شبابنا ولله الحمد ـ يملكون قلوباً حية ، وعواطفهم تجاه الإسلام وقضاياه قوية
، فقلوبهم تنبض بالخير وتآلفه ، وعواطفهم تفيض بمحبة الإسلام وأهله ، فهذا
دأب شبابنا ، حتى ولو كانوا مقصرين في بعض الأمور .
هذا ومن حق شبابنا علينا أن نعينهم على أنفسهم ، لكي يرتقوا في سلم المجد ،
ويسلكوا سبل المعالي .
والحديث في هذه الزاوية ـ إن شاء الله تعالي ـ سيتناول بعض القضايا التي تهم
الشباب ، وسيتطرق لبعض الأخطاء التي يقعون فيها . وحتى لا يشمل التعميم جميع
الشباب جاء عنوان هذه الزاوية حاملاً مسمى
( بعض الشباب )
ـ وفي كل عدد ـ إن شاء الله سيكون الحديث عن مسألة أو أكثر من المسائل التي
تهم الشباب ، فالله المستعان وعليه التكلان ، فمن الأخطاء التي يقع فيها .
ـ تأجيل التوبة :
فبعض الشباب يدرك خطأه ، ويعلم حرمة ما يقع فيه ، ولكنه يؤجل التوبة أو يسوف
فيها ، فمنهم من يؤخرها إلى ما بعد الزواج ، أو التخرج ، ومنهم من يؤجلها
ريثما تتقدم به السن ، إلى غير ذلك من دواعي التأجيل .
وهذا خطأ عظيم ، لأن التوبة واجبة على الفور ، فأوامر الله ورسوله ـ صلى الله
عليه وسلم ـ على الفور ما لم يقم دليل على جواز تأخيرها بل إن تأخير التوبة
ذنب يجب أن يستغفر منه .
قال الغزالي ـ رحمه الله ـ :
أما وجوبها على الفور فلا يُسْتراب فيه ، إذ معرفة كون المعاصي مهلكات من نفس
الايمان ، وهو واجب .
وقال ابن القيم ـ رحمه الله :
ـ المبادرة إلى التوبة من الذنب فرض على الفور ، ولا يجوز تأخيرها ، فمتى
أخرها عصى بالتأخير فإذا تاب من الذنب بقي عليه توبة أخرى ، وهي توبته من
تأخير التوبة .وقلّ أن تحظر هذه ببال التائب ، بل عنده أنه إذا تاب من الذنب
لم يبق عليه شئ آخر ، وقد بقي عليه التوبة من تأخير التوبة .
أخرج ابن أبي الدنيا ـ رحمه الله ـ
في قصر الامل عن عكرمة ـ رحمه الله ـ في قوله ـ تعالي (( ويقذفون بالغيب من
مكان بعيد )) سبأ 53 قال: (إذا قيل لهم توبوا قالوا : سوف)
فعلى العبد أن يعجل بالتوبة ، لوجوب ذلك ، ولئلا تصير المعاصي دائماً على
قلبه ، وطبعاً لا يقبل المحو ، أو أن تعاجله المنية مصراً على ذنبه ، ثم إن
ترك المبادرة للتوبة مدعاة لصعوبتها وسبب لفعل ذنوب أخرى .
قال النبي صلى الله عليه وسلم ـ
(( إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كانت نكتة سوداءُ في قلبه ، فإذا تاب ، ونزع ،
واستغفر صقل قلبه منها ، وإذا زاد زادت حتى يغلف قلبه ، فذلك الران الذي ذكره
الله في كتابه ( كلابل وان على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) المطففين 14
قال ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ
يا بطاَّل إلى كم تؤخر التوبة وما أنت في التأخير معذور ؟ إلى متى يقال عنك :
مفتون مغرور ؟ يا مسكين ! قد انقضت أشهر الخير وأنت تعد الشهور ، أترى مقبول
أنت أم مطرود ؟ أترى مواصل أنت أم مهجور ؟ أترى تركبُ النجُّبَ غداً أم أنت
على وجهك مجرور؟ أترى من أهل الجحيم أنت أم من أرباب القصور ؟ .
وقال رحمه الله ـ
ما هذه الغفلة وأنتم مستبصرون ؟ ما هذه الرقدة وأنتم مستيقظون ؟ كيف نسيتم
الزاد وأنتم راحلون ؟ كم آب مَنْ قبلكم ألا تتفكرون ؟ أما رأيتم كيف نازلهم
نازل المنون ؟ فلا يستطيعون توصية ولا إلي أهلهم يرجعون .
وبعض الشباب يرغب في التوبة
، ولكنه لا يبادر إليها ، مخافة أن يعاود الذنب مرة أخرى ، وهذا خطأ ، فعلى
العبد أن يتوب إلى الله ، فلربما أدركه الأجل وهو لم ينقض توبته . كما عليه
أن يحسن ظنه بربه ـ جل وعلا ـ وأن يستحضر أنه إذا أقبل على الله اقبل الله
عليه ، وأنه ـ تعالى ـ عند ظن عبده به ، قال النبي صلي الله عليه وسلم ( قال
الله عز وجل : أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه حين يذكرني ) . ثم إن على
التائب إذا عاد إلى الذنب أن يجدد التوبة مرة أخرى وهكذا .
قال النبي صلى الله عليه وسلم
ـ فيما يحكي عن ربه ـ عز وجل ـ قال : أذنب عبد ذنباً فقال : اللهم اغفر لي
ذنبي ، فقال تبارك وتعالى ـ أذنب عبدي ذنباً ، فعلم أن له رباً يغفر الذنب
وياخذ بالذنب ثم عاد فاذنب ، فقال : أيْ ربّ اغفر لي ذنبي ، فقال تبارك
وتعالى ـ اذنب عبتدي ذنبـاً ، فعلم أن لـه ربتاً يـغفر الذنب ، ويأخذ بالذنب
، اعمل ما شئت ، فقد غفرت لك .
ومعنى ذلك ما دمت تبتلى بالذنب فتبادر إلى التوبة منه غفرت لك .
بعض الشباب يغفل عن التوبة
مما لا يعلمه من ذنوبه فلا تخطر بباله هذه التوبة ، فتراه يتوب من الذنوب
التى يعلم أنه قد وقع فيها ، ولا يظن بعد ذلك أن عليه ذنوباً غيرها .
وهذا من الاخطاء التي تقع في باب التوبة ، والتي قل من يتفطن لها ، فهناك
ذنوب خفية ، وهناك ذنوب يجهل العبد أنها ذنوب .
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ
ولا ينجى من هذا إلا توبة عامة مما يعلم من ذنوبه ومما لا يعلم من ذنوبه ،
فإن ما لا يعلمه العبد من ذنوبه أكثر مما يعلمه .
ولا ينفعه في عدم المؤاخذة بها جهله إذا كان متمكناً من العلم ، فإنه عاصٍ
بترك العلم والعمل ، فالمعصية في حقه أشد .
ولهذا قال النبي صلي الله عليه وسلم : ـ الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب
النملة .
فقال أبو بكر : فكيف الخلاص منه يا رسول الله ؟
قال : أن تقول : اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم ، وأستغفرك لما لا
أعلم . فهذا طلب الاستغفار مما يعلمه الله أنه ذنب ، ومما لا يعلمه العبد
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ـ أنه كان يدعو في صلاته : اللهم اغفر لي
ما قدمت ، وما أخرت ، وما أسررت ، وما أعلنت ، وما أنت أعلم به مني ، إنك أنت
المقدم والمؤخر لا إله إلا أنت .
وفي الحديث الآخر : اللهم اغفر لي ذنبي كله ، دقة وجلهَّ ، وأوله وآخره ،
وعلانيته وسره
فهذا التعميم ، وهذا الشمول ، لتأتي التوبة على ماعلمه العبد من ذنوبه ، وما
لم يعلمه .
بعض الشباب تحدثه نفسه بالتوبة
، ولزوم الاستقامة ، ولكنه يخشى لمز بعض الناس ، وعيبهم إياه ، ووصمهم له
بالتشدد والوسوسة ، ونحو ذلك مما يرُمى به بعض من يستقيم على أمر الله ، حيث
يرميه يعض الجهلة بذلك ، فَيُصِرُ عن التوبة ، خوفاً من اللمز والعيب . وهذا
خطا فادح ، إذ كيف يُقَدم خوف الناس على خوف رب الناس ؟ ثم إن ما يرمى به إذا
هو تاب إنما هو ابتلاء وامتحان ، ليمتحن أصادق هو أم كاذب ، فإذا صبر في
بداية الامر هان عليه ما يلقاه ، وإن حسنت توبته ، واستمر على الاستقامة
أجلهَّ من يعيُرَه ، وربما اقتدى به .
أضف إلى ذلك أن الإنسان سيذهب إلى قبره وحيداً ، وسيحشر إلى ربه فرداً ،
فماذا سينفعه فلان أو فلان ممن يثببطونه ؟
وبعض الشباب يترك التوبة
؛ مخافة سقوط المنزلة ، وذهاب الجاه والشهرة : فقد يكون لبعض الشباب منزلة ،
وخطوة ، وجاه عند زملائه المفرطين ، فلا تطاوعه نقسه على إفساد ذلك بالتوبة ،
كما قال أبو نواس لأبي العتاهية ، وقد لامه على تهتكه في المعاصي :
أتراني يا عتاهي *** تاركاً تلك المـــلاهي
أتراني مفسداً بألذ *** سك عند الناس جاهي
ولا ريب أن ذلك نقص في ديانة الإنسان ، وشجاعته، ومروءته ، وعقله .
ثم إن الشهرة والجاه عرض زائل ، وينتهي بنهاية الإنسان ؛ ولن ينفعه إذا هو
قدم على ربه إلا ما قدم من صالح عمله .
ثم إنه إذا ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه ، والعوض من الله أنواع مختلفة
، وأجل ما يُعَوَّض به أن يأنس بالله ، وأن يرزق محبته ـ عز وجل ـ وطمأنينة
القلب بذكره ، ومما يعوضه الله أن يرزقه أصحاباً أبراراً يجد عندهم من المتعة
والفائدة ما لايجده عند أصحابه السابقين .
وبعض الشباب يتمادى في الذنوب
اعتماداً على سعة رحمة رب العالمين ، فتراه يسرف في المعاصي ، فإذا زجر وليم
على ذلك قال : إن الله غفور رحيم ، كما قال أحدهم :
وكَثِّر ما استطعت من الخطايا *** إذا كان القدوم على الكريم
ولا ريب أن هذا الصنيع سفه ، وجهل ، وغرور ، فرحمة الله قريب من المحسنين لا
من المسيئين ، المفرطين المعاندين ، المصرين . ثم إن الله ـ عز وجل ـ مع عفوه
وسعة رحمته ـ شديد العقاب ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين .
قال ـ تعالى ـ:
(نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم ) الحجر 49
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي
دَرْكَ الجنان بها وفوز العابد
ونسيت أن الله أخرج آدماً
منها إلى الدنيا بذنب واحد
ثم أين تعظيم الله في قلب هذا المتمادي ؟ وأين محبته والحياء منه ـ عز وجل ـ
؟
فحسن الظن ـ إذاً ـ ورجاء الرحمة والمغفرة إنما يكون مع انعقاد أسباب النجاة
، وأما على انعقاد أسباب الهلاك فلا يتأتى حسن الظن ، ورجاء الرحمة والمغفرة
.
فحسن الظن ينفع من تاب ، وندم وأقلع ، وبدل السيئة بالحسنة ، واستقبل بقية
عمره بالخير والطاعة ، ثم حَسَّن الظن بعدها ؛ فهذا هو حسن الظن والأول غرور
والله المستعان .
بعض الشباب يغتر بإهمال الله للمسيئين
، فتراه يسرف على نفسه بالمعاصي ، فإذا نصح عنها ، وحُذِّر من عاقبتها قال :
ما بالنا نرى أقواماً قد امتلأت فجاج الأرض بمفاسدهم ، ومباذلهم ، وظلمهم ،
وقتلهم الأنفس بغير الحق ، وأكلهم أموال الناس بالباطل ، وأكلهم الربا وقد
نهوا عنه ، ومع ذلك نراهم وقد درَّت عليهم الأرزاق ، أنسئت لهم الآجال ، وهم
يعيشون في رغد ونعيم بعيد المنال ؟
ولا ريب أن هذا القول لا يصدر إلا من جاهل بالله ، وبسننه ـ عز وجل ـ ويقال
لهذا وأمثاله : رويدك ، رويدك ؛ فالله ـ عز وجل ـ يعطي الدنيا من أحب ، ومن
لا يحب ؛ وهؤلاء المذكورون مُتبَّر ما هم فيه ، وباطل ما كانوا يعملون ؛ فلا
تعجبك أموالهم ولا أولادهم ؛ فما هذا الذي هم فيه من النعيم إلا استدراج ،
وإهمال ، وإملاء من الله ـ عز وجل ـ حتى إذا أخذهم أخذهم أخذ عزيز مقتدر .
قال صلى الله عليه وسلم ـ :
(( إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته )) ثم قرأ قوله تعالى ـ: ((
وكذلك أخذ ربك إذاً أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد )) { هود : 10}
قال عليه الصلاة والسلام ـ :
(( إذا رأيت الله ـ عز وجل ـ يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب ـ فإنما
هو استدراج)) ثم تلا قوله ـ عز وجل ـ : فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم
أبواب كل شيء ، حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ، فقطع
دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين .)) { الانعام 44 ـ45 }
قال ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ
: (( فكل ظالم معاقب في العاجل على ظلمه قبل الآجل ، وكذلك كل مذنب ذنباً ،
وهو معنى قوله ـ تعالى (( من يعمل سوءاً يجز به )) { النساء 133}
وربما رأى العاصي سلامة بدنه ؛ فظن أن لا عقوبة ، وغفلته عما عوقب به عقوبة
)).
وقال :
ـ(( الواجب على العاقل أن يحذر مغبة المعاصي ؛ فإن نارها تحت الرماد ، وربما
تأخرت العقوبة ، وربما جاءت مستعجلة ))
وقال :
(( قد تبغت العقوبات ، وقد يؤخرها الحلم ، والعاقل من إذا فعل خطيئة بادرها
بالتوبة ؛ فكم مغرور بإهمال العصاة لم يهمل )) .
يا من غدا في الغي والتيه **** وغره طول تماديـــــــه
أملى لك الله فبــــــارزته **** ولم تَخَفْ غبَّ معاصيه .
بعض الشباب يقع في اليأس من رحمة الله
عياذاً بالله ـ فمنهم من إذا أسرف على
نفسه بالمعاصي ، أو تاب مرة أو أكثر ثم عاد إلى الذنب مرة أخرى ـ أليس من
التوبة ، وظن أنه ممن كتب عليهم الشقاوة ، فاستمر في الذنوب ، وترك التوبة
إلى غير رجعة .
وهذا ذنب عظيم ، وربما كان أعظم من مجرد الذنب الأول الذي ارتكبه ، لأنه لا
ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ؛ فليجدد التوبة ، وليجاهد نفسه في ذات
الله . وبعض الشباب يحتج بالقدر على معاصيه وذنوبه ، فيحتج بالقدر على ترك
الطاعات ، أو فعل المحرمات ؛ فإذا قيل له على سبيل المثال ـ: لم لا تصلي ؟
قال ما أراد الله ذلك ، وإذا قيل : متى ستتوب؟ قال إذا أراد الله ذلك .
وهذا خطأ وضلال وانحراف ، ذلك أن الإيمان بالقدر لا يمنح العاصي حجة على ما
ترك من الواجبات ، أو ما فعل من المحرمات ، فالاحتجاج بالقدر على هذا النحو
مخاصمة لله ، واحتجاج من العبد على الرب ، وحمل للذنب على الأقدار ، فلا عذر
إذا لأحد البتة في معصية الله ومخالفة أمره مع علمه بذلك وتمكنه من الفعل أو
الترك ، ولو كان له عذر لما استحق العقوبة واللوم لا في الدنيا ولا في الآخرة
.
ولو كان هذا مقبولاً لأمكن كل أحد أن يفعل ما يخطر له من قتل النفوس وأخذ
الأموال وسائر أنواع الفساد ، ويحتج بالقدر .
ونفس المحتج بالقدر إذا اعتدي عليه ، واحتج المعتدي بالقدر ولم يقبل منه ، بل
يتناقض ، وتناقض القول يدل على فساده .
وبالجملة ما لاحتجاج بالقدر يسوغ عند المصائب لا المعائب ، فالسعيد يستغفر من
المعائب ، ويصبر على المصائب .
وبعض الشباب يهجرون الذنوب هجراً
مؤقتاً ، لمرض ، أو مناسبة ، أو عارض
أو خوف ، أو رجاء جاه ، أو خوف سقوطه أو عدم تمكن ، فإذا واتتهم الفرصة رجعوا
إلي ذنوبهم ، فهذه توبة الكذابين وليست بتوبة في الحقيقة .
ولا يدخل في ذلك من تاب فحدثته نفسه بالمعصية ، أو أغواه الشيطان بفعلها ثم
فعلها ، فندم وتاب ؛ فهذه توبة صادقة ، كما لا يدخل فيها الخطرات ما لم تكن
فعلاً متحققاً .
المصدر شبكة الزلفي