أن تجد إنساناً في مجتمع اليوم يعلن الحرب على السيارة و الطائرة ، أو يكره
الاستفادة من الكهرباء كما يكره أن يقذف في النار ، ويقوم موقفه ذلك على
فلسفة : (أن هذه الأشياء من إنجازات الغرب وهذا الغرب يتنافى معنا ديناً
وأخلاقاً وفي كثير من المبادئ ، فلا يجب علينا أن نتأثر به ...الخ ) فلا
أقول إنه نادر الوجود ، بل يكاد يُعدم رجل سليم يفكر بهذه الطريقة ، ولن
تجد عند عوام الناس من يمتلك هذه العقلية فضلاً عن أن يكون منتسباً للفكر
والثقافة .
تلك العقلية الكليلة التي لم يحالفها الحظ لتقف على الفرق بين إفادةٍ مادية
بحتة في إطار المشترك الإنساني وبين التأثر الفكري وما ينافي الخصوصية ، لم
يحالفها الحظ أيضاً (في صورة الرافض للمنجز المادي) إذ كان رفضه عائقا
حقيقياً أمام مصالح الناس في عاجل معاشهم ، من ثم لم تجد رواجاً بينهم أو
زبوناً منهم يفكر بها ، فأجمعوا على نبذها الذي تستحقه في هذه الصورة ،
وركنوها في زاوية التندر والسخرية ، ولا تظن هذا الإطباق على نبذ هذه
العقلية عائد إلى ذكاء الناس واهتدائهم للفرق ، بل إنّ ما أكد قصورها
وهشاشتها وبطلانها عندهم كونها ضرراً مادياً وخسارة في عاجل معاشهم ، بدليل
: أنك تجد ذات العقلية حينما تلبس ثوباً آخر ، وتصدر في صورة أخرى ، تصطاد
فرائسها من حملة الأقلام ومن ينتسب للفكر والثقافة لا الدهماء فحسب ، فذات
الملازمة بين المشترك الإنساني وبين الخصوصيات الدينية والفكرية ينتهجها
كثير من الكتاب في عواميد الصحف ودهاليز الشبكة ، ليس في صورة الرافض
للمنجز المادي ، وإنما في صورة المورد للمنتجات الفكرية والأخلاقية
والمبادئية ، تحت ذريعة التنمية والتقدم المادي ، ومصلحة التطور الاقتصادي
... الخ ، وحينما يجابه توريده الانهزامي بممانعة واثقة ومستعلية يصيح في
الناس مشوهاً هؤلاء الممانعين : أنهم معيقون للتقدم والتنمية ، كما أنهم
يستفيدون من الغربيين مادياً ، في حين أنهم يرفضونه فكرياً !
وكم قرأنا تلك الحجة الداحضة التي يشهرونها في وجه ممانعي التغريب الفكري :
أنك أيها الممانع لن تجد مكاناً تتعالج فيه إذا مرضت إلا عند هؤلاء
الغربيين ، أو على الأقل تحت طائلة العلوم والتكنولجيا الطبية التي أبدعوها
.
يعني : يا من ترفض نسبية الحق ومذاهب الشك الغربية إياك أن تتعالج عندهم
وأنت ترفضها ، ويامن تكره وتدفع أخلاق الغرب الإباحية إياك أن تركب سيارة
صنعوها وأنت تدفع إباحيتهم ، فما الفرق بين هذه الفلسفة وفلسفة ذلك الرافض
للمنجزات المادية ، الذي يقول : (أن هذه الأشياء من إنجازات الغرب وهذا
الغرب يتنافى معنا ديناً وأخلاقاً وفي كثير من المبادئ ، فلا يجب علينا أن
نتأثر به ) ؟ !
الفلسفة واحدة ، حيث الملازمة التي تجعل المجتمع محصوراً بين خيارين : إما
رفض المادة لرفض التأثر الفكري ، وإما التأثر المادي مع ضريبة التأثر
الفكري ، وكلاهما خياران مجحفان لا يليقان بمجتمع يعتز بأصالته ويفاخر
بقدرته على مواكبة عصره !
وإذا كانت الفلسفة واحدة فإن الفرق يكمن في امتثال الخيارات فحسب ، كما
يكمن من جهة أخرى في أن الخيار الذي اختاره كتاب العواميد قد حقق لهم حاجة
آيديولوجية أو شهوانية.. ، المهم أنها حاجة لم تكدر صفوها إعاقة حقيقية
لمصالح الناس في عاجل معاشهم ، وإن كدرتها إعاقة لمصالح الناس في فكرهم
ودينهم وأخلاقهم إلا أنها لا تنهض لينتج عنها ما ينتج عن معيق مادي ، فتثير
الانتباه وتستدعي التفكير .
وهذه الدركات الموغلة في الغباء والقصور العقلي ( في سبيل النزعة المادية
البهيمية ) تجدها كثيراً في ( المصدر الأصلي ) أعني العقليات الغربية التي
تستيغ الإباحية مثلاً وتجرّم التعدد في آنٍ معاً !