الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .. أما بعد :
فإن صحة الأبدان ، وأمن الأوطان ، ورغد العيش هي مقومات الحياة ، ولذا قال
النبي صلى الله عليه وسلم : ( من أصبح
منكم آمناً في سربه ، معافى في بدنه ، عنده قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدنيا
بحذافيرها ) .
[أخرجه الترمذي وابن ماجه وهو حديث حسن]
. بفقدان واحدة من هذه الثلاث يكون عيش
الإنسان منغصاً ولربما تمنى الموت . هذه النعم الثلاث عندما يجدها الإنسان
فإنه لا يحس بمرور الأيام ، وانقضاء الأعوام ؛ فالأيام تمر عليه سريعاً .
كان هذا العام بالأمس مبتدئاً ، وها هو الآن ينتهي ، وكأننا لم نعش أيامه
وشهوره ؛ لكن المرضى والخائفين والجائعين والأسرى والمسجونين ، قد طالت عليهم
أيامه وأبطأت شهوره ، من شدة ما يجدون ويحسون !!
ضرورة المحاسبة :
في آخر أيام هذا العام لا بد من
المحاسبة والمراجعة ؛ فالمؤمن يعلم أن حياته ليست عبثاً ، ويدرك أنه لم يخلق
هملاً ، وهو على يقين أنه لن يترك سدى . وقد يعمل الإنسان في حياته أعمالاً
ثم ينساها ؛ لكنه يوم القيامة سيوفاها كما قال تعالى :
{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا
فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد } [المجادلة:6] .
وقال تعالى : { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ
نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ
تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ
اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ }[
آل عمران:30] . وقال تعالى :{
وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ
نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا
بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ }
[الأنبياء:47] .
إن النعم التي يتقلب الناس فيها ، والصوارف التي تحيط بهم تجعلهم ينسون
الحساب ، ويغفلون عن ذكر يوم المعاد ،
{ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ
فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم
مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ }
[الأنبياء:1،2] .
كيفية المحاسبة :
لا بد أن ينظر الإنسان في عمله ،
ويتأمل حاله كيف قضى عامه ؟ وفيم صرف أوقاته ؟
في عامه الراحل كيف كانت علاقته بربه ؟
هل حافظ على فرائضه ، واجتنب زواجره ؟
هل اتقى الله في بيته ؟
هل راقب الله في عمله وكسبه وفي كل شؤونه وأحيانه ؟
فإنه إن فعل ذلك صار يعبد الله كأنه يراه ، فإن لم يكن يراه فإن الله تعالى
يراه . ومن حاسب نفسه في العاجلة أمن في الآخرة ، ومن ضحك في الدنيا كثيراً
ولم يبك إلا قليلاً يخشى عليه أن يبكي في القيامة كثيراً . كما قال تعالى :{
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً }
[التوبة:82] قال ابن عباس رضي الله عنه : (( الدنيا
قليل فليضحكوا فيها ما شاؤا فإذا انقطعت وصاروا إلى الله تعالى استأنفوا في
بكاء لا ينقطع عنهم أبداً ))
[أخرجه ابن جرير وابن أبي شيبة بإسناد صحيح]
.
وعن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا : قال رسول صلى الله عليه وسلم
: (( يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقال :
ألم أجعل لك سمعاً وبصراً ومالاً وولداً ، وسخرت لك الأنعام والحرث ، وتركتك
ترأس وتربع فكنت تظن أنك ملاقيَّ يومك هذا ؟ فيقول : لا ، قيقول له : اليوم
أنساك كما نسيتني ))
[أخرجه الترمذي بسند صحيح]
وقال : معنى قوله : (اليوم أنساك كما نسيتني) : اليوم أتركك في العذاب .
علاج القلوب قبل علاج الأبدان :
إذا كان مرضى الأبدان يشخصون الداء ،
ولا يزالون في متابعة مستمرة للمرض حتى يقضي عليه ؛ فبطريق الأولى والأحرى
يفعل ذلك مرضى الذنوب والآثام .
إن استصلاح القلوب أهم وآكد من استصلاح الأبدان . وإذا كانت الحياة تنقلب
عذاباً عند فساد الأبدان ؛ فعذاب الآخرة أشد وأنكى لمن فسدت قلوبهم .
إن مجالات الذنوب والمعاصي في هذا الزمن واسعة ، والداعي لها كثير ، وسبل
الطاعة ضيقة ، والداعي لها قليل .فالفتن تلاحق الناس في أسواقهم وأعمالهم ،
وتملأ عليهم بيوتهم ، وتفسد أولادهم ونساءهم ، ولا يزال أهل الباطل يجرون
عباد الله إلى باطلهم وسيستمرون ، فماذا علمنا لدرء الشر عن أنفسنا وبيوتنا
؟!
إن عامنا يمضي وذنوبنا تزداد ، وإن
آخرتنا تقترب ونحن عنها غافلون – إلا
من رحم الله وقليل ما هم!- نمنّ على
الله بالقليل من الطاعات ، ونواجهه بالكبائر والموبقات !! فهل ندرك أننا لا
نزال غافلين ؟!
جاء قوم إلى إبراهيم أدهم رحمه الله
في سنة أمسكت فيها السماء وأجدبت فيها
الأرض فقالوا له : استبطأنا المطر فادع الله لنا . فقال : تستبطئون المطر ،
وأنا استبطئ الحجارة .
آثار الذنوب على الأمة :
بسبب الذنوب والمعاصي ، وإصرار كثير
من العباد عليها : أصبحت أمة الإسلام مائدةً ممدودة لكل طاعم ، وصندوقاً
مفتوحاً لكل آخذ ، وقصة يحكيها كل شامت ، نسوا الله فنسيهم ، وتركوا أمره
فسلط عليهم أعداءهم .
أورثتهم الذنوب ذلاً ومهانة ، سكنت معها القلوب بل ماتت . ألفت العيون دموع
اليتامى ، واعتادت الآذن على أنات الأيامى . ولقد أصبح قتل المسلم الأعزل في
كثير من الأقطار أمراً سهلاً ؛ بل ممتعاً يدعو للفرحة والنزهة من قبل
الكافرين .. ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم .
والمصيبة أنه يصاحب هذا التسلط من الأعداء تفرق المسلمين ؛ وتشتت أمرهم ،
واختلاف كلمتهم ؛ فبعضهم يكره بعضاً ، ويتباغضون أشد من بغضهم لأعدائهم في
كثير من الأقطار والبقاع . فلماذا كل هذا ؟!
إن النظرة المتأنية لأسباب هذا الذل والهوان ، وذلك الاختلاف والافتراق توجد
قناعةً مفاداها أن الذنوب والمعاصي من أهم أسباب ذلك ؛ بل هي السبب الرئيسي
له .
ماذا قدمنا لأمتنا ؟!
إن جميع المسلمين في الأرض لم يرضوا
عن واقعهم المهين ؛ لكن هل تحركوا لتغييره ؟!
كل فرد من الأفراد يتأسف ويأسى لواقع أمته ، ولو تأملت حاله لوجدته سبباً من
أسباب هذا الواقع !!
إن صلاح الأفراد فيه صلاح الأمم ، وإن فسادهم فيه فسادها .. إذا أصلح كل فرد
نفسه ومن هم تحت يده ، ونشر الإصلاح بين الناس على قدر جهده ووسعه صلحت الأمة
بإذن الله تعالى . أما أن يكون كل فرد فاسداً في نفسه مفسداً لمن هم تحت يده
– إلا من رحم الله – ويريد أن تصلح الأمة ، وأن تعتز وتنتصر على أعدائها ؛
فذلك من أبعد المحال ، والله لا يصلح عمل المفسدين .
إن مشكلتنا تتخلص في أننا لا نحس بأننا سبب من أسباب انحدار أمتنا وتخلفها ،
ونتغافل عن كوننا جزءاً من أجزاء الأمة التي نريد صلاحها ، وكل واحد منا يرمي
باللائمة على الغير . ومن المضحك جداً أن نلوم عدوّنا ، ونجعله سبب مشاكلنا ؛
لكي نتنصل من مسؤولياتنا ، ونرتاح من تبعات التحليل والتدقيق ، والمحاسبة
والتقويم ، فهل ندرك ذلك في نهاية عام نودعه وبداية عام نستقبله ؟! ونفقه أن
الأمة لن تصلح وتنتصر حتى يصلح كل فرد من أفرادها نفسه ، وينتصر على أهوائه
وشهواته ؟! نرجو أن ندرك ذلك ونعقله .
وصلى الله على نبينا وعلى
آله وصحبه وسلم .