إن الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ،
ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}.
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث
منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله
كان عليكم رقيباً }.
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً * يصلح لكم أعمالكم
ويغفر لكم ذنوبكم
ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً}.
أما بعد :
فإن خير الكلام كلام الله ، وخير الهدي ؛ هدي محمد –صلى الله عليه وسلم- ،
وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في
النار.
فقد أطلعني بعض الإخوة الفضلاء على مقالات لأحد الكتاب في منتدى "سبلة العرب"
لقب نفسه بِـ"المنصور" وطلب مني ذالك الأخ الفاضل –وفقه الله- الرد عليه
وبيان ما في مقالاته ووقفاته من بعد عن الحق والصواب.
فاستعنت الله بالرد على ذالك الكاتب نصرة لله ودينه وشرعه والله أسأله
التوفيق والسداد.
وأسأله تعالى أن يمن على الكاتب المتلقب بِـ"المنصور" بالهداية والتوفيق
لمنهج أهل السنة والجماعة .
وسميت ردي هذا بِـ[التعقبات
والتنبيهات على ما في مقالات الإباضي المتلقب بِـ"المنصور" من الهفوات]
وأشرع في الرد على كلام المذكور :
1/
قال الإباضي المتلقب بِـ"المنصور" – هداه الله- مخاطباً محب السنة: [من خلال
ما كتبته لك في الوقفة الثانية والثالثة تدرك تمام الإدراك أن الـتأويل
واعتبار المجاز وكذلك عدم الأخذ بحديث الآحاد في الاعتقاد هو منهج سار عليه
سلف الأمة من صحابة وتابعين . أما محاولاتكم في الطعن واتهام من خالفكم بضعف
العقول في هاتين المسألتين هو طعن في الصحابة ومن سار على نهجهم. ].
الجواب:
أولاً:
أما إثبات المجاز بما عليه المتأخرون
وأهل الكلام فلم يثبت عن الصحابة والتابعين وأتباعهم مطلقاً .
وإنما أحدثه المعتزلة والجهمية وأهل الكلام ومن قلدهم في ذلك من الأشاعرة
والماتريدية .
وهو موضوع طويل الذيل قد أشبعه شيخا الإسلام ابن تيمية وابن القيم بما لا
مزيد عليه وكذا الشيخ الشنقيطي في رسالته في "منع جواز المجاز".
ولكن يجدر التنبيه إلى أمر مهم جداً وهو : أن المجاز يطلق على أمرين:
الأمر الأول:
ما يجوز في اللغة . فهذا لا خلاف في صحته ووقوعه .
مثل: إطلاق كلمة "أسد" على الحيوان المعروف وعلى الرجل الشجاع.
ومثل: إطلاق كلمة "القرية" على البيوت بدون سكانها وإطلاقها على أهلها
وسكانها .
ومثل: إطلاق كلمة "العين" على العين الباصرة ، وعلى عين الماء وغير ذلك.
الأمر الثاني:
مقابل الحقيقة وقسيمها .
وهذا الذي ابتدعه أهل الكلام ونفاه كثير من أهل السنة .
والإشكال يقع في أمثلة كثيرة يسميها المتكلمون ومن تبعهم : مجازاً بمعنى خلاف
الحقيقة .
ولا يسميها أهل السنة من منكري المجاز : مجازاً بمعنى خلاف الحقيقة .
بل هي حقيقة في الأمرين معاً.
فمثلاً: كلمة "أسد" مثبتوا المجاز يقولون : هو حقيقة في الحيوان مجاز في
الرجل الشجاع.
ومنكروا المجاز يقولون : هو حقيقة في كليهما .
ففي كثير من الأحوال يعود الخلاف لفظياً .
وهذه المسألة يطول شرحها وأكتفي بهذا الإيجاز في الكلام على المجاز.
ثانياً:
وأما خبر الآحاد وإفادته للعلم فهذا
أمر مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وإنما أحدث الخلافَ أهل الكلام .
وأنبه إلى أمور:
الأول: أن المقصود بخبرالآحاد هو ما
صح سنده عند أهل الحديث ويدخل فيه الحديث الحسن.
ولايدخل فيه ما كان صحيحاً أو حسناً في الظاهر وهو معلول كما هو مشروح عند
أهل الحديث.
الثاني:
أن ما نقله "المنصور" عن النووي وغيره غير مسلم بل هو باطل وإن قاله النووي .
فنحن نطالب النووي وغيره أن يأتوا بنقل واحد صحيح أو حسن عن الصحابة
والتابعين ذهبوا فيه إلى أن خبر الواحد لا يفيد العلم واليقين .
وأنا أطالب "المنصور" بنقل واحد صحيح أو حسن عن الصحابة والتابعين ذهبوا فيه
إلى أن الحديث الآحاد الثابت لا يؤخذ به في العقائد والعلميات.
وانتبه: المطلوب قضية كلية لا حادثة جزئية يؤخذ بمفهومها ولا منطوق لها .
الثالث:
ما وجه التفريق –شرعاً – بين العلميات والعمليات مع أن الطريق واحد ؟!
الرابع:
أنه ثبت عن جماعة من السلف خلاف ما ذكره النووي ، وثبت إنكارهم التفريق بين
العلميات والعمليات في التلقي والأخذ بخبر الآحاد الثابت .
2/
قال المتلقب بِـ"المنصور" : [لقد جاء في كتب الحديث كثير من الروايات اعتمد
عليها مثبتو الرؤية في دعم أقوالهم وتثبيت حججهم. والدارس لتلك الروايات من
حيث السند والمتن يدرك تمام الإدراك أن جميع ما ذكره القوم في مؤلفاتهم من
روايات ليست بأهل أن يؤسس عليها عقيدة ويقين. ].
الجواب:
هذه دعوى باطلة وسيأتي تفنيدها
واجتثاثها من جذورها .
واعلم أن رؤية المؤمنين ربهم ثابتة بالكتاب والسنة المتواترة والإجماع .
ويجب عليك –إن كنت منصفاً ، متحرياً للصدق والعدل- أن تنظر في تلك الأدلة
بتجرد وإنصاف سائلاً الله الهداية والتوفيق للحق .
3/
قال المتلقب بِـ"المنصور" : [ لهذا ، وبما أن حديث صهيب كان هو مدار ما قاله
الأخ الأستاذ محب السنة في مقاله الأخير ، فإني سأبدأ في ذكر أقوال علماء
الجرح والتعديل في سنده.
ثم ذكر الحديث وبعض أقوال العلماء في حماد بن سلمة
ثم قال: كون حماد بن سلمة صدوق أو ثقة في نفسه ليس بحجة ما دام قد اعترف
علماء الجرح والتعديل بسوء حفظه وتخليطه في الرواية.
وذكر ابن الصلاح حكم علماء الجرح في رواية المخلطين بقوله :
" والحكم فيهم أنه يقبل حديث من أخذ عنهم قبل الاختلاط ولا يقبل حديث من أخذ
عنهم بعد الاختلاط أو أشكل أمره فلم يدر هل أخذ عنه قبل الاختلاط أو بعده " (
التقييد والإيضاح ، ص 442 ) ].
الجواب من وجوه:
الوجه الأول:
أن حديث صهيب ليس هو الحديث الوحيد في
هذا الباب [باب رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة] بل هو دليل من تلك الأدلة
المتواترة المتكاثرة .
وهذا الوجه ذكرته للتنبيه فقط.
الوجه الثاني:
أن الحديث صححه مسلم – كما ذكره "محب السنة" وَ"المنصور"- وهو من هو في علم
الجرح والتعديل .
وكذلك صححه البزار وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم .
ولو نظرنا فيمن تكلم في الحديث بإزاء من صححه لرأينا أن من صححه أشهر وقولهم
معتبر أكثر من غيرهم.
وأنا أتكلم عن حديث صهيب وليس عن حماد بن سلمة فتنبه ولا تخلط.
الوجه الثالث:
الكلام على حماد بن سلمة –رحمه الله- لم يأخذ حقه من البحث والنظر .
لذا وجب تفصيل القول في حال حماد بن سلمة –رحمه الله- والكلام عليه من جهات:
الجهة الأولى:
لم يضعف أحد من العلماء حماد بن سلمة مطلقاً بل من تكلم فيه تكلم كلاماً
مقيداً.
فلم نجد في ترجمة حماد أن أحد العلماء قال: ضعيف أو لين الحديث أو ليس بشيء
أو متروك أو نحو ذلك .
بل كل من تكلم فيه ؛ إما وثقه مطلقاً ، وإما وثقه مع الكلام عليه مقيداً ، أو
ذكر جانباً واحداً عنه دون الحكم المطلق عليه .
الجهة الثانية :
أن كلام العلماء على حماد بن سلمة ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول: من وثقه مطلقاً دون أدنى جرح.
مثل عبد الرحمن بن مهدي وعفان الصفار والإمام أحمد في بعض الروايت وابن معين
في معظم الروايات عنه والساجي والعجلي والنسائي وعبد الله بن معاوية الجمحي .
القسم الثاني: من وثقه مطلقاً مع الرد على من ضعفه.
مثل ابن معين في بعض الروايات وابن حبان .
القسم الثالث: من وثقه مع بيان بعض الجوانب التي تكلم على حماد بن سلمة فيها.
مثل: الإمام أحمد ويحي القطان والحاكم والبيهقي
وجميع الأقوال السابقة موجودة في ترجمة حماد بن سلمة –رحمه الله- في الكتب
التي ترجمت له مثل: تهذيب الكمال للحافظ المزي ، وتهذيب التهذيب للحافظ ابن
حجر ، وسير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي وغيرها من الكتب فلا حاجة للتطويل
بذكرها .
الجهة الثالثة:
أن الكلام في حماد بن سلمة –رحمه الله- ينحصر في ثلاثة أمور:
الأمر الأول: "سوء حفظه وتغيره" بأخرة.
الأمر الثاني: أوهامه وأخطاؤه ومخالفاته .
الأمر الثالث: رواياته عن قيس بن سعد خاصة.
الأمر الرابع: روايته عن ثابت بن أسلم البناني وكذا عن حميد.
أما الأمر الأول :
وهو تغير حفظه وسوئه بأخرة فقد قال به بعض المحدثين ونفاه آخرون:
ولم أقف على من قال بذلك سوى الحاكم النيسابوري وتلميذه البيهقي وتبعهما
الحافظ ابن حجر في التقريب :
قال أبو عبد الله الحاكم-كما في سير أعلام النبلاء(7/452)- : [قد قيل في سوء
حفظ حماد بن سلمة وجمعه بين جماعة في الإسناد بلفظ واحد ولم يخرج له مسلم في
الأصول إلا من حديثه عن ثابت وله في كتابه أحاديث في الشواهد عن غير ثابت].
قال البيهقي في "الخلافيات"-كما في سير أعلام النبلاء(7/452)- : [ مما جاء في
كتاب الإمام لشيخنا بعد إيراد حديث: ((ألا إن العبد نام)) لحماد بن سلمة قال:
فأما حماد فإنه أحد أئمة المسلمين . قال أحمد بن حنبل: إذا رأيت من يغمزه
فاتهمه فإنه كان شديدا على أهل البدع.
إلا أنه لما طعن في السن ساء حفظه فلذلك لم يحتج به البخاري ، وأما مسلم
فاجتهد فيه وأخرج من حديثه عن ثابت مما سمع منه قبل تغيره وما عن غير ثابت
فأخرج نحو اثني عشر حديثا في الشواهد دون الاحتجاج فالاحتياط أن لا يحتج به
فيما يخالف الثقات وهذا الحديث من جملتها –يقول أبو عمر العتيبي: يعني حديث:
((ألا إن العبد نام))-. ] .
وقال الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب: [ثقه عابد أثبت الناس في ثابت وتغير
حفظه بأخرة].
وفيما قالوه نظر لأنهم لم يوردوا دليلاً على تغير حفظ حماد –رحمه الله- .
ولم يسبقهم إليه أحد ممن تتلمذ على حماد وممن عاصره أو كان قريباً من عصره.
بل أنكر ذلك ابن معين فقال –رحمه الله-: [حديث حماد بن سلمة في أول أمره وآخر
أمره واحد وكان حماد بن سلمة رجل صدق ومات يحيى بن سعيد يعنى القطان وهو يحدث
عنه].
رَ: تاريخ الدوري(4/312) .
وكون حماد أخطأ في أحاديث فهذا لا يدل على تغير حفظ حماد –رحمه الله- .
فإن الثقات ما زالوا يخطؤون وخطؤهم لا يعد تغيراً في حفظهم .
فالصواب –والله أعلم- أن حماد بن سلمة لم يتغير حفظه ولكنه عنده أخطاء وأوهام
كغيره من الثقات وسيأتي نقل كلام ابن حبان في ذلك إن شاء الله.
ولو قيل بتغير حفظه فإن عبد الرحمن بن مهدي ممن سمع منه قبل تغيره وهو ممن
روى عنه حديث صهيب –رضي الله عنه-.
أما الأمر الثاني:
وهو أوهامه وأخطاؤه ومخالفاته .
فهذا موجود في حماد بل وفي غيره من بني البشر .
والخطأ الذي ترد به رواية الراوي إذا كثر وفحش بحيث يكون الغالب عليه الخطأ
أو يكون صوابه مساوياً لخطئه فحينئذ ترد روايته كما هو مقرر عند أهل الحديث .
وحماد بن سلمة أخطاؤه لم تنزله عن مرتبة الصحيح عند أهل العلم فقد احتج به
يحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي والإمام أحمد وعلي بن المديني ويحيى بن معين
والبخاري ومسلم وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبيهقي وغيرهم .
بل أجمع المحدثون على الاحتجاج بحديث حماد بن سلمة –رحمه الله- .
وإنما لم يحتجوا ببعض حديثه مما أخطأ فيه وخالف فيه الثقات الذين لا يوازيهم
حماد بن سلمة –رحمه الله- .
قال بن عدي في الكامل(2/264) : [وهذه الأحاديث التي ذكرتها لحماد بن سلمة منه
ما ينفرد حماد به اما متنا واما إسنادا ومنه ما يشاركه فيه الناس وحماد بن
سلمة من أجلة المسلمين وهو مفتي البصرة ومحدثها ومقرئها وعابدها وقد حدث عنه
من الأئمة من هو أكبر سنا منه من الأئمة ممن أكبر سنا منه شعبة والثوري وابن
جريح ومحمد بن إسحاق أو ممن في طبقته حماد بن زيد وممن هو أصغر منه سنا منه
عبد الله بن المبارك ويحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي].
وقال –أيضاً-(2/266) : [ ولحماد بن سلمة هذه الأحاديث الحسان والأحاديث
الصحاح التي يرويها عن مشايخه وله أصناف كثيرة كتاب ومشايخ كثيرة وهو من أئمة
المسلمين وهو كما قال علي بن المديني من تكلم في حماد بن سلمة فاتهموه في
الدين وهكذا قول احمد بن حنبل فيه].
وما أجمل ما قاله ابن حبان –رحمه الله- في مقدمة صحيحه(1/152-154): [وربما
أروي في هذا الكتاب ، واحتج بمشايخ قد قدح فيهم بعض أئمتنا مثل: سماك بن حرب
، وداود بن أبي هند ، ومحمد بن إسحاق بن يسار ، وحماد بن سلمة ، وأبي بكر بن
عياش ، وأضرابهم ممن تنكب عن رواياتهم بعض أئمتنا ، واحتج بهم البعض ؛ فمن صح
عندي منهم بالبراهين الواضحة ، وصحة الاعتبار على سبيل الدين أنه ثقة احتججت
به ، ولم أعرج على قول من قدح فيه ، ومن صح عندي بالدلائل النيرة والاعتبار
الواضح على سبيل الدين أنه غير عدل لم أحتج به وإن وثقة بعض أئمتنا .
وإني سأمثل واحداً منهم وأتكلم عليه ليستدرك به المرء من هو مثله ، كأنا جئنا
إلى حماد بن سلمة فمثلناه ، وقلنا لمن ذب عمن ترك حديثه: لم استحق حماد بن
سلمة ترك حديثه وكان رحمه الله ممن رحل وكتب وجمع وصنف وحفظ وذاكر ولزم الدين
والورع الخفي والعبادة الدائمة والصلابة في السنة والطبق على أهل البدع ولم
يشك عوام البصرة يعد من البدلاء غيره فمن اجتمع فيه هذه الخصال لم استحق
مجانية روايته ؟
فإن قال: لمخالفته الأقران فيما روى في الأحايين.
يقال له: وهل في الدنيا محدث ثقة لم يخالف الأقران في بعض ما روى ؟
فإن استحق إنسان مجانبة جميع ما روى بمخالفته الأقران في بعض ما يروي لاستحق
كل محدث من الأئمة المرضيين أن يترك حديثه لمخالفتهم أقرانهم في بعض ما رووا
.
فإن قال: كان حماد يخطىء .
يقال له: وفي الدنيا أحد بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعرى عن الخطأ ؟
ولو جاز ترك حديث من أخطأ ؛ لجاز ترك حديث الصحابة والتابعين ومن بعدهم من
المحدثين لأنهم لم يكونوا بمعصومين .
فإن قال: حماد قد كثر خطؤه.
يقال له: إن الكثرة اسم يشتمل على معان شتى ولا يستحق الإنسان ترك روايته حتى
بكون منه من الخطأ ما يغلب صوابه ، فإذا فحش ذلك منه ، وغلب على صوابه ؛
استحق مجانية روايته .
وأما من كثر خطؤه ، ولم يغلب على صوابه ؛ فهو مقبول الرواية فيما لم يخطىء
فيه واستحق مجانية ما أخطأ فيه فقط .
مثل: شريك وهشيم وأبي بكر بن عياش وأضرابهم كانوا يخطئون فيكثرون فروى عنهم
واحتج بهم في كتابه وحماد واحد من هؤلاء!
[ يقول أبو عمر العتيبي: قارن بين كلام الإمام ابن حبان هنا ، وكلام الإمام
أحمد: كان حماد بن سلمة يخطئ وأومأ أحمد بيده خطأ كثيراً ].
فإن قال: كان حماد يدلس .
يقال له: فإن قتادة وأبا إسحاق السبيعي وعبد الملك بن عمير وابن جريج والأعمش
والثوري وهشيما كانوا يدلسون ، واحتججت بروايتهم ، فإن أوجب تدليس حماد في
روايته ترك حديثه أوجب تدليس هؤلاء الأئمة ترك حديثهم .
فإن قال: يروي عن جماعة حديثا واحداً بلفظ واحد من غير أن يميز بين ألفاظهم.
يقال له: كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتابعون يؤدون الأخبار
على المعاني بألفاظ متباينة ، وكذلك كان حماد يفعل كان يسمع الحديث عن أيوب
وهشام وابن عون ويونس وخالد وقتادة عن بن سيرين فيتحرى المعنى ، ويجمع في
اللفظ ، فإن أوجب ذلك منه ترك حديثه أوجب ذلك ترك حديث سعيد بن المسيب والحسن
وعطاء وأمثالهم من التابعين لأنهم كانوا يفعلون ذلك بل الإنصاف في النقلة في
الأخبار استعمال الاعتبار فيما رووا…].
وما ذكره ابن حبان من تدليس حماد إنما قاله من باب التنزل وإلا فإن حماد لم
يرم بالتدليس فيما أعلم.والله أعلم.
وأما الأمر الثالث:
وهو رواياته عن قيس بن سعد خاصة.
فقد تكلم فيها يحيى القطان –رحمه الله- فقال: حماد عن زياد الأعلم وقيس بن
سعد ليس بذاك.
وسبب الأخطاء في رواية حماد –رحمه الله- عن قيس بن سعد هو ما ذكره الإمام
أحمد:
ضاع كتاب حماد عن قيس بن سعد وكان يحدثهم من حفظه.
وقال أبو داود لم يكن لحماد بن سلمة كتاب غير كتاب قيس بن سعد يعني كان يحفظ
علمه.
فرواية حماد عن قيس فيها نظر .
وحديث صهيب ليس من طريق حماد بن سلمة عن قيس بن سعد .
أما الأمر الرابع فهو روايته عن ثابت بن أسلم البناني وكذا عن حميد.
فهذا له شأن آخر .
فحماد من أثبت الناس وأوثقهم في ثابت بن أسلم البناني .
قال أحمد : حماد بن سلمة أثبت في ثابت من معمر .
وقال –أيضاً-: حماد بن سلمة أعلم الناس بحديث حميد وأصح حديثا .
وقال -في موضع آخر-: هو أثبت الناس في حميد الطويل سمع منه قديما يخالف الناس
في حديثه.
وقال ابن المديني: لم يكن في أصحاب ثابت أثبت من حماد بن سلمة.
وقال عباس الدوري(4/265) : سمعت يحيى يقول من خالف حماد بن سلمة في ثابت
فالقول قول حماد قيل له فسليمان بن مغيرة عن ثابت قال سليمان ثبت وحماد أعلم
الناس بثابت.
وأنقل هنا ما ذكره الإمام ابن رجب –رحمه الله- في شرح علل الترمذي(2/499-500)
حيث قال:
[ أصحاب ثابت البُناني :
وفيهم كثرة وهم ثلاث طبقات :
الطبقة الأولى : الثقات :
كشعبة ، وحماد بن زيد ، وسليمان بن المغيرة ، وحماد بن سلمة ، ومعمر .
وأثبت هؤلاء كلهم في ثابت حماد بن سلمة ، كذا قال أحمد في رواية ابن هانئ:
"ما أحد روى عن ثابت أثبت من حماد بن سلمة".
وقال ابن معين: "حماد بن سلمة أثبت الناس في ثابت البناني".
وقال-أيضاً-: "حماد بن سلمة أعلم الناس بثابت ، ومن خالف حماد بن سلمة في
ثابت فالقول قول حماد".
وقال ابن المديني: "لم يكن في أصحاب ثابت أثبت من حماد بن سلمة ثم من بعده
سليمان بن المغيرة ، ثم من بعده حماد بن زيد ، وهي صحاح".
قال ابن رجب: يعني أحاديث هؤلاء الثلاثة عن ثابت .
وقال أبو حاتم الرازي: "حماد بن سلمة في ثابت وعلي بن زيد أحب إلي من همام ،
وهو أحفظ الناس ، وأعلم بحديثهما ، بين خطأ الناس".
قال ابن رجب: يعني أن من خالف حماداً في ثابت وعلي بن زيد قدم قول حماد عليه
، وحكم بالخطأ على مخالفه.
وحكى مسلم في التمييز : "إجماع أهل المعرفة على أن حماد على أن حماد بن سلمة
أثبت الناس في ثابت"
وحكى ذلك عن يحيى القطان وابن معين وأحمد وغيرهم من أهل المعرفة.
وقال الدارقطني: "حماد بن سلمة أثبت الناس في ثابت". ].
انتهى المراد من كلام ابن رجب .
ومما يدل على شدة ضبط حماد بن سلمة لحديث ثابت ما قاله عباس الدوري(4/266) :
قال يحيى : قال عفان : قال حماد بن سلمة : كنت آتى ثابتا فأقول له في الحديث
فأجعل حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أنس وحديث أنس عن عبد الرحمن بن أبي
ليلى فآتيه فأقول له أنس فيقول لا عبد الرحمن بن أبي ليلى.
فيتبين بجلاء أن رواية حماد عن ثابت من أصح الأسانيد وأقواها وهي رواية صحيحة
بإجماع أهل المعرفة .
الوجه الرابع:
أن حماد بن سلمة عرف اهتمامه بضبط الروايات المسندة المتصلة بالرسول –صلى
الله عليه وسلم- .
فكان يضبطها ويحفظها بخلاف حماد بن زيد وسليمان بن المغيرة فلم يذكر عنهم
ذلك.
قال مسلم بن إبراهيم : سمعت حماد بن سلمة –رحمه الله-يقول: كنت أسأل حماد ابن
أبي سليمان عن أحاديث مسندة ، والناس يسألونه عن رأيه ، فكنت إذا جئته قال:
لا جاء الله بك!
فلاحظ الفرق بين رواية حماد بن سلمة عن ثابت ورواية سليمان بن المغيرة وحماد
بن زيد.
فرواية حماد بن سلمة –رحمه الله-عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب
مرفوعاً
ورواية سليمان وحماد بن زيد عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى من قوله .
مما يبين أنهما حديثان مستقلان وكل روى ما سمع وليس ثمة اختلاف .
والله أعلم
قال البزار في مسنده(6/14) : وهذا الحديث رواه سليمان بن المغيرة وحماد بن
زيد ومعمر عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى وقال حماد عن ثابت عن عبد
الرحمن عن صهيب والحديث إذا رواه الثقة كان الحديث له إذا زاد وكان حماد بن
سلمة رضي الله عنه من خيار الناس وأمنائهم.
وقال النووي في شرح مسلم(3/17) : [وهذا الذى قاله هؤلاء ليس بقادح في صحة
الحديث .
فقد قدمنا في الفصول : أن المذهب الصحيح المختار الذى ذهب اليه الفقهاء
وأصحاب الاصول والمحققون من المحدثين وصححه الخطيب البغدادى : أن الحديث اذا
رواه بعض الثقات متصلاً ، وبعضهم مرسلاً ، أو بعضهم مرفوعاً ، وبعضهم موقوفاً
؛ حكم بالمتصل وبالمرفوع لانهما زيادة ثقة ، وهى مقبولة عند الجماهير من كل
الطوائف . والله أعلم].
تنبيه:
ممن روى الموقوف على ابن أبي ليلى: حماد بن واقد وهو ضعيف ومعمر وهو ثقة لكن
روايته عن ثابت متكلم فيها .
فيتبين بما سبق بيانه أن حديث صهيب –رضي الله عنه- حديث صحيح لا غبار عليه .
علماً بأنه ليس الوحيد في بابه بل هو من الأحاديث المتكاثرة المثبتة لرؤية
المؤمنين لربهم يوم القيامة كما سبق ذكره.
وفي ختام الكلام
على هذه الوقفة أقف مع بعض كلام "المنصور" ونقله الكلام حول حماد بن سلمة
–رحمه الله-.
أ/
قال "المنصور" : [ وقال القاضي محمد بن عمر بن بحرق الحضرمي الشافعي في (
حدائق الأنوار ومطالع الأسرار ) ص 220 : " إلا أن مسلماً رواه من طريق حماد
بن سلمة وهو متروك عند البخاري لو يرو له إلا تعليقاً " ].
يقول أبو عمر العتيبي: هذا الإطلاق فيه نظر .
فالبخاري لم يتركه ولا يقال إنه متروك عند البخاري لأنه احتج به في الصحيح
وليس معلقاً كما زعم المذكور.
فإن البخاري –رحمه الله- قال(5/2365) : وقال لنا أبو الوليد حدثنا حماد بن
سلمة عن ثابت عن أنس عن أبي قال: كنا نرى هذا من القرآن حتى نزلت ألهاكم
التكاثر.
فهنا قد احتج به وهذا إسناد موصول وليس معلقاً .
والإمام البخاري قد استشهد به في مواطن عديدة.
وعدم رواية البخاري لراو لا يقال إنه متروك عند البخاري .
ولابد من مراعاة عبارات أئمة الحديث وألفاظهم ومرادهم بها .
والذي يمكن أن يقال هنا-ولا يسلم- : لم يحتج به البخاري ، لم يخرج له البخارى
ونحوها من العبارت.
بَ/
قال "المنصور" : [وذكر ابن الصلاح حكم علماء الجرح في رواية المخلطين بقوله :
" والحكم فيهم أنه يقبل حديث من أخذ عنهم قبل الاختلاط ولا يقبل حديث من أخذ
عنهم بعد الاختلاط أو أشكل أمره فلم يدر هل أخذ عنه قبل الاختلاط أو بعده " (
التقييد والإيضاح ، ص 442 ) ].
يقول أبو عمر العتيبي : قد بينت سابقاً أن حماد بن سلمة لم يختلط ولم يتغير
حفظه حتى ينقل مثل هذا .
ولم أجد من ذكره في كتب المختلطين كالكواكب النيرات والاعتباط وغيرهما .
ولو قيل : بأنه قد تغير فرواية عبد الرحمن بن مهدي وعفان الصفار قبل تغيره
–لو سلم به- فروايته صحيحة على هذا فتنبه.
فحديث صهيب حديث صحيح وفي مدلوله صريح .
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد
الحلقة
الثانية