير ، وأن التأويل غير منضبط لتعدد
آراء المتأويلين !! ، فزعوا إلى السكوت (السلبي !!) عن حقيقة الإثبات ، وقالوا
لا نعرف معنى هذا الكلام ، بل ولا يُعرف له معنى ! ، وإنما نتلوه تبركاً وطلباً
للأجر ، ومعرفة الإعراب ! ، وأي فائدة غير إثبات الصفات ! .
وهم في الحقيقة ، ومن قبلهم ومن قبلهم : نفاة معطلة لأنهم اتفقوا على ( أمرٍ
جامع ) وهو ( عدم إثبات الصفة الواجبة لله تعالى !!!! ) .
4- وفرقة قابلت هذه الطوائف الثلاث ! ، وقالت بل الله تعالى يتكلم مثلنا ،
ويسمع مثلنا ، ويضحك مثلنا !! ، فوقعوا في التشبيه والتجسيم ، وهم ( أهل
التمثيل ) .
وأهل السنة – ولله الحمد – الحق الذي هم عليه جبل أشمّ بين حضيض أباطيل تلك
الفرق المنحرفة ، صانهم الله ورفعهم ، فلم يجنحوا إلى التعطيل ولا إلى التمثيل
، وإنما هم حق بين باطلين ، قال تعالى : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الشورى: 11) ، فقالوا لمن مثّل الله بخلقه تعالى : (
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) ، وقالوا للمعطل والمؤول والمتجاهل : (وَهُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) ، فيصفون الله تعالى بما وصف به نفسه على وجه الكمال ،
ويعتقدون سلامته من صفات النقائص والعيوب .
أما ما ذكره عن أبي يعلى ، فيقال أولاً : ولماذا أبو يعلى بالذات ؟! .
ألم يكن كلامك عن ( التيميين !! ) فهات من كلام أهل العلم النزهاء العدول فيه
وفي عقيدته النزيهة ! ، أما أبو يعلى الفراء وهو محمد بن الحسين بن محمد بن خلف
البغدادي ابن الفرّاء الحنبلي صاحب " التعليقة الكبرى " في المذهب [ 380هـ -
458هـ ] : فهو من مشاهير الحنابلة ، وممن له الباع الطويل في سائر فنون الشريعة
، وقد خلّف مكتبة متنوعة الفنون أكثرها لم تر الشمس إما لفقدٍ أو نقصٍ أو رهينة
مخازن المخطوطات ، وهو من أهل السنة الأجلاّء ، وممن نافح عن مذهب الإمام أحمد
في أبواب العقائد أشد المنافحة خاصة في مسائل الصفات ، وصنّف في ذلك العديد من
المصنفات من أشهرها كتاب : " إبطال التأويلات لأخبار الصفات " ، ومنها : " كتاب
الصفات " ، ومنها " المعتمد " و : " مختصره " ، وله مجموعة من الردود على :
الجهمية ، والكرامية ، والسالمية المجسمة ، وغيرهم .
وهو في الجملة على طريقة أهل السنة والحديث ، من إثبات الصفات لله عز وجل على
الوجه للائق به سبحانه وتعالى من غير : تعطيل ولا تأويل ولا تفويض ولا تمثيل ،
بيد أنه خلط في بعض الصفات وجنح فيها إلى عقيدة التفويض ! كما نصّ على ذلك ابن
تيمية في " در تعارض النقل والعقل " [7/32-37 ] ، وسبب ذلك قبوله في بعض
الأحيان لبعض الأصول العقلية للنفاة فيجنح إلى التفويض ، وقد أكثر من ذكر
مخالفاته شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – في " درء تعارض العقل
والنقل " .
وأما في الجملة فهو على معتقد أهل السنة والجماعة ، أهل الحديث والأثر، وقد ذكر
بعض عقيدته ابنه في ترجمته من كتاب " طبقات الحنابلة " ، وسوف أنقل منها مواطن
توضح عقيدته ، ومن أراد الاستزادة فليراجع الموطن المشار إليه ، فيقول ابن أبي
يعلى [ 2/207-212 ] : ( فلنذكر الآن البيان عن اعتقاد الوالد السعيد ومن قبله
من السلف الحميد في أخبار الصفات ، فاعلم – زادنا الله وإياك علما ينفعنا به ،
وجعلنا ممن آثر الآيات الصريحة والأحاديث الصحيحة على آراء المتكلمين ، وأهواء
المتكلفين : أن الذي درج عليه صالحوا السلف وانتهجه بعدهم خيار الخلف هو التمسك
بكتاب الله عز وجل واتباع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ثم ما روي عن الصحابة
رضوان الله عليهم ، ثم عن التابعين والخالفين لهم من علماء المسلمين ، والإيمان
والتصديق بما وصف الله تعالى به نفسه ، أو وصفه به رسوله [ صلى الله عليه وسلم
] ، مع ترك البحث والتنقير ، والتسليم لذلك ، من غير تعطيل ، ولا تشبيه ولا
تفسير ولا تأويل ...... فاعتقد الوالد السعيد ... في جميع ما وصف الله تعالى به
نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم : أن جميع صفات الله عز وجل تمرّ كما
جاءت من غير زيادة ولا نقصان ، وأقرّوا بالعجز عن إدراك معرفة حقيقة هذا الشأن
.
اعتقد الوالد السعيد ومن قبله ممن سبقه من الأئمة : أن إثبات صفات الباري
سبحانه : إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد ، لها حقيقة في علمه ، لم يطلع
الباري سبحانه على كنه معرفتها أحداً من إنس ولا جان ... ) إلى آخر ما ذكر من
عقيدة والده وهي عقيدة أهل السنة والجماعة .
وما تفرّح به هذا المسكين من إلزامه لأهل السنة بقول الله تعالى : ( نَسُوا
اللَّهَ فَنَسِيَهُم)(التوبة: 67) ، ونحو هذا ، وزعمه أن أهل السنة لن يخرجوا
من أمرين – مريرين على حد زعمه !! – فإما أن يوافقوا أهل التأويل الفاسد
ويعطلوا هذه الصفة !! فيناقضوا أصلهم في الإثبات !! .
وإما أن يثبتوا أن الله - ينسى ما علم !!! هكذا حسب فهمه تعالى الله عن جهالة
الجاهلين – فيناقضون قول الله تعالى : (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً )(مريم:
من الآية64) .
فيقال : هذا على حد فهمك القاصر ! ، وضعفك في لغة العرب فضلاً عن فقه القرآن
والسنة ! ، وذلك لأن النسيان يطلق في لسان العرب على معنيين:
1- يطلق بمعنى الذهول عن الشيء .
2- وبمعنى الترك على عمد .
وبذلك جاء القرآن الكريم والسنة المطهرة ، وكلام العرب .
ومن المعنى الأول – أي الذهول عن الشيء – قوله تعالى : ( رَبَّنَا لا
تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا)(البقرة: 286) .
وقوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان .. ) ، وهو
عذر يعذر به الشارع ، لا يؤاخذهم الله تعالى عليه لعدم مقدرتهم على دفعه ! .
أما بالمعنى الثاني – أي الترك على عمد – فكقوله تعالى : ( فَلَمَّا نَسُوا مَا
ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ)(الأنعام: 44) قال
ابن عباس : تركوا ما ذكروا به .
وقال تعالى : ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ
نَجِدْ لَهُ عَزْماً) (طـه:115) ، قال ابن عباس رضي الله عنه ومجاهد والحسن :
ترك .
وقال تعالى : ( قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ
الْيَوْمَ تُنْسَى) (طـه:126) ، والمراد : الترك والإعراض فلو أريد بالنسيان
المعنى الأول لما كان عليهم لومٌ فقد عذر الله المكلفين فيما نسوه .
فعلى هذا فالمراد من الآية التي يحتج بها الخصم هو المعنى الثاني وهو الترك ،
أي لما تركوا أمر الله تعالى تركهم الله تعالى وتخلى عنهم ، فنثبت ظاهر الآية
على المعنى المذكور ، والله تعالى أعلم بنفسه من غيره ، كما أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أعلم بربه من غيره ، والله تعالى أضاف النسيان إلى ذاته ، كما
أضافه إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله : ( إن الله تعالى يلقى العبد
فيقول : أفظننت أنك ملاقي ؟ ، فيقول : لا ؟ ، فيقول : فإني أنساك كما نسيتني )
.
وننزه الله تعالى عن صفة النقص والذهول عن المعلوم ، كما أن أمثال هذه الصفات
لا تطلق على الله تعالى إلاّ مقيدة ، فالجزاء من جنس العمل ، فالله يمكر
بالماكرين ، ويخادع المخادعين ، وينسى من نسيه ، مع اعتقادنا المعنى الحق من
هذه الألفاظ كما هو مبيّن في كتب أهل التفسير الأثرية الأصيلة من كلام الصحابة
والتابعين رضي الله عنهم .
واللازم الوارد على أهل السنة – فيما يدعيه الخصم – عوده عليه محقق في وجود
الله تعالى والصفات السبع ! ، فلو سألنا المؤولة عن وجود الله تعالى ما معناه ؟
.
فهم بين أمرين أحلاهما مرٌّ عليهم : فإما أن يقولوا : وجوداً حقيقياً لائقاً به
سبحانه لا يشابه وجود المخلوقين! ، فيقعون في عقيدة من وصموهم بالتجسيم!! .
أو يقولوا : وجوده غير حقيقي !! ، فيقعون في الكفر الأكبر ، وهو ما وقع فيه
الجهمية فصدق الإجماع على كفرهم ! .
والحاصل : أن التطاول على عقيدة أهل السنة والجماعة لا يستنكر ما دام إبليس
حياً !!! ، فهو زعيم أعداء الحق دوماً .
ولكن الحمد يعود لله تعالى دوماً على تمام البيان في كتابه وسنة رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، و وجود العلماء المخلصين من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم
وأجمعين ، وما جئت به من شبهة سبقك بها بشر المريسي الذي حكم العلماء الراسخون
بزندقته وكفره واستحلوا قتله !! ، كما بيّن ذلك الإمام عثمان بن سعيد الدارمي
في " رده على بشر المريسي " .
ومما نحمد الله تعالى عليه أن هذه العقيدة هي المستقرة من عقيدة الإمام أبي
حنيفة ، وعقيدة الأئمة : مالك بن أنس ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، واسحاق بن
راهويه ، والبخاري ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، وعبدالرحمن
الدرامي ، وأبي حاتم الرازي ، وأبي زرعة الرازي ، وغيرهم من نجوم العلم
ومصابيحه ، فليمت الملحدون بغيظهم .