الحمد لله الذي جعل شهر رمضان موسماً للأجور والأرباح ، والصلاة والسلام على
نبي الهُدى والفلاح ، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم السرور والأفراح
.. أما بعد
*
حديثي إليك – أخي الشاب –
حديث أخ لأخيه ، ومحبٍّ لحبيبه ، وصديق مشفق ناصح لصديقه ، يريد له الخير ،
ويرجوا له الفوز والفلاح .
فأرعني سمعك ، وافتح لكلماتي قلبك ، ولا تنظر إلى عيب الناصح ، بل انظر فيما
يدعوك إليه ، فإن كان خيراً قبلتَه ، وإن كان غير ذلك فلستُ عليك بوكيل .
*
أخي الحبيب
، ماذا أعددت لنفسك في شهر رمضان ؟ ذلك الشهر
العظيم الذي تُفَتَّح فيه أبواب الجنة ، وتُغَلَّقُ أبواب النار ، وتُسَلْسًلُ
الشياطين ، وفيه يعتِقُ الله عباده الصالحين من النار .
*
هل عزمت
فيه على التوبة ؟ وهل قررت العودة والأوبة ؟
وهل نويت
التخلص من جميع المعاصي والمنكرات ، وفتح صفحة جديدة مع ربِّ الأرض والسموات ؟
وهل خططت
لبرنامجك التعبدي اليومي في هذا الشهر ؟
وبماذا
ستستقبل أيامه ولياليه ؟
أسئلة لا بد من الإجابة عليها بكل صدق وأمانة ،ومصارحة للنفس في ذلك حتى لا
يدخل الشهر ويخرج بلا عبادة ولا طاعة ، وتضيع أيامه وساعاته هباء منثوراً .
ابدأ بالتوبة
*
أخي الشاب!
لست أتهمُك بنصيحتي إياك أن تبدأ بالتوبة ، فالتوبة هي بداية الطريق ونهايته ،
وهي المنزلة التي يفتقر إليها السائرون إلى الله في جميع مراحل سفرهم وهجرتهم
إليه سبحانه .
*
فليست التوبة
– إذن – من منازل العصاة والمخلِّطين فحسب كما يظن كثير من الناس فقد قال النبي
صلى الله عليه وسلم – وهو سيد الطائعين وإمام العابدين – (( يا أيها الناس !
توبوا إلى الله ، فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة )) [رواه مسلم].
*
ولما أمر
الله عباده بالتوبة ناداهم باسم الإيمان فقال سبحانه : { وَتُوبُوا إِلَى
اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [
النور:31] ، ونحن جميعاً ذوو ذنوب وأخطاء ومخالفات ، فمن منا لا يخطئ ؟ ومن منا
لا يُذنب ؟ ومن منا لا يعصي ؟
*
والله سبحانه غفَّار الذنوب
، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ،
ويفرح بتوبة التائبين وندم العصاة والمذنبين ، ولذلك فقد جعل سبحانه للتوبة
باباً من قِبَلِ المغرب عرضُه أربعون سنة ، لا يُغْلِقُه حتى تطلع الشمس من
مغربها ، كما قال الصادق المصدوق .[رواه أحمد والترمذي وقال:حسن صحيح ].
*
والتوبة – أخي الشاب –
أمر سهل ميسور ، ليس فيه مشقة ، ولا معاناة عمل ، فهي امتناع وندم وعزم ؛
امتناع عن الذنوب والمخالفات ، وندم على اقترافها في الماضي ، وعزم على عدم
العودة إليها في المستقبل .
أهمية الوقت
*
أخي الشاب !
إذا ندمت على ما فات ، وتركت المخالفات والذنوب في المستقبل ، توجَّب عليك بعد
ذلك الاهتمام بعمرك ، وإصلاح وقتك الحاضر الذي بين ما مضى وما يُستقبل ، فإنك
إن أضعته أضَعْتَ سعادتك ونجاتك ، وإن حفظته بما ذكرت نجوت وفُزْتَ بالراحة
واللذة والنعيم .
*
قال الإمام ابن الجوزي : رأيت عموم
الخلائق يدفعون الزمان دفعاً عجيباً ؛ إن طال الليل فبحديث لا ينفع ، أو بقراءة
كتاب سمر . وإن طال النهار فبالنوم ، وهم في أطراف النهار على نهر دجلة أو في
الأسواق !! فشبهتهم بالمتحدثين في سفينة وهي تجري بهم ، وما عندهم خبر ، ورأيت
النادرين قد فهموا معنى الوجود ، فهم في تعبئة الزاد والتأهب للرحيل .. فالله
الله في مواسم العمل ، والبدار البدار قبل الفوات .
*
وقال أيضاً :
ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه وقدر وقته ، فلا يضيع منه لحظة في غير قرية ،
ويقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل ، ولتكن نيته في الخير قائمة من غير فتور
بما لا يعجز عنه البدن من العمل ، وقد كان جماعة من السلف يبادرون اللحظات ،
فنُقل عن عامر بن عبد قيس أن رجلاً قال له : كلِّمني ، فقال له : أمسك الشمس !!
*
ودخلوا على بعض السلف
عند موته وهو يصلي ، فعاتبوه على ذلك فقال : الآن تطوى صحيفتي !!
*
فإذا علم الإنسان
– وإن بالغ في الجد – أن الموت يقطعه عن العمل ، عمِل في حياته ما يدوم له أجره
بعد موته .
صّوَرٌ من اجتهاد السلف
*
هذه – أخي الشاب –
نماذج مضيئة وصور مشرقة تشير إلى اجتهاد سلفنا الكرام في عبادة الله تعالى
وطاعته ، لعلك إن نظرت فيها أورثك ذلك علوّ الهمة والإقبال على العبادة :
1-
صلى النبي صلى الله عليه وسلم
حتى تفطَّرت قدماه ، فراجعوه في ذلك فقال : (( أفلا أكون عبداً شكوراً )) [متفق
عليه].
2-
وكان أبو بكر رضي الله عنه
كثير البكاء وبخاصة في الصلاة وعند قراءة القرآن .
3-
وكان في خدِّ عمر رضي الله عنه
خطَّان أسودان من كثرة البكاء .
4-
وكان عثمان رضي الله عنه
يختم القرآن في ركعة .
5-
وكان علي رضي الله عنه
يبكي في محرابه حتى تَخْضَل لحيته بالدموع ، وكان يقول : يا دنيا غرِّي غيري ،
قد طلَّقتُك ثلاثاً لا رجعة فيه !
6-
وكان قتادة
يختم القرآن في كل سبع دائماً وفي رمضان في كل
ثلاث ، وفي العشر الأواخر في كل ليلة .
7-
وكان سفيان الثوري
يبكي الدم من الخوف !
8-
كان سعيد بن المسيب
ملازماً للمسجد ، فلم تَفُتْه صلاة في جماعة
أربعين سنة !!
رمضان فرصة للشباب
*
أخي الشاب !
*
إن تجار الدنيا لا يألون جهداً ، ولا يدّخرون وسعاً في اغتنام أي فرصة ، وسلوك
أيِّ سبيل يدرُّ عليهم الربح الكثير ، والمكسب الوفير ، فلماذا لا تتاجر أنت مع
الله ؟ فتسابق إلى الطاعات والأعمال الصالحات ، لتفوز بالربح الوفير والثواب
الجزيل منه سبحانه وتعالى .
*
ورمضان – أخي الشاب – من أعظم الفرص
التي يجب أن يشمر لها المشمرون ، ويَعُدَّ لها عُدَّتها المتقون ، ولا يغفل عن
اقتناصها المتيقظون ، فهو شهر مغفرة الذنوب ، والفوز بالجنة ، والعتق من
النيران ، لمن سلم قلبه ، واستقامت جوارحه ، ولم يُضَيَّع وقته فيما يضرّ أو
فيما لا يفيد .
*
وإليك – أخي الشاب –
بعض الأمور التي تُعينك على اغتنام أوقات هذا الشهر وإعمارها بالأعمال الصالحات
:
1- الصيام عبادة وليس عادة :
*
قال النبي صلى الله عليه وسلم (( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما
تقدم من ذنبه )) [ متفق عليه ] ، ومعنى قوله : (( إيماناً )) أي : إيماناً
بالله وبما أعده من الثواب للصائمين . ومعنى قوله : (( احتساباً )) أي : طلباً
لثواب الله ، لم يحمله على ذلك رياء ولا سمعة ، ولا طلب مال ولا جاه .
2- رمضان نعمة يجب شكرها :
*
تأمل – أخي الشاب – في الذين أدركهم الموتُ قبل دخول شهر رمضان ، فقد انقطعت
أعمالهم وطُويت صحائفهم ، فلا يستطيعون اكتساب حسنة واحدة ، ولا فعل معروف وإن
كان يسيراً .
*
أما أنت – أخي الشاب – فقد مد الله في عمرك حتى أدركت هذا الشهر العظيم ،
وهيَّأك لاكتساب هذا الثواب وتلك الأجور . وهذا – والله – نعمة كبرى ينبغي
شكرها ، والثناء على الله تعالى بإسدائها .
3- النوم والسهر :
*
أخي الحبيب ، إذا قضيت نهار رمضان في النوم ، وليله في السهر واللعب ، حُرمت
أجر الصيام والقيام ، وخرجت من الشهر صفر اليدين ، فهي - والله – أيام معدودة ،
وليال مشهودة ، ما تُهل علينا إلا وقد آذنت بانصرام ، فاجتهد فيها – رحمك الله
– بالطاعة والعبادة تفز باللذة والنعيم غداً . وإياك أن يدركك الشهر وأنت في
غفلة ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ، ثم
انسلخ قبل أن يغفر له )) [ رواه الترمذي والحاكم وصححه الألباني ] .
4- تلاوة القرآن :
*
رمضان شهر القرآن ، وقد كان السلف إذا دخل رمضان يجتهدون في قراءة القرآن
ويقدمونها على كل عبادة ، حتى رُوي عن بعضهم أنه كان يختم القرآن كل ليلة ،
فاجتهد رحمك الله في تلاوة القرآن في هذا الشهر ، واقرأ بترسُّل وترتيل وتدبر
وخشوع ، والتزم بأحكام التلاوة ما استطعت .
5- قيام الليل :
*
قيام الليل سنة مؤكدة في غير رمضان ، وهو أشد تأكيداً في رمضان ، وهو صلاة
التراويح التي يصليها الناس في المساجد ، فينبغي الحرص عليها وإتمامها كاملة مع
الإمام ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( من قام مع إمامه حتى ينصرف كتب
له قيام ليلة )) [ رواه أهل السنن وقال الترمذي :حديث صحيح ]
6- الصدقة :
*
الصدقة في رمضان لها مزية وفضيلة عن غيره من الشهور ، وقد كان النبي صلى الله
عليه وسلم إذا دخل رمضان أجود بالخير من الريح المرسلة ، فاحرص على التصدُّق في
هذا الشهر والجود بما عندك .
7- تفطير الصائمين :
*
واحرص كذلك على تفطير الصائمين ، وإطعام الفقراء والمساكين ، فقد قال صلى الله
عليه وسلم : (( من فطَّر صائماً كان له مثل أجره )) [رواه أحمد والترمذي وصححه]
8- لزوم المساجد :
*
خير بقاع الأرض المساجد ، فاحرص على صلاة الجماعة في المساجد ، وانتظار الصلاة
بعد الصلاة ، ولا تدع شيئاً من النوافل ، فإنها تسدُّ خلل الفرائض ، وتوجب محبة
الله تعالى ؛ قال تعالى في الحديث القدسي : (( ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ
بالنوافل حتى أحبه )) [رواه البخاري].
9- العمرة في رمضان :
*
للعمرة في رمضان فضل كبير ، فقد فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( عمرة في
رمضان تعدل حجة – أو قال حجة معي )) [ رواه البخاري].
10- العشر الأواخر :
*
احرص – أخي الشاب – على أن يكون اجتهادك في
العشر الأواخر أكثر من اجتهادك فيما قبلها ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم
إذا دخل العشر أيقظ أهله ، وأحيا ليله ، وجدَّ وشدَّ المئزر .[متفق عليه].
11- ليلة القدر :
*
تحرَّ ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان ، وبخاصة في ليالي الوتر منها ،
فأحي الليالي بالعبادة من صلاة وقيام وقراءة قرأن وذكر ودعاء وغير ذلك من
الطاعات ، فإن ثواب العبادة في هذه الليلة أفضل من ثواب العبادة في ألف شهر ليس
فيها ليلة القدر .
12- غضُّ البصر :
*
غضُّ البصر عبادة قل العمل بها ، فلم لا تحيي هذه الفريضة العظيمة .
13- الذكر :
*
كن ذاكراً لله على كل حال ، فقد فاز الذاكرون بخيري الدنيا والآخرة .
14- الدعاء :
*
الدعاء هو العبادة ، وهو دليلٌ على افتقار العبد إلى ربِّه وضرورته إليه في كل
حال ، وقد سماه الله تعالى عبادة في قوله : { وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي
أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي
سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [غافر:60]. فأين أنت – أخي الشاب – من
عبادة الدعاء ؟
15- الاعتكاف :
*
وهو لزوم المسجد والانفراد لطاعة الله ، فلا تضيَّع أيام اعتكافك وساعاته في
اللغو والكلام في سفاسف الأمور ، فيكون الذي لم يعتكف أفضل منك !!
16- الطعام والشراب :
*
إياك وكثرة الطعام أو الشراب فإنها تؤدي إلى التراخي والفتور والتكاسل عن
العبادة .
17- منكرات يجب اجتنابها :
*
إقلاعك عن التدخين في نهار رمضان دليل على قوة عزيمتك ، فلم لا تمتنع عنه
بالكلية في الليل والنهار ؟!
*
إياك وسماع الغناء ، فإنه يفسد القلب ، وينبت فيه الرعونة وقلة الغيرة .
*
اجعل من شهر رمضان فرصة للتخلص من أسرِ مشاهدة المسلسلات والأفلام والمسابقات
والبرامجالتافهة .
*
إياك وكثرة المزاح والضحك ، فإنها يورثان قسوة القلب والغفلة عن ذكر الله .
*
لا تصاحب الأشرار الفارغين ، فإنك إن صاحبتهم كنت مثلهم .
*
شرُّ بقاع الأرض الأسواق ، فإياك والتواجد فيها لغير حاجة .
*
الخلوة والاختلاط بالنساء الأجنبيات من أكبر أسباب الشرور والفساد والعقوبات
العامة ؛ فاحذر من ذلك .
*
إياك ومنكرات اللسان ، فإنها تُضعف ثواب الصيام جداً ، قال صلى الله عليه وسلم
: (( من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل ، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه
وشرابه )) [ رواه البخاري].
وصلى الله وسلم على نبينا
محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
مطوية من إعداد
دار الوطن