اطبع هذه الصفحة


《ترجيحات الحافظ ابن القيم في جميع الفنون من جميع كتبه》

المجموعة الأولى (٢٢٨) فائدة وترجيح

عبدالله سعيد أبوحاوي القحطاني

 
بسم الله الرحمن الرحيم



الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على النبي المصطفى وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. أما بعد:
فقد عزمت وأنا ضعيف الهمة وقليل البضاعة أن أجمع ترجيحات الحافظ الإمام ابن القيم-رحمه الله وجمعنا به في جنته- وذلك من جميع كتبه في جميع الفنون، وهي تشمل كل ترجيح رجحه ولو بطريق الإشارة، ومنها:
-ترجيحاته الفقهية الموافقة للمذهب والمخالفة له، ما قواه، وما استظهره، وما حشد الأدلة لأجله وهكذا .
-أحكامه الحديثية على الأحاديث والرجال.
-ترجيحاته الأصولية وما يلحق بهذا الفن.
-ترجيحاته العقدية كترجيحه أن الجميل والصبور من أسماء الله وغير ذلك.
-ترجيحاته في اللغة بجميع صنوفها
-ترجيحاته في التفسير وأصوله وعلومه.
-ترجيحاته في الوعظ والإرشاد وما يتعلق به.
ترجيحاته في العلوم الأخرى في الطب والفلك وغيرها من العلوم .
وأنا كما أنتم أستيقن من صعوبة مثل هذا ووعورته، وليس الأمر سهلا كما ترى هنا، بل هناك شيئا آخر وراء ما تظن وترى! والله المستعان وبه الثقة وعليه التكلان .فمنها:

أولًا: الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب:

١- فَتَفاضُلُ الأعمال عند الله تعالى بِتفاضُلِ ما في القلوب من الإيمان، والإخلاص، والمحبة وتوابعها، وهذا العمل الكامل هو الذي يكفِّر تكفيرًا كاملًا، والناقصُ بِحَسَبِه.
وبهاتين القاعدتين تزول إشكالاتٌ كثيرة، وهما:
تفاضلُ الأعمال بتفاضل ما في القلوب من حقائق الإيمان، وتكفيرُ العمل للسيئات بحسب كماله ونقصانه.
الوابل الصيب ص١٨
٢- الردّة هل تحبط العمل بمجرَّدها، أولا يحبطه إلا الموت عليها؟ فيه للعلماء قولان مشهوران، وهما روايتان عن الإمام أحمد رضي الله عنه.
وهكذا العبد إذا فعل حسنة، ثم فعل سيئة تحبطها، ثم تاب من تلك السيئة، هل يعود إليه ثواب تلك الحسنة المتقدمة؟ يُخرَّجُ على هذا الأصل.
ولم يزل في نفسي شيء من هذه المسألة، ولم أزل حريصًا على الصواب فيها، وما رأيت أحدًا شفى فيها، والذي يظهر لي -والله تعالى أعلم، وبه المستعان، ولا قوة إلا به- أن الحسنات والسيئات تتدافع وتتقابل، ويكون الحكم فيها للغالب، وهو يقهر المغلوب، ويكون الحكم له، حتى كأنّ المغلوب لم يكن، فإذا غلبت على العبد الحسنات دفعت حسناتُه الكثيرةُ سيئاتِه، ومتى تاب من السيئة ترتَّبَ على توبته منها حسنات كثيرةٌ قد تربي وتزيد على الحسنة التي حبطت بالسيئة، فإذا عزمت التوبة، وصحَّت، ونشأت من صميم القلب، أحرقت ما مرّت عليه من السيئات، حتى كأنها لم تكن؛ فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
المرجع السابق ص٢٣-٢٤
٣- قوله ﷺ: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن».
وليس المراد تقييد نفي الإيمان المطلق عنه حالة مباشرته تلك الأفعال فقط، بحيث إذا كَمُلَتْ مباشرته وانقطع فعله عاد إليه الإيمان، بل هذا النفي مستمر إلى حين التوبة، وإلا فما دام مُصِرًّا وإن لم يباشر الفعل فالنفي لاحِقٌ به، ولا يزول عنه اسم الذم والأحكام المترتبة على المباشرة إلا بالتوبة النصوح، والله سبحانه وتعالى أعلم.
المرجع السابق ص٦٦
٤- وقد اخْتُلِفَ في وجود هذه الرائحة من الصائم، هل هي في الدنيا، أو في الآخرة؟ على قولين.
وقد وقع بين الشيخين الفاضلين أبي محمد بن عبد السلام وأبي عمرو بن الصلاح في ذلك تنازع، فمال أبو محمد إلى أن تلك في الآخرة خاصة، وصنف فيه مصنفًا، ومال الشيخ أبو عمرو إلى أن ذلك في الدنيا والآخرة، وصنف فيه مصنفًا رد فيه على أبي محمد.
قلتُ: وفصلُ النزاع في المسألة أن يقال: حيث أخبر النبي ﷺ بأن ذلك الطِّيب يكون يوم القيامة؛ فلأنه الوقت الذي يظهر فيه ثواب الأعمال ومُوجِباتها من الخير والشر، فيظهر للخلق طِيبُ ذلك الخُلوف على المسك، كما يظهر فيه رائحة دم المكلوم في سبيله كرائحة المسك، وكما تظهر فيه السرائر وتبدو على الوجوه وتصير علانية، ويظهر فيه قبح رائحة الكفار وسواد وجوههم.
وحيثُ أخبر بأن ذلك «حين يَخْلُف» و«حين يُمْسُون»؛ فلأنه وقت ظهور أثر العبادة، ويكون حينئذ طِيبُها زائدًا على ريح المسك عند الله تعالى وعند ملائكته، وإن كانت تلك الرائحة كريهةً للعباد، فَرُبَّ مكروهٍ عند الناس محبوبٍ عند الله تعالى، وبالعكس؛ فإن الناس يكرهونه لمنافرته طباعهم، والله تعالى يستطيبه ويحبه لموافقته أمره ورضاه ومحبته، فيكون عنده أطيب من ريح المسك عندنا، فإذا كان يوم القيامة ظهر هذا الطيب للعباد، وصار علانية، وهكذا سائر آثار الأعمال من الخير والشر، وإنما يكمل ظهورها ويصير علانية في الآخرة.
وقد يَقْوَى العملُ ويتزايد حتى يستلزم ظهور بعض أثره على العبد في الدنيا في الخير والشر، كما هو مُشاهَدٌ بالبصر والبصيرة.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: «إن للحسنة ضياءً في الوجه، ونورًا في القلب، وقوّةً في البدن، وسَعَةً في الرزق، ومحبةً في قلوب الخلق، وإن للسيئة سَوادًا في الوجه، وظلمةً في القلب، وَوَهَنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبِغْضَةً في قلوب الخلق».
وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: «ما عمل رجل عملًا إلا ألبسه الله تعالى رداءه، إنْ خيرًا فخير، وإن شرًّا فشرّ».
وهذا أمر معلوم يشترك فيه وفي العلم به أصحاب البصائر وغيرهم، حتى إنَّ الرجل الطّيِّب البَرَّ لتشمُّ منه رائحة طيبة وإن لم يَمَسَّ طِيبًا، فيظهر طيب رائحة روحه على بدنه وثيابه، والفاجر بالعكس، والمزكوم الذي أصابه الهواء لا يشمُّ لا هذا، ولا هذا، بل زكامه يحمله على الإنكار، فهذا فصل الخطاب في هذه المسألة، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
المرجع السابق ص٦٦-٦٨
٥- في الترمذي عن النبي ﷺ، عن الله عز وجل أنه يقول: «إنَّ عبدي كُلَّ عبدي الذي يذكرني وهو مُلاقٍ قِرْنَهُ».
وهذا الحديث هو فصل الخطاب في التفضيل بين الذاكر والمجاهد، فإن الذاكرَ المجاهد أفضلُ من الذاكر بلا جهادٍ والمجاهدِ الغافلِ، والذاكرُ بلا جهادٍ أفضلُ من المجاهد الغافل عن الله تعالى.
فأفضل الذاكرين المجاهدون، وأفضل المجاهدين الذاكرون.
المرجع السابق ص٨٨
٦- قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه:١٢٤]
والضَّنْكُ: الضيق والشدة والبلاء، وَوصْفُ المعيشةِ نَفْسِها بالضنك مبالغةٌ، وفُسِّرت هذه المعيشة بعذاب البرزخ، والصحيح: أنها تتناول معيشته في الدنيا، وعذابه في البرزخ؛ فإنه يكون في ضَنْكٍ في الحالَيْن، وهو شدة وجَهْدٌ وضِيق، وفي الآخرة يُنْسَى في العذاب.
المرجع السابق ص١٠٧
٧- والله سبحانه وتعالى يَقْرِنُ بين الحياة والنور، كما في قوله عز وجل: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾[الأنعام:١٢٢]، وكذلك قوله عز وجل: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا﴾[الشورى:٥٢].
وقد قيل: إن الضمير في ﴿جَعَلْنَاهُ﴾ عائد إلى الأمر، وقيل: إلى الكتاب، وقيل: إلى الإيمان، والصواب: أنه عائد إلى الروح، أي: جعلنا ذلك الروح الذي أوحيناه إليك نورًا، فسمّاه رُوحًا لما يحصل به من الحياة، وجعله نورًا لما يحصل به من الإشراق والإضاءة، وهما متلازمان، فحيث وُجِدت هذه الحياة بهذا الروح وُجِدت الإضاءة والاستنارة، وحيث وُجِدت الاستنارة والإضاءة وُجِدت الحياة، فمن لم يقبل قلبه هذا الروح فهو ميّت مظلم، كما أن من فارق بدنَه روحُ الحياة فهو هالك مُضْمَحِلّ.
المرجع السابق ص١٢٤
٨- وأما الروح المظلمة الخبيثة الكدرة فإنها لا تفتح لها أبواب السماء، ولا تصعد إلى الله تعالى، بل تُرَدُّ من السماء الدنيا إلى عالَمها وعُنْصُرِها؛ لأنها أرضية سُفْلِيّة، والأولى عُلْوِيّة سماوية، فرجعت كل روح إلى عنصرها وما هي منه، وهذا مُبَيَّنٌ في حديث البراء بن عازب الطويل الذي رواه الإمام أحمد، وأبو عوانة الإسفراييني في صحيحه، والحاكم، وغيرهم، وهو حديث صحيح .
المرجع السابق ص١٤٥
٩- قال سبحانه وتعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾[طه:١٤].
الأظهر: أنها لام التعليل، أي: أقمِ الصلاة لأجل ذكري، ويلزم من هذا أن تكون إقامتها عند ذكره، وإذا ذَكرَ العبدُ ربَّه فذِكْرُ الله تعالى سابقٌ على ذِكره، فإنه لمّا ذَكَره ألهمه ذِكْرَه، فالمعاني الثلاثة حقّ.
المرجع السابق ص١٧٩
١٠- الذكر أفضل من الدعاء؛ لأن الذكر ثناءٌ على الله عز وجل بجميل أوصافه وآلائه وأسمائه، والدعاءُ سؤال العبد حاجته، فأين هذا من هذا؟!
ولهذا جاء فى الحديث: «مَنْ شَغَلَه ذِكْرِي عَنْ مَسْألتي أعْطَيْتُه أفضلَ مَا أُعْطِي السَّائلِينَ» .
المرجع السابق ص٢٢٢
١١- قراءةُ القرآن أفضلُ من الذِّكْر، والذِّكْرُ أفضلُ من الدعاء، هذا مِنْ حيث النظر إلى كُلٍّ منهما مُجَرَّدًا.
وقد يَعْرِضُ للمفضول ما يجعله أولى من الفاضل، بل يُعَيِّنُه، فلا يجوز أَنْ يُعْدَلَ عنه إلى الفاضل، وهذا كالتسبيح في الركوع والسجود؛ فإنه أفضل من قراءة القرآن فيهما، بل القراءةُ فيهما مَنْهِيٌّ عنها نَهْيَ تحريم أو كراهة، وكذلك التسميع والتحميد في مَحَلِّهما أفضل من القراءة، وكذلك التشهد، وكذلك «رب اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني» بين السَّجدتين أفضل من القراءة، وكذلك الذكر عَقِيب السلام من الصلاة -ذكرُ التهليل، والتسبيح، والتكبير، والتحميد- أفضلُ من الاشتغال عنه بالقراءة، وكذلك إجابةُ المؤذن والقولُ كما يقول أفضل من القراءة، وإن كان فضل القرآن على كلِّ كلامٍ كفضل الله تعالى على خلقه، لكنْ لكلِّ مقامٍ مقالٌ، متى فات مقالُه فيه وعُدِلَ عنه إلى غيره اخْتَلَّتْ الحكمة، وفاتت المصلحة المطلوبة منه.
وهكذا الأذكار المُقَيَّدَةُ بِمَحَالَّ مخصوصةٍ أفضلُ من القراءة المطلقة، والقراءةُ المطلقة أفضل من الأذكار المطلقة، اللَّهُمَّ إلا أن يَعْرِضَ للعبدِ ما يجعل الذكر أو الدعاء أنفع له من قراءة القرآن.
المرجع السابق ص٢٣١-٢٣٢
١٢- في الصحيحين عن أبي مسعود الأنصاري، عن النبي ﷺ قال: «من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلةٍ كفتاه». الصحيحُ أن معناها: كفتاه من شر ما يؤذيه.
المرجع السابق ص٢٨٤
١٣- في الترمذي عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من أوى إلى فراشه طاهرًا، وذَكَر الله تعالى حتى يُدْرِكه النعاس، لم يَنْقَلِبْ ساعة من الليل يسأل الله تعالى فيها خيرًا من خير الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه» حديث حسن.
المرجع السابق ص٢٥٤
١٤- فأيُّ تَشَهُّدٍ أتى به من هذه التشهُّدات أجزأه.
وذهب الإمام أحمد وأبو حنيفة إلى تشهُّد ابن مسعود، وذهب الشافعي إلى تشهُّد ابن عباس، وذهب مالك إلى تشهُّد عمر رضي الله عنه.
والكُلُّ كافٍ مُجْزِئ.
المرجع السابق ص٢٨٩-٢٩٠
١٥- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حين يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم» حديث حسن.
المرجع السابق ص٣٢٣
١٦- وقال أبو هريرة: قال رسول الله ﷺ: «إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فَلْيُسَلِّمْ، فإذا أراد أن يقوم فلْيُسَلِّمْ، فليست الأولى بِأَحَقَّ من الآخرة». حديث حسن.
المرجع السابق ص٣٤٦
١٧- ثبت في النسائي عنه ﷺ أنه وضع يده في الجفنة، وقال: «توضؤوا بسم الله» .
المرجع السابق ٣٨٠
١٨- وأما الأذكار التي يقولها العامة على الوضوء عند كل عضوٍ فلا أصل لها عن رسول الله ﷺ، ولا عن أحد من الصحابة والتابعين، ولا الأئمة الأربعة، وفيها حديثٌ كذبٌ على رسول الله ﷺ.
المرجع السابق ص٣٨٤
١٩- ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: «من حلف منكم فقال في حلفه: والَّلات والعُزَّى، فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه: تعال أُقامِرْكَ، فليتصدق».
فكل من حلف بغير الله فهذه كفارته؛ لأن النبي ﷺ قال: «من حلف بغير الله فقد أشرك» حديث صحيح.
المرجع السابق ص٣٨٧
٢٠- وهذه المسألة فيها قولان للعلماء -هما روايتان عن الإمام أحمد-، وهما: هل يكفي في التوبة من الغيبةِ الاستغفارُ للمغتاب، أم لابد من إعلامه وتَحَلُّلِه؟
والصحيح أنه لا يحتاج إلى إعلامه، بل يكفيه الاستغفار له، وذِكْرُه بمحاسن ما فيه في المواطن التي اغتابه فيها. وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وغيره.
المرجع السابق ص٣٩٨
٢١- روى ابن وهب عن سليمان بن بلال عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: كان رسول الله ﷺ إذا كان في سفر فبدا له الفجر قال: «سَمَّع سامِعٌ بحمد الله ونعمته وحُسْنِ بلائه علينا، رَبَّنَا صَاحِبْنا فأفْضِلْ علينا، عائذًا بالله من النار» يقول ذلك ثلاث مرات، ويرفع بها صوته. هذا إسناد صحيح على شرط مسلم.
المرجع السابق ص٤٠٠
٢٢- وفي مسند الإمام أحمد، وسنن النسائي عن ابن عباس قال: كان من دعاء النبي ﷺ: «ربِّ أَعِنِّي ولا تُعِنْ عليَّ، وانصرني ولا تنصر عليَّ، وامكر لي ولا تمكر عليَّ، وانصرني على من بغى عليَّ، ربِّ اجعلني لك شكَّارًا، لك ذكَّارًا، لك رهَّابًا، لك مُخْبِتًا، إليك أوَّاهًا منيبًا، ربِّ تَقَبَّلْ توبتي، واغسل حَوْبتي، وأجب دعوتي، وثَبِّتْ حُجَّتي، واهْدِ قلبي، وسدِّد لساني، واسْلُلْ سخيمة صدري». هذا حديث صحيح.
المرجع السابق ص٤٠٤
٢٣- وفي الترمذي أن حصين بن المنذر الخزاعي رضي الله عنه قال له النبي ﷺ: «كم تعبد إلهًا»؟ قال: سبعة: ستة في الأرض، وواحدًا في السماء. قال: «فمن تَعُدُّ لرغبتك ورهبتك»؛ قال: الذي في السماء.
قال: «أما لو أسلمت لَعَلَّمْتُك كلمتين تنفعانك». فلما أسلم قال: يا رسول الله، علِّمني الكلمتين. قال: قل: «اللَّهُمَّ ألهمني رشدي، وقِني شر نفسي». حديث صحيح.
وزاد الحاكم في صحيحه: «اللَّهُمَّ قِني شر نفسي، واعزِمْ لي على أرشد أمري، اللَّهُمَّ اغفر لي ما أسررت وما أعلنت، وما أخطأت وما تعمّدت، وما علمت وما جهلت». وإسناده على شرط الصحيحين.
المرجع السابق ص٤١٠-٤١١
٢٤- وعن النواس بن سمعان قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «ما من قلبٍ إلا بين إصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه».
وكان رسول الله ﷺ يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، والميزانُ بيد الرحمن عز وجل، يرفع أقوامًا ويخفض آخرين إلى يوم القيامة». حديث صحيح رواه الإمام أحمد، والحاكم في صحيحه.
المرجع السابق ٤١٩

ثانيًا: الفوائد

٢٥- ولهذا كان الصوابُ أنَّ المعاد معلومٌ بالعقل مع الشرع، وأن كمالَ الربِّ تعالى وكمال أسمائه وصفاته تَقتضِيهِ وتُوجِبُهُ، وأنَّه مُنزَّهٌ عما يقولُه مُنكِروه كما يُنَزَّهُ كمالُه عن سائر العيوبِ والنقائص.
الفوائد ص٩
٢٦- ومنه قولُه تعالى: ﴿وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ﴾ [الأحقاف:٣٣]. قال ابن عباس: يريدُ: أفَعَجَزْنا؟ وكذلك قال مقاتلٌ.
قلت: هذا تفسيرٌ بلازم اللفظة، وحقيقتُها أعمُّ من ذلك؛ فإنَّ العرب تقولُ: أعياني أن أَعرِف كذا وعَيِيْتُ به: إذا لم تَهْتَدِ لوجهِهِ ولم تقْدِرْ على معرفته وتحصيله، فتقولُ: أعياني دواؤك: إذا لم تهتدِ له ولم تقفْ عليه، ولازم هذا المعنى العجزُ عنه.
وليس المرادُ بالإعياءِ في هذه الآية -يقصد ﴿أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ﴾ التعبَ كما يظنُّه من لم يَعرِفْ تفسيرَ القرآنِ، بل هذا المعنى هو الذي نفاه سبحانه عن نفسه في آخر السورة بقوله: ﴿وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾[ق:٣٨].
المرجع السابق ص١١
٢٧- ثم أخبر سبحانه أنَّ قرينَه -وهو الذي قُرِنَ به في الدُّنيا من الملائكةِ يَكْتُبُ عَمَلَه وقولَه- يقولُ لمَّا يُحْضِرُهُ: هذا الذي كنتَ وَكَلْتَني به في الدُّنيا قد أحضرتُه وأتيتكَ به. هذا قول مجاهدٍ.
وقال ابنُ قُتيبة: المعنى: هذا ما كتبتُهُ عليه وأحصيتُهُ من قولِهِ وعملِهِ حاضرٌ عندي.
والتحقيقُ أن الآية تتضمَّنُ الأمرين؛ أي: هذا الشخص الذي وُكِلْتُ به، وهذا عَملُهُ الذي أحصيتُهُ عليه.
المرجع السابق ص١٤
٢٨- ثم أخبر سبحانه أنه لا يُبدَّلُ القولُ لديه، فقيلَ: المرادُ بذلك: قولُه: ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾[هود:١١٩]، ووَعْدُه لأهل الإيمان بالجنة، وأنَّ هذا لا يُبدَّلُ ولا يُخْلفُ.
قال ابن عباس: يرِيدُ: ما لِوَعْدِي خُلْفٌ لأهل طاعتي ولا أهل معصيتي.
قال مجاهدٌ: قد قَضَيتُ ما أنا قاضٍ. وهذا أصحُّ القولين في الآية.
المرجع السابق ص١٦
٢٩- قول النبيِّ ﷺ لعمرَ: «وما يُدْرِيك أنَّ الله اطَّلَعَ على أهْلِ بَدْرٍ، فقالَ: اعْمَلُوا ما شئْتُم؛ فقدْ غَفَرْتُ لكُم؟!» أشْكَلَ على كثيرٍ من الناس معناهُ؛ فإنَّ ظاهرَه إباحةُ كلِّ الأعمال لهم وتخييرُهم فيما شاؤوا منها، وذلك ممتنعٌ.
فالذي نظنُّ في ذلك -والله أعلمُ- أنَّ هذا خطابٌ لقوم قد عَلِمَ الله سبحانه أنَّهم لا يفارقون دينهم، بل يموتون على الإسلام، وأنَّهم قد يُقارِفونَ بعضَ ما يُقارِفُهُ غيرُهم من الذُّنوب، ولكن لا يَترُكُهم سبحانه مُصرِّين عليها، بل يُوفِّقُهم لتوبةٍ نَصوحٍ واستغفارٍ وحسنات تمحو أثرَ ذلك، ويكونُ تخصيصُهم بهذا دون غيرهم، لأنَّه قد تَحقَّق ذلك فيهم وأنهم مغفورٌ لهم، ولا يمنعُ ذلك كونَ المغفرةِ حصلتْ بأسبابٍ تقومُ بهم؛ كما لا يقتضي ذلك أن يُعطِّلوا الفرائض وثوقًا بالمغفرة؛ فلو كانت قد حَصَلتْ بدون الاستمرار على القيام بالأوامر؛ لما احتاجوا بعد ذلك إلى صلاة ولا صيام ولا حجٍّ ولا زكاةٍ ولا جهادٍ! وهذا محالٌ! ومن أوجب الواجباتِ التوبةُ بعد الذنب؛ فضَمانُ المغفرةِ لا يُوجِبُ تعطيلَ أسبابَ المغفرة.
المرجع السابق ص ٢٠-٢٢
٣٠- قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيهِ النُّشُورُ﴾ [الملك:١٥].
الذي يظهرُ أن المراد بالمناكب الأعالي، وهذا الوجهُ الذي يمشي عليه الحيوانُ هو العالي من الأرض دون الوجه المقابل له؛ فإنَّ سطح الكُرَةِ أعلاها، والمشيُ إنَّما يَقعُ في سَطْحِها، وحسُنَ التعبيرُ عنه بالمناكب لما تقدَّم من وصفها بأنَّها ذَلولٌ.
المرجع السابق ص١٢٤
٣١- قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَينَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيهِ تُحْشَرُونَ﴾ [الأنفال:٢٤].
قال مجاهدٌ: ﴿لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ يعني: للحقِّ.
وقال قتادةُ: هو هذا القرآنُ، فيه الحياةُ والنجاةُ والعصمةُ في الدُّنيا والآخرة.
وقال السُّدِّيُّ: هو الإسلامُ؛ أحياهُم به بعد موتهم بالكفر.
وقال ابنُ إسحاق وعُروةُ بن الزبير -واللفظ لهُ-: ﴿لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾؛ يعني: للحرب التي أعزَّكُمُ الله بها بعدَ الذُّلِّ، وقَوَّاكم بعد الضَّعْفِ، ومنعكم بها من عدُوِّكم بعد القهر منهم لكم.
وهذه كلُّها عباراتٌ عن حقيقةٍ واحدة، وهي القيام بما جاء به الرسولُ ظاهرًا وباطنًا.
قال الواحديُّ: والأكثرون على أنَّ معنى قوله: ﴿لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾: هو الجهادُ، وهو قولُ ابن إسحاق واختيارُ أكثرِ أهل المعاني.
وقال بعضُ المفسِّرين: ﴿لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾؛ يعني الجنةَ؛ فإنَّها دارُ الحيوان، وفيها الحياةُ الدائمةُ الطيبةُ. حكاه أبو عليٍّ الجرجانيُّ.
والآيةُ تتناولُ هذا كلَّه؛ فإن الإيمان والإسلام والقرآن والجهاد تُحيِي القلوب الحياة الطَّيِّبة، وكمالُ الحياة في الجنة، والرسولُ داعٍ إلى الإيمان وإلى الجنَّة؛ فهو داعٍ إلى الحياة في الدُّنيا والآخرة.
المرجع السابق ص١٢٨-١٢٩
٣٢- وقوله: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَينَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾.
المشهورُ في الآية أنه يَحُول بين المؤمن وبين الكفر، وبين الكافر وبين الإيمان، ويَحُول بين أهل طاعته وبين معصيته، وبين أهل معصيته وبين طاعته. وهذا قولُ ابن عباسٍ وجمهور المفسرين.
وفي الآية قولٌ آخرُ: إن المعنى أنه سبحانه قريبٌ من قلبه، لا تخفَى عليه خافيةٌ؛ فهو بينه وبين قلبه. ذكره الواحديُّ عن قتادة. وكأنَّ هذا أنسبُ بالسياق؛ لأنَّ الاستجابة أصلها بالقلب؛ فلا تَنفعُ الاستجابة بالبدن دون القلب؛ فإن الله سبحانه بين العبد وبين قلبه؛ فيعلم هل استجاب له قلبه؟ وهل أضمرَ ذلك أو أضمرَ خلافه؟
المرجع السابق ص١٣١
٣٣- قال سهل بن عبد الله: ترك الأمر عند الله أعظم من ارتكاب النهي؛ لأنَّ آدم نُهِي عن أكل الشجرة فأكل منها فتاب عليه، وإبليس أُمِر أن يسجد لآدم فلم يسجد فلم يُتَب عليه.
قلت: هذه مسألة عظيمةٌ لها شأنٌ، وهي أن ترك الأوامر أعظم عند الله من ارتكاب المناهي، وذلك من وجوه عديدة: ثم ذكر ثلاثة وعشرين وجها، وقال في آخرها: وسرُّ هذه الوجوه: أنَّ المأمور به محبوبُهُ والمنهيَّ مكروهُة، ووقوعُ محبوبه أحبَّ إليه من فوات مكروهة، وفواتُ محبوبه أكرهُ إليه من وقوع مكروهة.
المرجع السابق ص١٧١-١٨٥
٣٤- الناس اختلفوا في المطلوب بالنهي على أقوال:
والتحقيق أن المطلوب نوعان:
مطلوب لنفسه، وهو المأمور به.
ومطلوبٌ إعدامه لمضادته المأمورَ به، وهو المنهي عنه؛ لما فيه من المفسدة المضادة للمأمور به. فإذا لم يَخطُرْ ببال المكلف، ولا دعتْه نفسُه إليه، بل استمر على العدم الأصلي؛ لم يُثَبْ على تركه. وإن خطر بباله، وكفَّ نفسه عنه لله، وتركه اختيارًا؛ أُثيب على كف نفسه وامتناعه؛ فإنه فعل وجوديٌّ، والثواب إنما يقع على الأمر الوجودي دون العدم المحض. وإن تركه مع عزمه الجازم على فعله، لكن تركه عجزًا؛ فهذا وإن لم يُعاقَب عقوبةَ الفاعل، لكن يُعاقَب على عزمه وإرادته الجازمة التي إنما تخلَّف مرادُها عجزًا.
وقد دلت على ذلك النصوص الكثيرة؛ فلا يُلتَفت إلى ما خالفها:
كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [البقرة:٢٨٤].
وقوله في كاتم الشهادة: ﴿فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ [البقرة:٢٨٣].
وقوله: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ [البقرة:٢٢٥].
وقوله: ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ﴾ [الطارق:٩].
وقول النبي ﷺ: «إذا تواجهَ المسلمانِ بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار». قالوا: هذا القاتل؛ فما بال المقتول؟! قال: «إنه أراد قتل صاحبه»
المرجع السابق ص١٧٧-١٧٨
٣٥- الأمر بالشيء نهيٌ عن ضدِّه من طريق اللُّزوم العقلي لا القصد الطلبي؛ فإن الآمر إنما مقصوده فعل المأمور؛ فإذا كان من لوازمه ترك الضد صار تركه مقصودًا لغيره. وهذا هو الصوابُ في مسألة الأمر بالشيء؛ هل هو نهيٌ عن ضدِّه أم لا؟ فهو نهيٌ عنه من جهة اللُّزوم لا من جهة القصد والطلب. وكذلك النهي عن الشي؛ مقصود الناهي بالقصد الأوَّل الانتهاءُ عن المنهي عنه، وكونه مشتغلًا بضدِّه جاء من جهة اللزوم العقليِّ، لكن إنما نهي عما يضادُّ ما أمر به كما تقدم. فكان المأمور به هو المقصود بالقصد الأول في الموضعين.
وحرف المسألة: أن طلب الشيء طلبٌ له بالذَّات ولما هو من ضرورته باللُّزوم، والنهي عن الشيء طلبٌ لتركه بالذات ولفعل ما هو من ضرورة الترك باللُّزوم، والمطلوب في الموضعين فعلٌ وكفٌّ، وكلاهما أمرٌ وجوديٌّ.
المرجع السابق ص١٧٩-١٨٠
٣٦- قال تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ [يونس:٥٧-٥٨،]، وقد تنوَّعت عبارات السلف في تفسير الفضل والرحمة، والصحيح أنهما الهدى والنعمة؛ ففضله هداه، ورحمته نعمتُه، ولذلك يقرن بين الهدى والنعمة.
كقوله في سورة الفاتحة: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيهِمْ﴾ [الفاتحة: ٦-٧].
ومن ذلك قوله لنبيه يذكره بنعمه عليه: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (٧) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾ [الضحى:٦-٨]؛ فجمع له بين هدايته له وإنعامه عليه بإيوائه وإغنائه.
المرجع السابق ص١٩٤
٣٧- ومن أسمائه الحسنى: الجميل.
وفي الصحيح عنه ﷺ: «إن الله جميل يحب الجمال».
الفوائد ص٢٦٥
٣٨- وهو سبحانه كما يحب الجمال في الأقوال والأفعال واللباس والهيئة يُبغِضُ القبيح من الأقوال والأفعال والثياب والهيئة؛ فيبغض القبيح وأهله، ويحب الجمال وأهله.
ولكن ضل في هذا الموضع فريقان:
فريق قالوا: كل ما خلقه جميل؛ فهو يحب كل ما خلقه، ونحن نحب جميع ما خلقه؛ فلا نبغض منه شيئًا. قالوا: ومن رأى الكائنات منه رآها كلها جميلة.
وقابلهم الفريقُ الثاني، فقالوا: قد ذمَّ سبحانه جمالَ الصور وتمام القامة والخلقة؛ فقال عن المنافقين: ﴿وَإِذَا رَأَيتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ﴾[المنافقون:٤]، وفصل النزاع أن يقال: الجمال في الصورة واللباس والهيئة ثلاثة أنواع: منه ما يُحمَد، ومنه ما يُذَمّ، ومنه ما لا يتعلق به مدحٌ ولا ذمٌّ: فالمحمود منه ما كان لله وأعان على طاعة الله وتنفيذ أوامره والاستجابة له؛ كما كان النبي ﷺ يتجمل للوفود، وهو نظير لباس آلة الحرب للقتال ولباس الحرير في الحرب والخيلاء فيه؛ فإن ذلك محمودٌ إذا تضمَّنَ إعلاءَ كلمة الله ونصرَ دينِه وغيظَ عدوِّه. والمذموم منه ما كان للدنيا والرئاسة والفخر والخيلاء والتوسل إلى الشهوات، وأن يكون هو غاية العبد وأقصى مطلبه؛ فإن كثيرًا من النفوس ليس لها همةٌ في سوى ذلك.
وأما ما لا يُحمَد ولا يُذم فهو ما خلا عن هذين القصدين وتجرد عن الوصفين.
الفوائد ٢٦٩-٢٧٠
٣٩- قال تعالى: ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا﴾[نوح:١٣]؛ أي لا تعاملونه معاملةَ من توقِّرونه، والتوقير: العظمة، ومنه قوله تعالى: ﴿وَتُوَقِّرُوهُ﴾[الفتح:٩]؛ قال الحسن: ما لكم لا تعرفون لله حقًّا ولا تشكرونه؟! وقال مجاهدٌ: لا تبالون عظمة ربكم. وقال ابن زيد: لا ترون لله طاعة. وقال ابن عباس: لا تعرفون حقَّ عظمته.
وهذه الأقوال ترجع إلى معنى واحد، وهو أنهم لو عظَّموا الله وعرفوا حقَّ عظمته وحَّدوه وأطاعوه وشكروه؛ فطاعته سبحانه واجتناب معاصيه والحياء منه بحسب وقاره في القلب.
الفوائد ص٢٧٣

ثالثا: الداء والدواء

٤٠-وقال: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الإسراء: ٨٢]، و«من» ها هنا لبيان الجنس لا للتبعيض، فإن القرآن كله شفاء، كما قال في الآية الأخرى . فهو شفاء للقلوب من داء الجهل والشك والريب، فلم ينزل الله سبحانه من السماء شفاء قط أعم ولا أنفع ولا أعظم ولا أنجع في إزالة الداء من القرآن.
الداء والدواء ص٦
٤١-وههنا سؤال مشهور، وهو أنّ المدعوّ به إن كان قد قُدِّر لم يكن بدّ من وقوعه، دعا به العبد أو لم يدعُ. وإن لم يكن قد قدّر لم يقع، سواء سأله العبد أو لم يسأله.
فظنت طائفة صحة هذا السؤال، فتركت الدعاء، وقالت: لا فائدة فيه! وهؤلاء -مع فرط جهلهم وضلالهم- متناقضون، فإنّ طردَ مذهبهم يُوجِب تعطيلَ جميع الأسباب.
وتكايس بعضهم، وقال: الاشتغال بالدعاء من باب التعبد المحض، يثيب الله عليه الداعي، من غير أن يكون له تأثير في المطلوب بوجه ما. ولا فرق عند هذا الكيّس بين الدعاء وبين الإمساك عنه بالقلب واللسان في التأثير في حصول المطلوب، وارتباطُ الدعاء عندهم به كارتباط السكوت، ولا فرق.
وقالت طائفة أخرى أكيَسُ من هؤلاء: بل الدعاء علامة مجردة نصبها الله سبحانه أمارةً على قضاء الحاجة. فمتى وُفّق العبد للدعاء كان ذلك علامة له وأمارة على أنّ حاجته قد قُضيت. وهذا كما إذا رأينا غيمًا أسودَ باردًا في زمن الشتاء، فإنّ ذلك دليل وعلامة على أنّه يمطر.
قالوا : وهكذا حكم الطاعات مع الثواب، والكفر والمعاصي مع العقاب، هي أمارات محضة لوقوع الثواب والعقاب، لا أنّها أسباب له.
وخالفوا بذلك الحس، والعقل، والشرع، والفطرة، وسائر طوائف العقلاء، بل أضحكوا عليهم العقلاء!
والصواب أنّ ها هنا قسمًا ثالثًا غير ما ذكره السائل، وهو أن هذا المقدور قُدر بأسباب، ومن أسبابه الدعاء. فلم يقدر مجردًا عن سببه، ولكن قدر بسببه. فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور ، ومتى لم يأت بالسبب انتفى المقدور. وهذا كما قُدر الشبع والريّ بالأكل والشرب، وقدر الولد بالوطء، وقدر حصول الزرع بالبذر، وقدر خروج نفس الحيوان بذبحه. وكذلك قُدر دخول الجنة بالأعمال،
ودخول النار بالأعمال.
وهذا القسم هو الحق، وهو الذي حُرِمَه السائل ولم يوفَّق له.
المرجع السابق ص٢٦-٢٧-٢٨
٤٢-وقال الإِمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر، ثنا أبو بكر، عن الأعمش، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إذا ضنّ الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعِينة، واتّبعوا أذنابَ البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاءً، فلا يرفعه حتّى يراجعوا دينَهم». ورواه أبو داود بإسناد حسن.
المرجع السابق ص١١٥
٤٣-المعاصي تقصّر العمر ، وتمحق بركته، ولابدّ؛ فإنّ البرّ كما يزيد في العمر، فالفجور يقصّر العمر.
وقد اختلف الناس في هذا الموضع. فقالت طائفة: نقصان عمر العاصي هو ذهابُ بركة عمره ومحقُها عليه. وهذا حقّ، وهو بعض تأثير المعاصي.
وقالت طائفة: بل تنقصه حقيقة، كما ينقص الرزقُ. فجعل الله سبحانه للبركة في الرزق أسبابًا تكثِّره وتزيده، وللبركة في العمر أسبابًا تكثِّره وتزيده .
وقالت طائفة أخرى: تأثير المعاصي في محق العمر إنّما هو بأنّ حقيقة الحياة هي حياة القلب، ولهذا جعل الله سبحانه الكافر ميتًا غير حيّ، كما قال تعالى: ﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ﴾ [النحل:٢١]
وبالجملة، فالعبد إذا أعرض عن الله، واشتغل بالمعاصي، ضاعت عليه أيام حياته الحقيقية التي يجد غبَّ إضاعتها يوم يقول: ﴿يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (٢٤)﴾ [الفجر: ٢٤]. فلا يخلو إمّا أن يكون له مع ذلك تطلّع إلى مصالحه الدنيوية والأخروية، أو لا. فإن لم يكن له تطلع إلى ذلك ، فقد ضاع عليه عمره كلّه، وذهبت حياته باطلًا. وإن كان له تطلع إلى ذلك طالت عليه الطريق بسبب العوائق، وتعسّرت عليه أسباب الخير، بحسب اشتغاله بأضدادها، وذلك نقصان حقيقي من عمره.
وسرّ المسألة أنّ عمر الإنسان مدة حياته، ولا حياة له إلا بإقباله على ربه ، والتنعم بحبه وذكره، وإيثار مرضاته.
المرجع السابق ص١٣٧-١٣٨
٤٤-﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ الآية [الروم: ٤١]
الظاهر -والله أعلم- أنّ «الفسادَ» المرادُ به الذنوبُ وموجباتها .
ويدل عليه قوله: ﴿لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا﴾. فهذا حالنا، وإنّما أذاقنا الشيءَ اليسيرَ من أعمالنا، فلو أذاقنا كلَّ أعمالنا لما ترك على ظهرها من دابة.
المرجع السابق ص١٥٩
٤٥-قالﷺ : «إنّ مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستَحْي فاصنَعْ ما شئتَ!» .
وفيه تفسيران:
أحدهما: أنه على التهديد والوعيد، والمعنى: من لم يستح فإنّه يصنع ما شاء من القبائح، إذ الحامل على تركها الحياء، فإذا لم يكن هناك حياء يزَعُه من القبائح، فإنّه يواقعها. وهذا تفسير أبي عبيد .
والثاني: أنّ الفعلَ إذا لم تستح منه من الله فافعله، وإنما الذي ينبغي تركه ما يستحى منه من الله. وهذا تفسير الإِمام أحمد في رواية ابن هانئ .
فعلى الأول يكون تهديدًا، كقوله: ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾ [فصلت: ٤٠]، وعلى الثاني يكون إذنًا وإباحةً.
فإن قيل: فهل من سبيل إلى حمله على المعنيين؟
قلت: لا، ولا على قول من يحمل المشترك على جميع معانيه، لما بين الإباحة والتهديد من المنافاة، ولكن اعتبار أحد المعنيين يوجب اعتبار الآخر.
المرجع السابق ص١٦٩
٤٦-قال تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (٥٠)﴾ [الكهف: ٥٠].
يشبه أن يكون تحت هذا الخطاب نوعٌ من العتاب لطيفٌ عجيبٌ، وهو أنّي عاديتُ إبليس إذ لم يسجد لأبيكم آدم مع ملائكتي، فكانت معاداتُه لأجلكم، ثم كان عاقبة هذه المعاداة أن عقدتم بينكم وبينه عقد المصالحة!
المرجع السابق ص١٩٩
٤٧-واختلف الناس: هل يعود بعد التوبة إلى درجته التي كان فيها، بناءً على أنّ التوبة تمحو أثر الذنب، وتجعل وجوده كعدمه، فكأنّه لم يكن؛ أو لا يعود بناءً على أنّ التوبة تأثيرها في إسقاط العقوبة، وأما الدرجة التي فاتته فإنّه لا يصل إليها؟
وحكم شيخ الإِسلام ابن تيمية بين الطائفتين حكمًا مقبولًا فقال: التحقيق أنّ من التائبين من يعود إلى أرفع من درجته، ومنهم من يعود إلى مثل درجته، ومنهم من لا يصل إلى درجته.
قلت: وهذا بحسب قوة التوبة وكمالها، وما أحدثته المعصيةُ للعبد من الذلّ والخضوع والإنابة، والحذر والخوف من الله، والبكاء من خشيته؛ فقد تقوى هذه الأمور حتى يعود التائب إلى أرفع من درجته، ويصير بعد التوبة خيرًا منه قبل الخطيئة. فهذا قد تكون الخطيئة في حقّه رحمةً، فإنّها نفتْ عنه داءَ العجب، وخلّصتْه من ثقته بنفسه وأعماله، ووضعتْ خدَّ ضراعته وذلّه وانكساره على عتبة باب سيّده ومولاه، وعرّفتْه قدرَه، وأشهدَتْه فقرَه وضرورتَه إلى حفظ سيّده له، وإلى عفوه عنه ومغفرته له، وأخرجَتْ من قلبه صولة الطاعة، وكسرتْ أنفَه من أن يشمخ بها، أو يتكبّر بها، أو يرى نفسه بها خيرًا من غيره؛ وأوقفته بين يدي ربه موقفَ الخطّائين المذنبين ناكسَ الرأس بين يدي ربّه، مستَحْييًا منه، خائفًا وجلًا، محتقرًا لطاعته، مستعظمًا لمعصيته، قد عرف نفسَه بالنقص وَالذمّ، وربَّه منفردًا بالكمال والحمد والوفاء، كما قيل:
استأثرَ اللهُ بالوفاء وبالـ ... ـحمد وولّى الملامةَ الرّجُلا
فأيّ نعمةٍ وصلت من الله إليه استكثرها على نفسه، ورأى نفسه دونها، ولم يرها أهلًا لها. وأي نقمة أو بليّة وصلت إليه رأى نفسه أهلًا لما هو أكبر منها، ورأى مولاه قد أحسن إليه، إذ لم يعاقبه على قدر جُرمه ولا شطرِه ولا أدنى جزء منه. فإنّ ما يستحقّه من العقوبة لا تحمله الجبال الراسيات، فضلًا عن هذا العبد الضعيف العاجز.
فإنّ الذنب وإن صغر، فإنّ مقابلةَ العظيم الذي لا شيء أعظم منه، الكبير الذي لا شيء أكبر منه، الكريم الذي لا أجلَّ منه ولا أجملَ، المنعِمِ بجميع أصناف النعم دقيقِها وجليلِها من أقبح الأمور وأفظعها وأشنعها. فإنّ مقابلةَ العظماء والأجلّاء وسادات الناس بمثل ذلك يستقبحه كلُّ أحد مؤمن وكافر. وأرذلُ الناس وأسقطُهم مروءةً مَن قابلَهم بالرذائل، فكيف بعظيم السموات والأرض، وملِك السموات والأرض، وإلهِ أهل السموات والأرض؟
والمقصود أن العبد قد يكون بعد التوبة خيرًا مما كان قبل الخطيئة وأرفع درجةً. وقد تُضعِف الخطيئةُ همّتَه، وتُوهن عزمَه، وتُمرض قلبَه، فلا يقوى دواء التوبة على إعادته إلى الصحة الأولى، فلا يعود إلى درجته. وقد يزول المرض بحيث تعود الصحة كما كانت، ويعود إلى مثل عمله، فيعود إلى درجته.
هذا كلّه إذا كان نزوله إلى معصية. فإن كان نزوله إلى أمر يقدح في أصل إيمانه مثل الشكوك والريب والنفاق، فذاك نزول لا يُرجى لصاحبه صعودٌ إلا بتجديد إسلامه من رأسٍ.
المرجع السابق ص٢٠٧-٢٠٨-٢٠٩-٢١١
٤٨-وشرع الكفّارة في ثلاثة أنواع:
أحدها: ما كان مباح الأصل ثم عرض تحريمه، فباشره في الحال التي عرض فيها التحريم، كالوطء في الإحرام والصيام وطَرْدُه الوطءُ في الحيض والنفاس، بخلاف الوطء في الدبر، ولهذا كان إلحاق بعض الفقهاء له بالوطء في الحيض لا يصحّ، فإنّه لا يباح في وقت دون وقت، فهو بمنزلة التلوّط وشرب المسكر.
النوع الثاني: ما عقده لله من نذر، أو بالله من يمين، أو حرّمه الله ثم أراد حِلّه؛ فشرع الله سبحانه حِلَّه بالكفارة، وسماها تحِلّةً. وليست هذه الكفارة ماحيةً لهتك حرمة الاسم بالحِنْث كما ظنّه بعض الفقهاء، فإنّ الحنث قد يكون واجبًا، وقد يكون مستحبًا، وقد يكون مباحًاة وإنما الكفارة حِلّ لما عقده.
النوع الثالث: ما تكون فيه جابرةً لما فات، ككفارة قتل الخطأ وإن لم يكن هناك إثم، وكفارة قتل الصيد خطأً، فإنّ ذلك من باب الجوابر. والنوع الأول من باب الزواجر، والنوع الوسط من باب التحلة لما منعه العقد.
المرجع السابق ص٢٦٥-٢٦٦
٤٩-وقد اختلف في معنى قوله: «ومن سيئات أعمالنا»، هل معناه: السيّئ من أعمالنا، فيكون من باب إضافة النوع إلى جنسه ويكون بمعنى «من»؟ وقيل: معناه: من عقوباتها التي تسوء، فيكون التقدير: ومن عقوبات أعمالنا التي تسوؤنا.
ويرجِّح هذا القول أنّ الاستعاذة تكون قد تضمّنت جميع الشرّ، فإنّ شرور الأنفس تستلزم الأعمال السيئة، وهي تستلزم العقوبات السيئة فنبّه بشرور الأنفس على ما تقتضيه من قبح الأعمال، واكتفى بذكرها منه إذ هي أصله. ثم ذكر غاية الشرّ ومنتهاه، وهو السيئات التي تسوء العبد من عمله من العقوبات والآلام. فتضمنت هذه الاستعاذة أصلَ الشرِّ، وفروعَه، وغايتَه، ومقتضاه.
المرجع السابق ص٢٦٩
٥٠-قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (١٢٤)﴾ [طه: ١٢٤].
وفُسِّرت المعيشة الضنك بعذاب القبر، ولا ريب أنّه من المعيشة الضنك، والآية تتناول ما هو أعمُّ منه، وإن كانت نكرةً في سياق الإثبات، فإنّ عمومها من حيث المعنى، فإنّه سبحانه رتب المعيشة الضنك على الإعراض عن ذكره.
فالمعرض عنه له من ضنك المعيشة بحسب إعراضه، وإن تنعّم في الدنيا بأصناف النعيم، ففي قلبه من الوحشة والذل والحسرات التي تقطع القلوب والأماني الباطلة والعذاب الحاضر ما فيه، وإنّما يواريه عنه سكرُ الشهوات والعشق وحبّ الدنيا والرياسة، إن لم ينضمَّ إلى ذلك سكرُ الخمر! فسكر هذه الأمور أعظم من سكر الخمر، فإنّه يفيق صاحبه ويصحو، وسكرُ الهوى وحبّ الدنيا لا يصحو صاحبه إلا إذا صار في عسكر الأموات.
فالمعيشة الضنك لازمة لمن أعرض عن ذكر الله الذي أنزله على رسوله ﷺ في دنياه، وفي البرزخ، ويوم معاده.
المرجع السابق ص٢٧٨-٢٧٩-٢٨٠

٥١-وقد دلّ القرآنُ والسنّةُ وإجماعُ الصحابةِ والتابعينَ بعدهم والأئمّةِ على أنّ من الذنوب كبائرَ وصغائرَ. قال تعالى: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ [النساء: ٣١]. وقال تعالى: (﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ﴾ [النجم: ٣٢].
وفي الصحيح عنه ﷺ أنه قال: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفِّراتٌ لما بينهنّ، إذا اجتُنِبَت الكبائر».
وهذه الأعمال المكفّرة لها ثلاث درجات: إحداها: أن تقصّر عن تكفير الصغائر، لضعفِها وضعفِ الإخلاص فيها والقيام بحقوقها؛ بمنزلة الدواء الضعيف الذي ينقص عن مقاومة الدّاء كميّةً وكيفيةً.
الثانية: أن تقاوم الصغائرَ، ولا ترتقي إلى تكفير شيء من الكبائر.
الثالثة: أن تقوَى على تكفير الصغائر، وتبقى فيها قوةٌ تكفّر بها بعضَ الكبائر.
فتأمَّلْ هذا، فإنّه يزيل عنك إشكالات كثيرة.
المرجع السابق ص٢٨٩-٢٩٠
٥٢-واختلف الناس في الكبائر، هل لها عدد يحصرها؟ على قولين.
ثم الذين قالوا بحصرها اختلفوا في عددها، وكذلك الذين لم يحصروها بعدد ، والذين لم يقسموها إلى كبائر وصغائر قالوا: الذنوب كلها بالنسبة إلى الجراءة على الله سبحانه ومعصيته ومخالفة أمره كبائر، فالنظر إلى من عُصيَ أمره وانتهكت محارمه يوجب أن تكون الذنوب كلّها كبائر، وهي مستوية في هذه المفسدة.
وكشف الغطاء عن هذه المسألة أن يقال:
إن الله عز وجل أرسل رسله، وأنزل كتبه، وخلق السموات والأرض، لِيُعرفَ، ويوحَّد، ويُعبَدَ، ويكون الدين كلّه له، والطاعة كلّها له، والدعوة له، كما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: ٥٦].
وقال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ [الحجر: ٨٥].
وقال تعالى ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق: ١٢].
وقال تعالى: ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [المائدة: ٩٧].
فأخبر سبحانه أنّ القصد بالخلق والأمر أن يُعرَفَ بأسمائه وصفاته، ويُعبَد وحده لا يُشرَك به، وأن يقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض، كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد: ٢٥]، فأخبر أنّه أرسل رسله، وأنزل كتبه، ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل . ومن أعظم القسط: التوحيدُ، بل هو رأسُ العدل وقِوامُه، وإنّ الشرك لظلم عظيم. فالشرك أظلَمُ الظلمِ، والتوحيد أعدَلُ العدلِ. فما كان أشدَّ منافاة لهذا المقصود فهو أكبر الكبائر، وتفاوتُها في درجاتها بحسب منافاتها له. وما كان أشدّ موافقةً لهذا المقصود فهو أوجب الواجبات، وأفرض الطاعات.
فتأمَّلْ هذا الأصلَ حقَّ التأمّل، واعتبِرْ به تفاصيلَه تَعرِفْ به حكمة أحكمِ الحاكمين وأعلمِ العالمين فيما فرضه على عباده، وحرّمه عليهم؛ وتفاوُتَ مراتبِ الطاعات والمعاصي.
ولمّا كان الشرك بالله منافيًا بالذات لهذا المقصود كان أكبر الكبائر على الإطلاق، وحرّم الله الجنّةَ على كل مشرك، وأباح دمَه ومالَه وأهلَه لأهل التوحيد وأن يتخذوهم عبيدًا لهم، لما تركوا القيام بعبوديته. وأبى الله سبحانه أن يقبل من مشرك عملًا، أو يقبل فيه شفاعةً، أو يستجيب له في الآخرة دعوةً، أو يُقيل له فيها عثرةً، فإنّ المشرك أجهل الجاهلين بالله، حيث جعل له من خلقه نِدًّا، وذلك غاية الجهل به، كما أنه غايةُ الظلم منه؛ وإن كان المشرك لم يظلم ربَّه، وإنما ظلم نفسه.
المرجع السابق ص٢٩١-٢٩٢-٢٩٣-٢٩٥٢٩٦
٥٣-وقد جعل الله سبحانه جزاءَ قتل النفس المؤمنة عمدًا الخلودَ في النار، وغضب الجبار، ولعنته، وإعداد العذاب العظيم له. هذا موجَب قتل المؤمن عمدًا، ما لم يمنع منه مانع. ولا خلاف أنّ الإِسلام الواقع بعد القتل طوعًا واختيارًا مانع من نفوذ ذلك الجزاء.
وهل تمنع توبة المسلم منه بعد وقوعه؟ فيه قولان للسلف والخلف، وهما روايتان عن أحمد.
والذين قالوا: لا تمنع التوبة من نفوذه، رأوا أنّه حقّ لآدمي لم يستوفه في دار الدنيا، وخرج منها بظلامته، فلابد أن يُستوفَى له في دار العدل.
قالوا: وما استوفاه الوارث وإنّما استوفى محض حقّه الذي خيّره الله بين استيفائه والعفو عنه، وما ينفع المقتولَ من استيفاء وارثه، وأيّ استدراك لظلامته حصل له باستيفاء وارثه؟
وهذا أصحّ القولين في المسألة أن حقّ المقتول لا يسقط باستيفاء الوارث. وهما وجهان لأصحاب أحمد والشافعي وغيرهم.
ثم ذكر القول الآخر وحجج أصحابه، وقال بعد ذلك :
والتحقيق في هذه المسألة أنّ القتل يتعلق به ثلاث حقوق: حقّ لله، وحقّ للمقتول، وحقّ للولي. فإذا سلّم القاتل نفسه طوعًا واختيارًا إلى الولي ندمًا على ما فعل، وخوفًا من الله، وتوبةً نصوحًا،سقط حقُّ الله بالتوبة، وحقُّ الولي بالاستيفاء أو الصلح أو العفو، وبقي حقّ المقتول يعوّضه الله عنه يوم القيامة عن عبده التائب المحسن، ويصلح بينه وبينه، فلا يذهب حقّ هذا، ولا تبطل توبة هذا.
المرجع السابق ص٣٣٣-٣٣٤
٥٤-وأما مسألة المال: فقد اختلف فيها، فقالت طائفة: إذا أدى ما عليه من المال إلى الوارث فقد برئ من عهدته في الآخرة، كما بريء منها في الدنيا.
وقالت طائفة: بل المطالبةُ لمن ظلمه بأخذه باقيةٌ عليه يوم القيامة، وهو لم يستدرك ظلامته بأخذ وارثه له، فإنّه منعه من انتفاعه به في طول حياته، ومات ولم ينتفع به. وهذا ظلم لم يستدركه هو، وإنما انتفع غيره باستدراكه.
وفصل شيخنا بين الطائفتين، فقال: إن تمكن الموروث من أخذ ماله والمطالبة به فلم يأخذه حتى مات صارت المطالبة به للوارث في الآخرة، كما هي كذلك في الدنيا. وإن لم يتمكن من طلبه وأخذه بل حال بينه وبينه ظلمًا وعدوانًا فالطلب له في الآخرة.
وهذا التفصيل من أحسن ما يقال، فإنّ المال إذا استهلكه الظالم على الموروث، وتعذّر عليه أخذه منه، صار بمنزلة عبده الذي قتله قاتل، ودارِه التي أحرقها غيرُه، وطعامِه وشرابه الذي أكله وشربه غيرُه.
ومثل هذا إنما تلف على الموروث لا على الوارث، فحقُّ المطالبة لمن تلِفَ على ملكه.
بقي أن يقال: فإذا كان المال عقارًا أو أرضًا أو أعيانًا قائمةً باقيةً بعد الموت، فهي ملك للوارث، يجب على الغاصب دفعها إليه كلّ وقت . فإذا لم يدفع إليه أعيان ماله استحقّ المطالبة بها عند الله، كما يستحق المطالبة بها في الدنيا.
وهذا سؤال قوي لا مخلص منه إلا بأن يقال: المطالبة لهما جميعًا، كما لو غصب مالًا مشتركًا بين جماعة استحقّ كل منهم المطالبة بحقّه منه، وكما لو استولى على وقف مرتّب على بطون، فأبطل حقّ البطون كلّهم منه، كانت المطالبة يوم القيامة لجميعهم، ولم يكن بعضهم أولى بها من بعض. والله أعلم.
المرجع السابق ص٣٣٥-٣٣٦
٥٥-ولما كانت مفسدة القتل هذه المفسدة،قال تعالى: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ﴾ [المائدة: ٣٢].
وقد أشكل فهم هذا على كثير من الناس، وقالوا: معلوم أنّ إثمَ قاتلِ مائةٍ أعظمُ عند الله من إثم قاتل نفس واحدة.
وإنّما أُتوا من ظنّهم أنّ التشبيه في مقدار الإثم والعقوبة، واللفظُ لم يدلّ على هذا، ولا يلزم من تشبيه الشيء بالشيء أخذُه بجميع أحكامه.
فإن قيل: ففي أيّ شيء وقع التشبيه بين قاتل نفس واحدة وقاتل الناس جميعًا؟
قَيل: في وجوه متعددة:
ثم ذكر -رحمه الله-خمسة أوجه، فراجعها فإنها من المهمات!.
٥٦-وهذا عمر بن الخطاب كانت تتزاحم عليه الخواطر في مراضي الربّ تعالى، فربّما استعملها في صلاته، فكان يجهِّز جيشَه وهو في صلاته، فيكون قد جمع بين الجهاد والصلاة.
وهذا من باب تداخل العبادات في العبادة الواحدة. وهو باب عزيز شريف لا يعرفه إلا صادق الطلب، متضلّع من العلم، عالي الهمة، بحيث يدخل في عبادة يظفر فيها بعبادات شتى. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
المرجع السابق ص٣٦٣
٥٧-وذكر الترمذي بإسناد صحيح عنه ﷺ: «من حسن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه».
المرجع السابق ص٣٧١
٥٨-واختلف السلف والخلف هل يُكتَبُ جميع ما يلفظ به العبد، أو الخير والشرّ فقط ؟ على قولين، أظهرهما الأول .
المرجع السابق ص٣٧٤
٥٩-وقد اختلف الناس: هل يدخل الجنّةَ مفعول به؟ على قولين سمعتُ شيخ الإِسلام يحكيهما.
والتحقيق في المسألة أن يقال: إن تاب المبتلى بهذا البلاء، وأناب، ورُزق توبة نصوحًا وعملًا صالحًا، وكان في كبره خيرًا منه في صغره، وبذَل سيئآته بحسنات، وغسل عارَ ذلك عنه بأنواع الطاعات والقربات، وغضّ بصره، وحفظ فرجه من المحرمات، وصدَق الله في معاملته فهذا مغفور له، وهو من أهل الجنّة. فإنّ الله يغفر الذنوب جميعًا، وإذا كانت التوبة تمحو كلّ ذنب حتى الشرك بالله، وقتل أنبيائه وأوليائه، والسحر، والكفر، وغير ذلك، فلا تقصُر عن محو هذا الذنب.
وقد استقرّت حكمة الله به عدلًا وفضلًا أنّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وقد ضمن الله سبحانه لمن تاب من الشرك وقتل النفس والزنى أنّه يبدّل سيئاتِه حسناتٍ. وهذا حكم عامّ لكلّ تائب من كلّ ذنب. وقد قال تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: ٥٣]، فلا يخرج من هذا العموم ذنب واحد. ولكن هذا في حقّ التائبين خاصة.
وأمّا مفعول به كان في كبره شرًّا مما كان في صغره، لم يوفَّق لتوبة نصوح ولا لعمل صالح، ولا استدرك ما فات، ولا أحيا ما أمات، ولا بدّل السيئات بالحسنات فهذا بعيد أن يوفَّق عند الممات لخاتمةٍ يدخل بها الجنّة عقوبة له على عمله. فإنّ الله سبحانه يعاقب على السيئة بسيئة أخرى، فتتضاعف عقوبة السيئات بعضها ببعض، كما يثيب على الحسنة بحسنة أخرى.
وإذا نظرت إلى كثير من المحتضَرين وجدتهم يحال بينهم وبيّن حسن الخاتمة، عقوبةً لهم على أعمالهم السيئة.
المرجع السابق ص٣٨٣-٣٨٤-٣٨٥-٣٨٦
٦٠-ولما كانت مفسدة اللواط من أعظم المفاسد كانت عقوبته في الدنيا والآخرة من أعظم العقوبات.
وقد اختلف الناس: هل هو أغلظ عقوبةً من الزنى، أو الزنى أغلظ عقوبةً منه، أو عقوبتهما سواء؟ على ثلاثة أقوال:
-فذهب أبو بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، وخالد بن الوليد، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عباس، وجابر بن زيد، وعبيد الله بن عبد الله بن معمر، والزهري، وربيعة بن أبي عبد الرحمن ، ومالك، وإسحاق بن راهويه، والإمام أحمد في أصحّ الروايتين عنه، والشافعي في أحد قوليه إلى أنّ عقوبته أغلظ من عقوبة الزنا، وعقوبته القتل على كلّ حال محصنًا كان أو غير محصن.
-وذهب عطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، وسعيد بن المسيّب، وإبراهيم النخعي، وقتادة، والأوزاعي، والشافعي في ظاهر مذهبه، والإمام أحمد في الرواية الثانية عنه، وأبو يوسف ومحمد إلى أنّ عقوبته وعقوبة الزاني سواء.
-وذهب الحكم وأبو حنيفة إلى أنّ عقوبته دون عقوبة الزاني، وهي التعزير. قلت: وقد ذكر أدلتهم ومن رد على قولهم هذا من عدة أوجه.
وذكر أدلة القول الأول وأن بعضهم قد حكاه إجماعا للصحابة، ورجحه بقوله مع مسألة الزنى بذات المحرم ومن لايحل وطؤه بحال وأنه حد وطئه أيضا القتل؛ فقال: والتحقيق أن يُستدلّ على المسألتين بالنصّ. والقياس يشهد لصحة كلّ منهما.
وقد ذكر النصوص في هذا والقياسات الصحيحة الصريحة التي تزيد النصوص قوة،فراجع ذلك تطلع على ما يشفي ويُغني !!

٦١-وابن عباس هو الذي روى عن النبي ﷺ: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به». رواه أهل السنن، وصحّحه ابن حبان وغيره، واحتجّ الإِمام أحمد بهذا الحديث. وإسناده على شرط البخاري.
المرجع السابق ص٣٩٧-٣٩٨
٦٢-ولا ريب أنّ الزاجر الطبعي عن إتيان البهيمة أقوى من الزاجر الطبعي عن التلوّط، وليس الأمران في طباع الناس سواء، فإلحاق أحدهما بالآخر من أفسد القياس، كما تقدم.
قلت: وهو قوله : أنّ قياس وطء الأمرد الجميل الذي فتنتُه تُربي على كلّ فتنة، على وطء أتانٍ أو امرأة ميتة، من أفسدِ القياس. وهل تغزّل أحد قطّ بأتان أو بقرة أو ميتة، أو سبى ذلك عقلَ عاشق، أو أسَرَ قلبه، أو استولى على فكره ونفسه؟ فليس في القياس أفسد من هذا.
المرجع السابق ص٤٠٦-٤١٢
٦٣-وأما قياسكم-يقصد الذين قالوا أن اللوطي يعزر- وطءَ الرجل لمثله على تدالُك المرأتين، فمن أفسَدِ القياس، إذ لا إيلاج هناك، وإنما نظيره مباشرة الرجل الرجل من غير إيلاج، على أنه قد جاء في بعض الآثار المرفوعة: «إذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان»، ولكن لا يجب الحدّ بذلك لعدم الإيلاج، وإن أُطلِق عليهما اسم الزنى العامّ، كزنى العين واليد والرجل والفم.
المرجع السابق ص٤١٣
٦٤-أجمع المسلمون على أنّ حكم التلوط مع المملوك كحكمه مع غيره. ومن ظنّ أنّ تلوط الإنسان بمملوكه جائز، واحتجّ على ذلك بقوله تعالى: ﴿إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾ [المعارج: ٣٠] وقاس ذلك على أمته المملوكة، فهو كافر يُستتاب، كما يستتاب المرتد. فإنْ تاب وإلا ضُربت عنقه. وتلوط الإنسان بمملوكه كتلوطه بمملوك غيره في الإثم والحكم.
المرجع السابق ص٤١٣
٦٥-وتأمل كيف قال: «فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش»، ولم يقل: فلي يسمع، ولي يبصر، ولي يبطش؟.
وربما يظنّ الظانّ أنّ اللام أولى بهذا الموضع، إذ هي أدلّ على الغاية ووقوع هذه الأمور لله، وذلك أخصّ من وقوعها به.
وهذا من الوهم والغلط، إذ ليست الباء ها هنا لمجرّد الاستعانة، فإنّ حركات الأبرار والفجار وإدراكاتهم إنّما هي بمعونة الله لهم، وإنّما الباء ها هنا للمصاحبة، أي: إنما يسمع ويبصر ويبطش ويمشي، وأنا صاحبه ومعه، كقوله في الحديث الآخر: «أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه».
وهذه هي المعية الخاصّة المذكورة في قوله: ﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة: ٤٠]، وقول النبي ﷺ: «ما ظنّك باثنين الله ثالثهما»، وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: ٦٩] وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل: ١٢٨] وقوله: ﴿وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: ٤٦] وقوله: ﴿قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: ٦٢]، وقوله تعالى لموسى وهارون: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ [طه: ٤٦].
فهذه الباء مفيدة لمعنى هذه المعية دون اللام. ولا يتأتّى للعبد الإخلاص والصبر والتوكّل ونزوله في منازل العبودية إلا بهذه الباء وهذه المعية.
المرجع السابق ص٤٣٥-٤٣٦
٦٦-وأما ما يظنّه بعض الغالطين أنّ المحبة أكمل من الخلّة، وأنّ إبراهيم خليل الله، ومحمد حبيب الله، فمن جهله. فإنّ المحبة عامة، والخلّة خاصة، والخلّة نهاية المحبة. وقد أخبر النبي ﷺ إنّ الله اتخذه خليلًا، ونفى أن يكون له خليل غير ربّه، مع إخباره بمحبته لعائشة ولأبيها ولعمر بن الخطاب وغيرهم .
وأيضًا فإنّ الله سبحانه يحبّ التوابين، ويحب المتطهرين، ويحبّ الصابرين، ويحبّ المحسنين، ويحبّ المتقين، ويحب المقسطين. وخُلّته خاصة بالخليلين. والشابّ التائب حبيب الله.
وإنما هذا من قلة العلم والفهم عن الله ورسوله.
المرجع السابق ص٤٤٦
٦٧-فالحبّ والإرادة أصل كلّ فعل ومبدؤه، والبغض والكراهة أصل كلّ ترك ومبدؤه. وهاتان القوتان في القلب أصل سعادة العبد وشقاوته.
ووجود الفعل الاختياري لا يكون إلا بوجود سببه من الحب والإرادة. وأما عدم الفعل فتارةً يكون لعدم مقتضيه وسببه، وتارةً يكون لوجود البغض والكراهة المانع منه. وهذا متعلَّق الأمر والنهي، وهو
الذي يسمّى الكفّ، وهو متعلّق الثواب والعقاب.
وبهذا يزول الاشتباه في مسألة الترك، هل هو أمر وجودي أو عدمي؟ والتحقيق أنّه قسمان: فالترك المضاف إلى عدم السبب المقتضي عدميّ، والمضاف إلى السبب المانع من الفعل وجودي.
المرجع السابق ص٤٤٩
٦٨-وفي الحديث الصحيح عنه ﷺ: «إنّي لأعلم كلمةً لا يقولها عبدٌ عند الموت إلا وجدتْ روحُه لها رَوحًا»
المرجع السابق ص٤٥٨
٦٩-الكلام في هذا الباب-يقصد العشق - لا بد فيه من التمييز بين الواقع والجائز والنافع والضارّ. ولا يُسجَل عليه بالذمّ والإنكار ولا بالمدح والقبول من حيث الجملة. وإنما يتبين حكمه وينكشف أمره بذكر متعلَّقه، وإلا فالعشق من حيث هو لا يُحمَد ولا يُذَمّ. ونحن نذكر النافع من الحبّ والضارّ والجائز والحرام. ثم ذكر ما أشار إليه فالله الموفق
المرجع السابق ص٥٣٢
٧٠-ريب أنّ النبي ﷺ كان قد حُبِّب إليه النساء ، كما في الصحيح من حديث أنس عنه ﷺ: «حُبِّب إليّ من دنياكم النساء والطيب، وجُعِلت قرّةُ عيني في الصلاة».
هذا لفظ الحديث، لا ما يرويه بعضهم: «حُبِّب إليّ من دنياكم ثلاث ...».
المرجع السابق ص٥٥٦
٧١-وأمّا حديث «من عشِقَ وعف وكتم فهو شهيد »، فهذا يرويه سُوَيد بن سعيد، فقد أنكره حفّاظ الإِسلام عليه.
قال ابن عدي في كامله: هذا الحديث أحد ما أُنكِر على سويد.
وكذا ذكره البيهقي، وابن طاهر في الذخيرة، والتذكرة.
وأبو الفرج بن الجوزي، وعدّه في الموضوعات.
وأنكره أبو عبد الله الحاكم -على تساهله- وقال: أنا أتعجّب منه.
قلت: والصواب في الحديث أنه من كلام ابن عبّاس رضي الله عنه موقوفًا عليه، فغلِط سويد في رفعه. قال محمَّد بن خلف بن المرزبان : حدّثنا أبو بكر الأزرق، عن سويد به، فعاتبته على ذلك، فأسقط ذكرَ النبي ﷺ. فكان بعد ذلك يسأل عنه، فلا يرفعه.
ولا يشبه هذا كلام النبوة.
وأمّا رواية الخطيب له عن الأزهري: حدّثنا المعافى بن زكريا،حدثنا قُطبة بن الفضل، حدثنا أحمد بن محمَّد بن مسروق، حدثنا سويد، حدثنا ابن مسهر ، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة مرفوعًا؛ فمن أبيَنِ الخطأ. ولا يحتمل هشام عن أبيه عن عائشة مثلَ هذا عند من شمّ أدنى رائحة من الحديث.
ونحن نُشهد الله أنّ عائشة ما حدّثت بهذا عن رسول الله ﷺ قطّ، ولا حدّث به عنها عروة، ولا حدّث به عنه هشام قطّ.
وأمّا حديث ابن الماجشون عن عبد العزيز بن أبي حازم، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس مرفوعًا؛ فكذِبٌ على ابن الماجشون، فإنّه لم يحدث بهذا ولا حدّث به عنه الزبير بن بكّار، وإنما هذا من تركيب بعض الوضّاعين.
ويا سبحان الله! كيف يحتمل هذا الإسناد مثل هذا المتن؟ فقبّح الله الوضّاعين!
وقد ذكره أبو الفرج من حديث محمَّد بن جعفر بن سهل، حدثنا يعقوب بن عيسى من ولد عبد الرحمن بن عوف، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد مرفوعًا.
وهذا غلط قبيح، فإنّ محمَّد بن جعفر هذا هو الخرائطيّ، ووفاته سنة سبع وعشرين وثلاث مائة، فمحال أن يدرك شيخُه يعقوبُ ابنَ أبي نَجيح، لا سيّما وقد رواه في كتاب الاعتلال عن يعقوبَ هذا، عن الزبير، عن عبد الملك، عن عبد العزيز، عن ابن أبي نجيح.
والخرائطي هذا مشهور بالضعف في الرواية، ذكره أبو الفرج في كتاب الضعفاء.
وكلام حفاظ الإِسلام في إنكار هذا الحديث هو الميزان، وإليهم يرجع في هذا الشأن. وما صحّحه، بل ولا حسّنه أحد يُعوَّل في علم الحديث عليه، ويُرجَع في التصحيح إليه؛ ولا مَن عادتُه التساهل والتسامح، فإنّه لم يُطنِّف نفسَه له. ويكفي أن ابن طاهر الذي يتساهل في أحاديث التصوف، ويروي منها الغثّ والسمين والمنخنقة والموقودة قد أنكره، وحكم ببطلانه.
نعم، ابن عبّاس غير مستنكَر ذلك عنه. وقد ذكر أبو محمَّد بن حزم عنه أنَّه سئل عن الميت عشقًا، فقال: قتيل الهوى، لا عقل ولا قود! ورُفِع إليه بعرفات شابّ قد صار كالفرخ، فقال: ما شأنه؟ قالوا: العشق. فجعل عامة يومه يستعيذ من العشق. فهذا نفَس من قال: من عشِق وعفَّ وكتَم ومات، فهو شهيد.
المرجع السابق ص٥٦٨-٥٦٩-٥٧٠-٥٧١-٥٧٢

رابعا: مجموع الرسائل :

أ-(الرسالة التبوكية)
٧٢-ولا سعادةَ له إلا بها، وهي «البِرُّ والتقوى» اللذانِ هما جماع الدين كله، وإذا أُفرِدَ كلُّ واحد من الاسمينِ دخلَ فيه المسمَّى الآخر، إما تضمنا وإمّا لزومًا، ودخولُه فيه تضمنا أظهرُ؛ لأن البرَّ جزءُ مسمَّى التقوى، وكذلك التقوى فإنه جزءُ مسمَّى البر، وكونُ أحدِهما لا يَدخل في الآخر عند الاقتران لا يَدل على أنه لا يَدخلُ فيه عند الانفراد.
الرسالة التبوكية ص٤-٥
٧٣-قال الله عز وجل: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [سورة الحجرات:١٤]
هؤلاء -على أصح القولين- مسلمون غير منافقين، وليسوا بمؤمنين، إذ لم يدخل الإيمان في قلوبهم؛ فيباشرها حقيقته.
المرجع السابق ص٧
٧٤-قال طَلْقُ بن حَبِيب: «إذا وقعتِ الفتنةُ فادفعوها بالتقوى»،قالوا: وما التقوى؟ قال: «أن تعملَ بطاعةِ الله على نور من الله، ترجو ثوابَ الله، وأن تتركَ معصية اللهِ على نور من الله، تخاف عقاب الله».
وهذه من أحسنِ ما قيل في حَدِّ التقوى، فإن كلَّ عمل لابدَّ له من مبدأ وغاية، فلا يكون العملُ طاعةً وقُرْبةً حتى يكون مصدرُه عن الإيمان، فيكون الباعثُ عليه هو الإيمان المحض، لا العادةُ ولا الهوى ولا طلبُ المَحْمَدَةِ والجاهِ وغير ذلك، بل لابدَّ أن يكون مبدؤه محض الإيمان، وغايته ثوابَ الله تعالى، وابتغاءَ مرضاتِه، وهو الاحتساب.
ولهذا كثيرا ما يُقْرَنُ بين هذين الأصلين في مثل قول النبي ﷺ: «مَن صامَ رمضان إيمانًا واحتسابًا» و«من قامَ ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتسابًا»، ونظائره.
المرجع السابق ص٩
٧٥-فالفارُّ والمستعيذ فارٌّ مما أوجبه قَدرُ الله ومشيئتُه وخَلْقُه، إلى ما تقتضيه رحمته وبرُّه ولُطْفُه وإحسانه؛ ففي الحقيقة هو هارب من الله إليه، ومستعيذ بالله منه.
وتصوُّر هذين الأمرين يُوجِب للعبد انقطاعَ عَلَقِ قَلْبِه من غير الله بالكلِّية خوفا ورجاء ومحبة؛ فإنه إذا عَلِمَ أنَ الذي يفرُّ منه ويستعيذ منه إنما هو بمشيئة الله وقدرته وخَلْقه، لمْ يَبْقَ في قلبه خوف من غير خالقه ومُوجده؛ فتضمَّنَ ذلك إفرادَ الله وحدَه بالخوف والحُب والرجاء، ولوَ كان ذلك فراره مما لم يكن بمشيئة الله ولا قدرته لكان ذلك موجبًا لخوفه منه، مثل من يفرُّ من مخلوق آخرَ أقدرَ منه، فإنه في حال فراره من الأول إلى الآخر خائفا منه حَذِرٌ أن لا يكون الثاني يعِيذه منه، بخلاف ما إذا كان الذي يفرُّ إليه هو الذي قضى وقدر وشاء ما يفرُّ منه؛ فإنه لا يبقى في القلب التفات إلى غيره بوجه.
فتفطَّنْ لهذا السرِّ العجيب في قوله: «أعوذ بك منك»، و«لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك»؛ فإن الناس قد ذكروا في هذا أقوالا، وقلَّ منهم من تَعرض لهذه النكتة التي هي لُبُّ الكلامِ ومقصوده، وبالله التوفيق.
فتأمّلْ كيف عاد الأمن كلُّه إلى الفرار من الله إليه؛ وهو معنى الهجرة إلى الله تعالى. ولهذا قال النبي ﷺ: «المهاجر من هَجَرَ ما نهى الله عنه».
المرجع السابق ص١٨-١٩
٧٦-قال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾[سورة النساء:٦٥]
وتأمَّل تأكيدَه سبحانه لهذا المعنى المذكور في الآية بوجوهٍ عديدة من التأكيد:
أولها: تصديرها بلا النافية، وليست زائدة كما يظنُّ من يَظُنُّ ذلك، وإنما دخولها لسرٍّ في القسم، وهو الإيذانُ بتضمُّنِ المُقْسَمِ عليه للنَّفي، وهو قوله: ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾.
وهذا منهجٌ معروف في كلام العرب، إذا أقسموا على نفي شيء صدروا جملة القسم بأداة نفي، مثل هذه الآية، ومثل قول الصديق رضي الله عنه: «لَاهَا الله، لا يَعْمِدُ إلى أَسَدٍ من أُسْدِ الله يقاتل عن الله ورسوله؛ فيعطيك سلبه».
وقال الشاعر:
فَلا وأبيكِ ابنةَ العامِر ... يِّ لا يَدَّعِيْ القومُ أنّي أَفِرّ
وقال الآخر:
فلا واللهِ لا يُلْفَى لِمَا بِيْ ... ولا لِلَدَيهمُ أَبدا دَوَاءُ
وهذا في كلامهم أكثر من أن يُذكَر.
وتأمَّلْ جُمَلَ القسم التي في القرآن المصدَّرة بحرف النفي، كيف تجد المُقْسمَ عليه منفيا ومُتضمنا لنفي، ولا يَخْرُم هذا قوله: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧)﴾ .[سورة الواقعة:٧٥-٧٧] فإنه لما كان المقصود بهذا القسم نفي ما قاله الكفار في القرآن: من أنه شعر، أو كهانة، أو أساطير الأولين،كيف صدّر القسم بأداة النفي، ثم أثبتَ له خلافَ ما قالوه، فتضمنت الآية معنى ليس الأمر كما يزعمون، ولكنه قرآن كريم.
والمقصود أن افتتاحَ هذا القسمِ بأداة النفي يقتضي تقويةَ المُقْسَمِ عليه وتأكيده وشدةَ انتفائه.
المرجع السابق ص٢٨-٢٩-٣٠
٧٧-قال تعالى: ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا﴾[سورة النساء:١٣٥] أي: إن يكن المشهود عليه غنيًّا ترجونَ وتأملون عَوْدَ منفعةِ غِنَاه عليكم فلا تقومون عليه، أو فقيرًا فلا ترجونه ولا تخافونه، فاللهُ أولى بهما منكم، هو ربهما ومولاهما، وهما عَبْدَاه كما أنكم عَبِيدُه، فلا تُحَابُوا غنيًّا لغِنَاه، ولا تَطمَعُوا في فقيرٍ لفقرِه؛ فإن الله أولى بهما منكم.
وقد يقال: فيه معنى آخر أحسنُ من هذا، وهو أنهم ربما خافوا من القيام بالقسط وأداء الشهادة على الغني والفقير؛ أما الغنيُّ فخوفًا على ماله، وأما الفقيرُ فلإعْدَامِه، وأنه لا شيء له؛ فتتساهلُ النفوسُ في القيام عليه بالحق، فقيل لهم: اللهُ أولى بالغني والفقير منكم، أعلمُ بهذا، وأرحمُ بهذا؛ فلا تتركوا أداءَ الحق والشهادة على غنيٍّ ولا فقير.
المرجع السابق ٣٧
٧٨-قال تعالى: ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا﴾ نهاهم عن اتباع الهوى الحامل على ترك العدل.
وقوله: ﴿أَنْ تَعْدِلُوا﴾ منصوبُ الموضع على أنه مفعول لأجلِه. وتقديره عند البصريين: كراهيةَ أن تعدلوا، أو حِذارَ أن تعدلوا؛ فيكون اتِّباعُكم الهوى كراهيةَ العدل وفرارًا منه. وعلى قول الكوفيين التقديرُ: أن لا تَعدِلُوا.
وقول البصريين أحسن وأظهر.
المرجع السابق ص٣٨
٧٩-قال تعالى: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ [سورة النور :٥٤]، فأخبر سبحانه أن الهداية إنما هي في طاعة الرسول لا في غيرها، فإنه معلَّق بالشرط؛ فينتفي بانتفائه، وليس هذا من باب دلالة المفهوم، كما يَغْلَطُ فيه كثير من الناس، ويظن أنه يحتاج في تقرير الدلالة منه إلى تقرير كون المفهوم حجة، بل هذا من الأحكام التي رُتِّبَتْ على شروط وعُلِّقتْ، فلا وجودَ لها بدون شروطها، إذ ما عُلِّقَ على الشرط فهو عدم عند عدمه؛ وإلا لم يكن شرطًا له. إذا ثبت هذا فالآية نصٌّ على انتفاء الهداية عند عدم طاعته.
المرجع السابق ٤١
٨٠-وقد اختلفت الرواية عن الإمام أحمد في أولي الأمر، فعنه فيهم روايتان:
إحداهما: أنهم العلماء.
والثانية: أنهم الأمراء .
والقولان ثابتان عن الصحابة في تفسير الآية . والصحيح: أنها متناولة للصنفين جميعًا؛ فإن العلماء والأمراء هم ولاة الأمر الذي بعث الله به رسوله.
المرجع السابق ص٤٥-٤٦
٨١-وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤)﴾ [الجمعة:٢-٤]
فالأولون هم الذين أدركوا رسول الله ﷺ وصحبوه. والآخرون الذين لم يلحقوا بهم هم كل من بَعْدَهم على منهاجهم إلى يوم القيامة، فيكون التَّأخُّر وعَدَمُ اللَّحاق بهم في الزمان.
وفي الآية قول آخر: إن المعنى لم يلحقوا بهم في الفَضْل والمرتبة، بل هم دونهم فيكون عدم اللحاق في الرتبة.
والقولان كالمتلازمَيْنِ؛ فإنَّ مَن بعدَهم لا يلحقون بهم لا في الفضل ولا في الزمان، فهؤلاء الصنفان هم السُّعَداء.
المرجع السابق ص٦٠-٦١
٨٢-والحكمة تتضمنُ كمالَ الإرادة، من العدل، والرحمة، والإحسان، والجود، والبر، ووَضْع الأشياء مواضعَها على أحسن وجوهها، ويتضمن إرسال الرسل، وإثبات الثواب والعقاب.
كلُّ هذا يُعلَم من اسمه «الحكيم»، كما هي طريقة القرآن في الاستدلال على هذه المطالب العظيمة بصفة الحكمة، والإنكار على من يزعم أنه خلق الخلقَ عبثًا أو سُدىً أو باطلًا. فنفسُ حكمته تتضمن الشرعِ والقَدَر، والثواب والعقاب، ولهذا كان أصح القولين أن المعاد يُعلم بالعقل، وأن السمع ورد بتفصيل ما يدل العقل على إثباته.
المرجع السابق ص٨٠

ب-(رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه)
٨٣-وقد أثنى الله -سبحانه- على عباده المؤمنين الذين يسألونه أن يجعلهم أئمة يُهتَدَى بهم، فقال تعالى في صفات عباده: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ [الفرقان: ٧٤]، قال ابن عباس: يُهتَدَى بنا في الخير . وقال أبو صالح : يُقتَدَى بهدانا. وقال مكحول : أئمةً في التقوى ، يَقَتَدِي بنَا المتقون. وقال مجاهد: «اجعلنا مؤتَمِّينَ بالمتَّقين، مقتدين بهم».
وأَشكل هذا التفسير على من لم يعرف قدر فهم السلف وعمق علمهم، وقال: يجب أن تكون الآية على هذا القول من باب المقلوب، على تقدير: (واجعل المتقين لنا أئمَّة)، ومعاذ الله أن يكون شيء من القرآن مقلوب عن وجهه، وهذا من تمام فهم مجاهد -رحمه الله-؛ فإنه لا يكون الرجل إمامًا للمتقين حتى يأتمَّ بالمتقين، فنبَّه مجاهد على هذا الوجه الذي ينالون به هذا المطلوب، وهو اقتداؤهم بالسلف المتقين من قبلهم فيجعلهم الله أئمة للمقين من بعدهم، وهذا من أحسن الفهم في القرآن وألطفه، ليس من باب القلب في شيء. فمن ائتمَّ بأهل السُّنة قبله؛ ائتمَّ به من بعده ومن معه.
رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه ص١١-١٢
٨٤-ووحَّد -سبحانه- لفظ ﴿إِمَامًا﴾ ولم يقل: واجعلنا للمتقين أئِمَّة، فقيل: الإمام في الآية جمع آم، نحو: صاحب وصحاب، وهذا قول الأخفش، وفيه بُعدٌ، وليس هو من اللغة المشهورة المُستعملة المعروفة حتى يفَسَّر بها كلامُ الله.
وقال آخرون: الإمام هنا مصدرٌ، لا اسم، يقالُ: أَمَّ إمامًا، نحو: صام صيامًا، وقام قيامًا، أي: اجعلنا ذوي إمام، وهذا أضعف من الذي قبله.
وقال الفراء: إنما قال: ﴿إِمَامًا﴾، ولم يقل أئمة، على نحو قوله: ﴿إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء: ١٦]، ولم يقل: رسولا، وهو من الواحد المراد به الجمع، لقول الشاعر:
يا عاذلاتي لا تُرِدْن ملامَتِي ... إنَّ العواذِلَ ليس لي بأمير
أي: ليس لي بأُمراء.
وهذا أحسن الأقوال، غير أنه يحتاج إلى مزيد بيان ، وهو: أن المتقين كلهم على طريق واحد، ومعبودهم واحد، وأتباع كتاب واحد، ونبي واحد، وعبيد رَبٍّ واحد. فدينهم واحد، ونبيهم واحد، وكتابهم واحد، ومعبودهم واحد ، فكأنهم كلهم إمام واحد لمن بعدهم، ليسوا كالأئمة المختلفين الذين قد اختلفت طرائقهم، ومذاهبهم، وعقائدهم، فالائتمام إنما هو بما هم عليه، وهو شيء واحد، وهو الإمام في الحقيقة.
المرجع السابق ص١٣-١٤-١٥-١٦
٨٥-قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: ٢٤].
فبالصبر واليقين تُنالُ الإمامة في الدين.
فقيل: بالصبر عن الدنيا.
وقيل: بالصبر على البلاء.
وقيل: بالصبر عن المناهي.
والصواب: أنه بالصبر عن ذلك كله، بالصبر على أداء فرائض الله، والصبر عن محارمه، والصبر على أقداره.
المرجع السابق ص١٧
٨٦-وقوله: ﴿عَلَى بَصِيرَةٍ﴾، قال ابن الأعرابي: البصيرة الثباتُ في الدين.
وقيل: البصيرة: العِبرَةُ، كما يُقالُ: أليس لك في كذا بصيرة؟ أي: عِبرَةٌ، قال الشاعِر :
في الذاهِبيِن الأوليـ ... ـن من القرون لنا بصائر.
والتحقيق: العِبرَةُ ثمرة البصيرة، فإذا تبصر اعتبر ، فمن عُدِمَ العِبرَةَ فكأنه لا بصيرة له.
وأصل اللفظ من الظهور والبيان، فالقرآن بصائر، أي: أدلةٌ وهدى وبيان يقود إلى الحق، ويهدي إلي الرشد، ولهذا يقال للطَّريقة من الدَّمِ التي يُستدَلُّ بها على الرَّمِيَّةِ: بصيرة.
المرجع السابق ص٢٣-٢٤
٨٧-فدلت الآية أيضًا على أنَّ من لم يكن على بصيرة فليس من أتباع الرسول، وأن أتباعه هم أُولو البصائر، ولهذا قال: ﴿أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ فإن كان المعنى: أدعو إلى الله أنا ومن اتبعني، ويكون ﴿مَنِ اتَّبَعَنِي﴾ معطوفًا على الضمير المرفوع في ﴿أَدْعُو﴾ - وحَسُنَ العطف؛ لأجل الفصل - فهو دليل على أن أتباع الرسول هم الذين يدعون إلى الله وإلى رسوله .
وإن كان معطوفًا على الضمير المجرور في ﴿سَبِيلِي﴾ أي: هذه سبيلي وسبيل من اتَّبعني فكذلك.
وعلى التقديرين فبسبيله وسبيل أتباعه الدعوة إلى الله.
المرجع السابق ص٢٥-٢٦

ج-(إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان)
٨٨-روى أهل السنن من حديث عائشة أم المؤمنين-: «لا طلاق ولا عَتَاق في إغلاق» رواه الإِمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والحاكم في «صحيحه» وقال: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه .
قال أبو داود: «في غِلاق»، ثم قال: والغِلاقُ أظنه الغضب.
وقال حنبل. سمعت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - يقول: هو الغضب. ذكره الخلال و أبو بكر عبدُ العزيز. ولفظ أحمد: يعني الغضب.
وهذا مقتضى تبويب البخاري؛ فإنه قال في صحيحه: «بابُ الطلاق في إغلاق، والمكره، والسكران، والمجنون» ، يُفَرِّقُ بين الطلاق في الإغلاق وبين هذه الوجوه.
وهو أيضًا مقتضى كلام الشافعي؛ فإنه يُسَمِّي نذر اللَّجاج والغضب يمين الغلق ونذر الغَلَق، هذا اللفظ يريد به نذر الغضب، وهو قول غير واحد من أئمة اللغة.
والقولُ بِمُوجبه هو مقتضى الكتاب، والسنة، وأقوال الصحابة، والتابعين، وأئمةَ الفقهاء، ومقتضى القياس الصحيح، والاعتبار، وأصول الشريعة.
أما الكتاب، فمن وجوه: ثم ذكر خمسة أوجه .
فأما دلالة السُّنّة فمن وجوه: ثم ذكر ثلاثة أوجه .
وأما آثار الصحابة، فمن وجوه: ثم ذكر وجهين.
وأما الاعتبارُ وأصولُ الشريعة، فمن وجوه: ثم ذكر خمسة وعشرين وجها-رحمه الله- فراجعها فقد سال ودايه في هذه المسألة حتى ملأ الخوابي وبلغ الروابي .
إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان ص٤--٦١
٨٩-قال ابن جرير في «تفسيره»: حدثنا ابن وكيع، حدثنا مالك ابن إسماعيل، عن خالد، عن عطاء، عن وسيم، عن ابن عباس قال: «لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان»
حدثنا ابن حميد، حدثنا يحيى بن واضح، حدثنا أبو حمزة، عن عطاء، عن طاووس قال: «كلُّ يمينٍ حلف عليها رجل وهو غضبان،فلا كفارة عليه فيها، قوله: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾[البقرة:٢٢٥]».
وهذا أحد الأقوال في مذهب مالك، أن لغو اليمين هو اليمين في الغضب، وهذا اختيار أَجَلِّ المالكيةِ وأفضلِهم على الإطلاق وهو القاضي إسماعيل بن إسحاق، فإنه ذهب إلى أن الغضبان لا تنعقد يمينه.
ولا تنافي بين هذا القولِ وبين قولِ ابن عباس وعائشة: «إن: لغو اليمين هو قول الرجل لا والله وبلى والله»، وقولِ عائشة وغيرها: أيضًا «إنه يمين الرجل على الشيء يعتقده كما حلف عليه، فيتبين بخلافه»؛ فإن الجميع من لغو اليمين، والذي فَسَّر لَغوَ اليمين بأنها: يمين الغضب يقول بِأنَّ النوعين الآخرَيْن من اللغو.
وهذا هو الصحيح، فإن الله سبحانه جعل لغو اليمين مقابلًا لِكَسْب القلب، ومعلومٌ أن: الغضبانَ والحالفَ على الشيءِ يظنُّه كما حلف عليه، والقائلُ: لا والله وبلى والله -من غير عَقْدِ اليمين-، لم يَكْسِبْ قلبُه عقد اليمن، ولا قَصَدَها، واللهُ سبحانه قد رفع المؤاخذة بلفظٍ جَرَى على اللسان لم يَكْسِبْه القلبُ ولم يَقْصِدْه، فلا تجوز المؤاخذة بما رفع اللهُ المؤاخذةَ به، بل قد يقال: لغوُ الغضبان أظهرُ من لَغوِ القِسْمَيْن الأخيرَيْن؛ لما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
المرجع السابق ص٨-١٠
٩٠-والمقصودُ أن الغضبَ مُؤَثِّرٌ في عدم انعقاد السَّبب في الجملة.
ومن هذا قوله تعالى: ﴿وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا﴾ [الإسراء: ١١] وهو الرجل يدعو على نفسه وأهله بالشر في حال الغضب.
المرجع السابق ص١٢
٩١-الغضبُ ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يحصل للإنسان مبادئه وأوائله، بحيث لا يتغيَّر عليه عقله، ولا ذهنه، ويَعْلَمُ ما يقول ويقصده، فهذا لا إشكال في وقوع طلاقه، وعتقهِ، وصحة عقوده، ولا سيما إذا وقع منه ذلك بعد تردُّدِ فِكْره.
القسم الثاني: أن يبلغ به الغضب نهايته، بحيث يَنْغَلِقُ عليه بابُ العلم والإرادة، فلا يعلم ما يقول ولا يريده، فهذا لا يتوجَّهُ خلافٌ في عدم وقوع طلاقه، كما تقدم.
والغضبُ غُولُ العقل، فإذا اغتال الغضبُ عقله حتى لم يعلم ما يقول، فلا ريب أنه لا ينفذ شيء من أقواله في هذه الحالة، فإن أقوال المكلف إنما تنفُذ مع علم القائل بصدورها منه، ومعناها، وإرادته للتكلم بها.
فالأول يُخْرِجُ النائم، والمجنون، والمبَرْسَم، والسكران، وهذا الغضبان.
والثاني: يُخْرِجُ من تكلم باللفظ وهو، يعلم معناه البتة، فإنه لا يلزم مقتضاه.
والثالث: يُخْرِجُ من تكلم به مُكْرَهًا، وإن كان عالمًا بمعناه.
القسم الثالث: من تَوَسَّط في الغضب بين المرتبتين، فتعدى مبادئه، ولم ينتَهِ إلى آخره بحيث صار كالمجنون، فهذا مَوْضِعُ الخلاف، ومحلُّ النظر.
والأدلةُ الشرعية تدلُّ على عدم نُفوذ طلاقه، وعتقه، وعقوده التي يُعْتبر فيها الاختيار والرضا، وهو فرعٌ من الإغلاق، كما فسَّره به الأئمة.
المرجع السابق ص٢٠-٢١
٩٢-روى أحمد والحاكم في مستدركه من حديث عمران بن حصين قال: قال رسول الله ﷺ: "لا نَذْرَ في غضب، وكفارتُه كفارة يمين»، وهو حديث صحيح، وله طرق.
وجهُ الاستدلال به: أنه ﷺ ألغى وجوبَ الوفاء بالنذر إذا كان في حال الغضب، مع أن الله سبحانه وتعالى أثنى على المُوفِين بالنذور، وأَمرَ النبيُّ ﷺ الناذرَ لطاعة الله بالوفاء بنذره، وقال: «من نذر أن يطيع الله فَلْيُطِعْهُ، ومن نذر أن يعصيه فلا يعْصِهِ».
فإذا كان النذرُ الذي أثنى الله على مَنْ أوفى به، وأَمَرَ رسولُه بالوفاء بما كان مِنْهُ طاعةً قد أَثَّر الغضبُ في انعقاده، لِكَوْنِ الغضبان لم يقصده، وإنما حَمَله على إتيانِه الغضب فالطلاقُ بطريق الأولى والأحرى.
فإن قيل: فكيف رُتِّب عليه كفارة اليمين؟
قيل: ترَتُّبُ الكفارة عليه لا يدلُّ على تَرتُّب مُوجَبه ومقتضاه عليه، والكفارةُ لا تستلزم التكليف، ولهذا تجب في مال الصبيِّ والمجنون إذا قتلا صيدًا أو غيره، وتجب على قاتل الصيد ناسيًا أو مخطئًا، وتجب على من وطئ في نهار رمضان ناسيًا -عند الأكثرين-، فلا يلزم من تَرَتُّبِ الكفارة اعتبار كلام الغضبان.
المرجع السابق ص٢١-٢٢-٢٣
٩٣-روى الزهري عن أبان بن عثمان عن عثمان أنه رد طلاق السكران، ولا يُعْرَفُ له مخالفٌ من الصحابة .
وهذا القول هو الصحيح، وهو الذي رجع إليه الإمام أحمد أخيرًا .
وهو اختيار الطحاوي، وأبي الحسن الكرخي، وإمام الحرمين ، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وأحد قولي الشافعي .
المرجع السابق ص٢٦-٢٧
٩٤-الخوف في قلب المكره كالغضب في قلب الغضبان، لكنَّ المكرَه مقهورٌ بغيره مِنْ خارج، والغضبان مقهورٌ بغضبه الداخلِ فيه، وقهرُ الإكراه يُبْطِلُ حكم الأقوالِ التي أُكرِهَ عليها ويجعلها بمنزلة كلام النائم والمجنون، دون حكم الأفعال، فإنه يُقْتَلُ إذا قَتَل، ويَضْمَنُ إذا أتلف فكذلك قَهْرُ الغضبِ يُبْطِلُ حكمِ أقوال الغضبان دون أفعاله، حتى لو قَتَل في هده الحالة أو أتلف شيئًا ضَمِنه.
هذا كلُّه في الغضبان الذي يَكْرَهُ ما قاله حقيقةً، فأما من هو مُرِيدٌ له، على تقديرِ عدم غضبه لاقتضاء سبب ذلك؛ فليس من هذا الباب، كمن زَنَتْ امرأته فغضب فطلَّقها لأنه لا يَرَى المُقام مع زانيةٍ، فلم يَقْصِدْ بالطلاقِ إطفاءَ نار الغضب، بل التخلُّصَ من المُقام مع زانيةٍ، فهذا يقع طلاقُه.
فتأمَّلْ هذا الفرق؛ فإنه حرفُ المسألةِ ونُكْتَتُها، وهذا بخلاف مَنْ خاصَمَتْهُ امرأته وهو يعلم من نفسه إرادة المُقام معها على الخصومة وسُوءِ الخُلُق، ولكنْ حَمَلهُ الغضبُ على أن شَفى نفسَه بالتكلُّم بالطلاق، وكسرًا لها وإطفاءً لنار غضبه.
المرجع السابق ص٣٢
٩٥-والإكراهُ على الأفعال ثلاثةُ أنواع:
نوعٌ لا يُباح بالإكراه، كقتلِ المعصومِ، وإتلافِ أطرافِه.
ونوعٌ يُبِيحُه الإكراه بشرط الضمان، كإتلاف مالِ المعصوم.
ونوعٌ مختلفٌ فيه، كالزنا، والشُّربِ، والسرقة، وفيه روايتان عن الإمام أحمد.
فما أمكن تلافيه أُبِيح بالإكراه، كالأقوال والأموال، وما كان ضرره كضرر الإكراه لم يُبَحْ به، كالقتل؛ فإنه ليس قتلُ المعصوم يحياةِ المكرَه أولى من العكس.
المرجع السابق ص٣٥-٣٦
٩٦-ذهب بعض الفقهاء إلى أنه لا يُجْلَدُ بالقذف في حال الخصومة والغضب، وإنما يُجْلَدُ به إذا أتى به اختيارًا وقصدًا لقذفه، وهو قول قويٌّ جدًّا،ويدلُّ عليه أن الخصمَ لا يُعَزَّرُ بِجَرحِه لخصمه، وطعنِه فيه حال الخصومة، بقوله: هو فاجرٌ، ظالمٌ، غاشمٌ، يحلف على الكذب، ونحو ذلك.
المرجع السابق ص٤١
٩٧-الطلاق في حال الغضب له ثلاث صور:
إحداها: أنْ يَبْلُغَه عن امرأته أمرٌ يشتدُّ غضبُه لأجله، ويظنُّ أنه حقٌّ، فيطلِّقُها لأجله، ثم يتبيَّن أنها بريئةٌ منه، فهذا في وقوع الطلاق به وجهان، أصحُّهما أنه لا يقع طلاقه؛ لأنه إنما طلّقها لهذا السبب والعلة، والسببُ كالشرط، فكأنه قال: «إنْ كانت فعلَتْ ذلك فهي طالق»، فإذا لم تَفْعَلْهُ لم يُوجَدْ الشرط.
وقد ذكر المسألة بعينها أبو الوفاء بن عقيل، وذكر الشريف ابن أبي موسى في «إرشاده» فيما إذا قال: «أنت طالق أَنْ دخلت الدار» بفتح الهمزة، مِرارًا، وهو يَعْرِفُ العربية، ثم تبيَّن أنها لم تدخل، لم تَطْلُق.
الصورة الثانية: أن يكون قد غضب عليها لأمرٍ قد عَلِم وقوعَه منها، فتكلَّم بكلمة الطلاق قاصدًا للطلاق، عالمًا بما يقول، عقوبةً لها على ذلك، فهذا يقع طلاقه، إذْ لو لم يقع هذا الطلاق لم يقع أكثر الطلاق، فإنه غالبًا لا يقع مع الرضا.
الصورة الثالثة: أن لا يقصد أمرًا بعينه، ولكنَّ الغضب حمله على ذلك، وغيَّر عقلَه، ومنعه كمال التصوُّر والقصد، فكان بمنزلة الذي فيه نوعٌ من السُّكرِ والجنون. فليس هو غائب العقل بحيث لا يفْهَمُ ما يقولُ بالكلية، ولا هو حاضر العقل بحيث يكون قصده معتبرًا، فهذا لا يقع به الطلاق أيضًا، كما لا يقع بالمُبَرْسَمِ والمجنون.
المرجع السابق ص٤٤-٤٥-٤٦
٩٨-والغضبان في حال غضبه قد يكون أسوأَ حالا من هؤلاء، وأشبهَ بالمجانين، ولهذا يقول ويفعل ما لا يقولُه المجنون ولا يفعلُه.
فإن قيل: فهل يُحْجَرُ عليه في هذه الحال كما يُحجر على المجنون؟
قيل: لا، والفرق بينهما أن هذه الحال لا تدوم، فهو كالذي يُجَنُّ أحيانًا نادرًا ثم يفيق، فإنه لا يُحْجَرُ عليه. نعم، لو صدر منه في تلك الحال قولٌ عن غير قصدٍ منه، كان مثل القول الصادر عن المجنون، في عدم ترتُّب أثرِه عليه.
المرجع السابق ص٤٧
٩٩-لا يُلْزَمُ المكلفُ أحكامَ الأقوالِ حتى يكون عارفًا بمدلولها. وهذا هو الصواب.
المرجع السابق ص٥١
١٠٠-وقال محمد بن عبد السلام الخشني: حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي: حدثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال في الرجل يطلِّق امرأته وهي حائض: «لا يعتد بذلك».
وحسبك بهذا الإسناد إذا صَحَّ، رواه أبو محمد بن حزم قال: حدثنا يوسف بن عبد الله، قال: حدثنا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم، قال: حدثنا أحمد بن خالد، قال: حدثنا محمد بن عبد السلام، فذكره.
وهذا مذهبُ أفقه التابعين على الإطلاقِ سعيدُ بن المسيب، حكاه عنه الثعلبيُّ في تفسير سورة الطلاق.
وهو مذهب أفقه التابعين من أصحاب ابن عباس، وهو طاووس.
المرجع السابق ص٥٢-٥٣
١٠١-جمهور العلماء يقولون: إن طلاق الصبيِّ المميِّزِ العاقلِ لا يَنْفُذُ ولا يَصِحُّ. هذا قولٌ أبي حنيفة، ومالك، والشافعي ، وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد اختارها الشيخ أبو محمد ، وهو قول إسحاق.
مع كونه عارفًا باللفظ وموجبه بكلماتِه اختيارًا وقصدًا، وله قصدٌ صحيح، وإرادة صحيحةٌ، وقد أمر الله سبحانه بابتلائه واختباره في تصرفاته، وقد نَفَّذ عمر بن الخطاب وصيته، واعتبر النبيُّ ﷺ قصدَه واختياره في التخيير بين أبويه.
قلت : وكأنه يرجح هذا القول كما في آخر الكتاب في جوابه على بعض الموقعين لطلاق الغضبان .
المرجع السابق ص٥٧-٥٨-٦٤
١٠٢-غاية التلفُّظ بالطلاق أن يكون جزءَ سببٍ، والحكمُ لا يتمُّ إلا بعد وجود سببه وانتفاء مانعه، وليس مجرَّدُ التلفظ سببًا تامًّا، باتفاق الأئمة، كما تقدم.
وحينئذ، فالقصدُ والعلمُ والتكليفُ إما أن تكود بقيةَ أجزاءِ السبب، أو تكون شروطًا في اقتضائه، أو يكون عدمُها مانعًا من تأثيره. وعلى التقادير الثلاثة، فلا يؤثِّر التكلُّمُ بالطلاق بدونها.
وليس مع من أوقع طلاق الغضبان، والسكران، والمكره، ومن جرى على لسانه بغير قصدٍ منه، إلا مجرَّدُ السبب، أو جزؤُه، بدون شرطِه وانتفاء مانعه، وذلك غير كافٍ في ثبوت الحكم، والله أعلم.
المرجع السابق ص٥٩
١٠٢-المقصودُ أن سبق اللسان إلى الطلاق من غير قصدٍ له مانعٌ من وقوعه عند الجمهور.
قلت:وجوابه في آخر الكتاب على بعض المعارضين يدل على ترجيحه هذا .
١٠٣-الغضبانُ إذا عَلِم من نفسه أنَّ لسانه سَبَقه بالطلاق من غير قصدٍ جازَ له الإقامةُ على نكاحه، ويُدَيَّن في الفتوى، وأما قبولُه في الحكم فيُخَرَّج على الخلاف،والأظهرُ أنه إنْ قامت قرينةٌ ظاهرةٌ تدلُّ على صحة قولهِ قُبِل في الحكم، والغضبُ الشديدُ من أقوى القرائن، ولا سيَّما فإن كثيرًا ممن يطلِّق في شدة الغضب يحلفُ بالله جَهْدَ يمينه أنه لم
يقصد الطلاق، وإنما سَبَق لسانُه.
وحينئذٍ، فالجمهورُ، لا يُوقِعون عليه الطلاق، كما صرَّح به أصحابُ أحمد والشافعي ومالك.
وفي قبوله في القضاء ثلاثةُ أقوال، أصحُّها أنه إنْ قامت قرينةٌ ظاهرةٌ على صحة قوله قُبِل، وإلَّا فلا.
المرجع السابق ص٦٠-٦١

د-(فتيا في صيغة الحمد)
١٠٤-قال أبو نصر: قال آدم:
(يا رب! شَغَلْتني بكسب يدي، فعلِّمني (شيئًا من مجامع الحمد والتسبيح، فأوحى الله إليه: يا آدم؛ إذا أصبحتَ فقل ثلاثًا، وإذا أمسيتَ فعَل ثلاثًا: الحمد لله رب العالمين، حمدًا يوافي نعمه، ويكافيء مزيده، فذلك مجامع الحمد والتسبيح).
هذا الحديث ليس في الصحيحين ولا في أحدهما، ولا: يُعرف في شيءٍ من كتب الحديث المعتمدة، ولا له إسنادٌ يُعرف، وإنما يُروى عن أبي نصر التمَّار ، عن آدم أبي البشر،ولا يَدري كم بين آدم وأبي نصر إلا الله عز وجل .
وهذا لو رواه أبو نصر التمَّار عن سيد ولد آدم ﷺ لما قبلت روايته؛ لانقطاع الحديث فيما بينه وبين رسول الله، فكيف بروايته له عَن آدم!
فتيا في صيغة الحمد ص٤-٥
١٠٥-وقد ظن طائفةٌ من الناس أن هذا الحديث بهذا اللفظ- يقصد الحمد لله حمدا يوافي نعمه- أكملُ حَمْدٍ حُمِدَ اللهُ به؛ وأفضلُه، وأجمعُه لأنواع المحامد، وبَنَوا على هذا مسألة فقهية فقالوا:
مسألة: لو حلف إنسانٌ ليحمَدنَّ الله بمجامع الحمد، وأجلِّ المحامد، فطريقُهُ في بَرِّ يمينه أن يقول: الحمد لله، حمدًا يوافي نِعَمه، ويكافيء مزيده.
والمعروف من الحمد الذي حَمِد اللهُ به نفسه، وحمده به رسوله ﷺ، وسادات العارفين بحمده من أمته ليس فيه هذا اللفظ أَلْبَتَّة.
فهذا حمده لنفسه الذي أنزله في كتابه، وعلَّمه لعباده، وأخبر عن أهل جنته به، وهو أجلُّ من كل حمدٍ وأفضلُ وأكمل.
فكيف يَبَرُّ الحالف في يمينه بالعدول عنه إلى لفظٍ لم يَحْمَدْ به نفسه، ولا ثبت عن رسوله ﷺ ولا عن سادات العارفين من أمته.
المرجع السابق ص٥-٧-٨-٩
١٠٦-فروى البخاري في صحيحه عن أبي أمامة: أن النبي ﷺ كان إذا رفع مائدته قال: «الحمد لله، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، غير مكفيٍّ، ولا مودَّعَ، ولا مُسْتَغنى عنه ربنا»
روي قوله «غير مكفي» بوجهين: بالهمز وعدمه.
وخُطِّئت رواية الهمز، فإنه اسم مفعول؛ إما من الكفاية، فوجهه: غير مَكْفِيّ كـ: مَرْميّ ومَقْضِيّ، أو من المكافاة، فالمفعول منه (مكافا) كـ (مُرَاما) من راماه، و(مُسَاعا) من ساعاه.
أو من كفأتُ الإناء -بالهمز-: إذا أقلبته، فالمفعول منه (مكفوء) كـ (مقروء) من قرأتُ.
أو من كفاهُ يكفيه، فمفعوله (مكْفِيّ)، كـ (مَرْمي) من رميتُ.
والصواب أنه بغير الهمز.
وأما إعراب (ربنا) فبالوجوه الثلاثة، والأحسن في رفعه أن يكون خبرًا مقدَّمًا، مبتدؤه قوله «ولا مستغنى عنه».
والأحسن في جَرِّه أن يكون بدلًا من الضمير المجرور في (عنه).
والأحسن في نصبه أن يكون على المدح صفةً لاسم الله تعالى.
المرجع السابق ص١٤-١٧-١٨
١٠٧-عن أبي أيوب قال: كان النبي ﷺ إذا أكل أو شرب قال: «الحمد لله الذي أطعم وسقى، وسوَّغه، وجعل له مخرجًا» رواه أبو داود والنسائي، وإسناده صحيح.
المرجع السابق ص١٩
١٠٨-في سنن النسائي عن عبد الرحمن بن جُبير، أنه حدَّثه رجلٌ خَدَم النبيَّ ثمانِ سنين، أنه كان يسمع النبي إذا قُرِّب إليه الطعام يقول : «بسم الله»، فإذا فرغ من طعامه قال: «اللهم أطعمتَ، وسقيتَ، وأغنيتَ، وأقنيتَ، وهديتَ، واجتبيت، فلك الحمد على ما أعطيت "وإسناده صحيح.
المرجع السابق ص٢٠
١٠٩-روى أهل السنن بالإسناد الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال: علَّمَنا رسول الله ﷺ خطبة الحاجة: "الحمد لله، نستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: ١] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: ٧٠ - ٧١].
المرجع السابق ص٢١
١١٠-وشرع ﷺ للعاطس أن يقول ما رواه أبو داود بإسنادٍ صحيح عن أبي هريرة: أن النبي ﷺ قال:
«إذا عطس أحدكم فليقُل: الحمد لله على كل حال، ولْيَقُل أخوه: أو صاحبه: يرحمك الله، ويقول هو: يهديكم الله ويصلح بالكم» .
المرجع السابق ص٢٤
١١١-وكذلك شرع لأمته عند ركوب الدابَّة ما رواه أهل السنن بالإسناد الصحيح عن علي بن ربيعة قال:
شهدتُ علي بن أبي طالب أُتي بدابة ليركبها، فلما وضع رجله في الركاب قال: بسم الله، فلما استوى على ظهرها قال: الحمد لله ثلاث مراتٍ ثم قال: الله أكبر ثلاث مراتٍ، ثم قال: سبحانك ظلمتُ نفسي فاغفر لى، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحكَ فقلتُ:
يا أمير المؤمنين، من أيِّ شيءٍ ضحكتَ؟ قال: رأيتُ النبي ﷺ فعَلَ كما فعلتُ، ثم ضحك، فقلتُ: يا رسول الله، من أيِّ شيء ضحكتَ؟ قال:
«إن ربك سبحانه يعجب من عبده إذا قال: اغفر لي ذنوبي، يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري"
المرجع السابق ص٢٥
١١٢-وثبت عنه ﷺ في الصحيح أنه كان يقول في اعتداله بعد الركوع في صلاة الليل «لربي الحمد، لربي الحمد» ، وكان قيامًا طويلًا.
قلت :هو في السنن وأحمد لا في الصحيحين أو أحدهما ،وقد صححه هنا كما ترى، وأصل الحديث في مسلم دون هذا الذي ذكره رحمه الله .
المرجع السابق ص٣٠
١١٣-وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي ﷺ كان إذا استجدَّ ثوبًا سمَّاه باسمه؛ عمامةً، أو قميصًا، أو رداءً، ثم يقول. «اللهم لك الحمد، أنتَ كسوتنيه، أسألك خيره، وخيرَ ما صُنع له، وأعوذُ بك من شرِّه وشرِّ ما صُنع له».
رواه أبو داود والنسائي، وإسناده صحيح. قال الترمذي: حديث حسن.
المرجع السابق ص٣٣

خامسا :المنار المنيف في الصحيح والضعيف

١١٤-تَفضيل الصّلاة بالسّواك على سبعين صَلاة بغيره.
فهذا الحديث قد رُوي عن عائشة.رضي الله عنها، عن النبي ﷺ وهو حديث لم يُروَ في «الصحيحين» ولا في «الكتب الستة» ولكن رواه:الإمام أحمد، وابن خُزيمة، والحاكم في «صحيحيهما»، والبزار في «مُسنده» .
وقال البيهَقي: إسناده غير قوي.
وذلك أن مَداره على محمد بن إسحاق، عن الزُّهري، ولم يُصرّح بسماعه منه، بل قال: ذَكر الزُّهري، عن عُروة، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: قال رسول الله ﷺ: «فَضل الصلاة التي يستاك لها على الصلاة التي لا يستاك لها سَبعين ضِعفًا».
هكذا رواه الإمام أحمد، وابن خُزيمة في «صحيحه»، إلا أنه قال: إن صَحّ الخبر. قال: وإنما استثنيتُ صِحّة هذا الخبر لأني خائفٌ أن يكون محمد بن إسحاق لم يَسمع الحديث من الزُّهري، وإنما دَلّسه عنه.
وقد أخرجه الحاكم في «صحيحه»، وقال: هو صحيح على شرط مسلم.
ولم يَصنع الحاكم شيئًا، فإن مُسلمًا لم يَرو في كتابه بهذا الإسناد حديثًا واحدًا، ولا احتج بابن إسحاق، وإنما أخرج له في المتابعات والشواهد، وأما أن يكون ذِكر ابن إسحاق، عِن الزُّهري، من شَرط مُسلم فلا، وهذا وأمثاله هو الذي شان كتابه ووَضعه، وجَعل تصحيحه دُون تحسين غيره.
ورواه من حديث الواقدي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي يحيى الأسلمي، عن أبي الأسود، عن عُروة، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، عن النبي ﷺ، قال: «الرّكعتان بعد السّواك أحبّ إلى الله من سَبعين رَكعة قبل السّواك». ولكنّ الواقدي لا يُحتجّ به.
ورواه من حديث حمّاد بن قِيراط، ثنا فَرج بن فَضالة، عن عُروة بن رُويم، عن عَمرة، عن عائشة رضي الله عنه، عن النبي ﷺ: «صلاة بسواك، خَير من سَبعين صلاة بغير سِواك». وهذا الإسناد غير قوي.
فهذا حال هذا الحديث، وإن ثَبت فله وَجه حَسن، وهو: أن الصلاة بالسواك سُنّة، والسواك مَرضاة الربّ.
المنار المنيف ص٣-٤-٥-٦
١١٥-وإذا كان هذا شأن السّواك وفَضله، وحُصول رِضى الربّ به، وإكثار النبي ﷺ على الأمّة فيه، ومبالغته فيه حتى عِند وفاته وقَبْض نَفْسه الكريمة ﷺ، لم يمتنع أن يكون الصلاة التي استاك لها أحب إلى الله من سبعين صلاة.
وإذا كان ثواب السبعين أكثر، فلا يَلزم من كَثرة الثواب: أن يكون العمل الأكثر ثوابًا أحبّ إلى الله تعالى من العمل الذي هو أقل منه، بل قد يكون العمل الأقل أحب إلى الله تعالى، وإن كان الكثير أكثر ثوابًا.
وهذا كما في المسند عنه ﷺ أنه قال: «دَم عَفراء أحب إلى الله من دَم سوداوين». يَعني في الأضحية.
وكذلك كان ذَبح الشاة الواحدة يوم النَّحر أحب إلى الله من الصدقة بأضعاف أضعاف ثمنها، وإن كَثُر ثواب الصّدَقة.
وكذلك قِراءة سُورة بتدبّر ومَعرفة وتَفهُّم، وجَمع القلب عليها، أحب إلى الله تعالى من قِراءة خَتمة سَردًا وهذًّا، وإن كثر ثواب هذه القراءة.
وكذلك صلاة ركعتين يُقبل العبد فيهما على الله تعالى بقَلبه وجَوارحه، ويُفرّغ قَلبه كلّه لله تعالى فيهما، أحب إلى الله تعالى من مِئتي ركعة خَالية عن ذلك، وإن كَثُر ثوابها عددًا.
ومن هذا: «سَبق دِرهم مائة ألف دِرهم»
المرجع السابق ص١٠-١١
١١٦-وقوله: «وزِنة عَرشه» فيه إثبات العرش، وإضافته إلى الرب سبحانه وتعالى، وأنه أثقل المخلوقات على الإطلاق، إذ لو كان شيءٌ أثقل منه لوُزن به التسبيح، وهذا يَردّ على من يقول: إن العرش، ليس بثقيل ولا خفيف. وهذا لم يَعرف العرش، ولا قَدَره حق قَدره.
المرجع السابق ص١٨-١٩
١١٧-قوله في الحديث الصحيح: «من صام رمضان، وأتبعه بستٍّ من شَوال، فكأنّما صام الدّهر» فإن الحسنة بعشر أمثالها.
وقد استدلّ بهذا من يَستحبّ، أو يُجوّز صيام الدّهر كله، ما عدا العيدين وأيام التشريق، ولا حُجّة له، بل هو حُجّة عليه، فإنه لا يلزم من تشبيه العمل بالعمل إمكان وقوع المشبّه به فضلًا عن كونه مشروعًا.
المرجع السابق ص٢١
١١٨-قوله صلى الله عليه وسلم: «من صلّى العشاء في جماعة، فكأنما قام نصف الليل، ومن صلّى العشاء والفجر في جَماعة، فكأنّما قام الليل كُلّه» .
هذا يدلّ على ما تَقدم من تَفضيل العمل الواحد على أمثاله وأضعافه من جنسه، فإنّ من صلى العشاء والفجر في جماعة ولم يُصلّ بالليل، تَعدل صلاته تلك صلاة من قام الليل كلّه، فإن كان هذا الذي قام الليل قد صلّى تلك الصلاتين في جماعة: أحرز الفضل المُحقّق والمقدّر، وإن صلّى الصلاتين وَحدَه، وقام الليل، كان كَمَن صلاهما في جماعة ونام بمنزله، إن صحت صلاة المُنفرد.
المرجع السابق ص٢٢
١١٩-قوله في الحديث: «من دَخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يُحيى ويُميت، وهو حيّ لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيءٍ قدير، كَتب الله له ألفَ ألفَ حَسنة، ومَحا عنه ألفَ ألفَ سَيئة، ورَفع له ألفَ ألفَ دَرجة».
فهذا الحديث مَعلول، أعلّه أئمة الحديث:
قال الترمذي: هذا حديثٌ غريبٌ، وقد رواه عَمرو بن دِينار قَهرمان آل الزُّبير، عن سالم بن عبد الله، فذكر الحديث.
وقد رُوي من طريق عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، لكنه مَعلولٌ أيضًا.
قال عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتاب «العلل» سألت أبي عن حديث رواه يحيى بن سُليم الطائفي، عن عِمران بن مسلم عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي ﷺ قال: «من قال في السوق ...» الحديث فقال لي: هذا حديث منكر .
المرجع السابق ص٢٣-٢٤
١٢٠-ومن ذلك-أي مما لا يصح من الحديث-: ما رَوى جَعفر بن جَسر عن أبيه، عن ثابت، عن أنسٍ يرفعه: «من قال: سُبحان الله وبحمده، غَرس الله له ألفَ ألفَ نَخلة في الجنّة، أصلها ذَهَب ...» .
وجعفر هذا، هو: جَعفر بن جَسر بن فَرقد، أبو سلمان القصّاب البصري، قال ابن عَدي: أحاديثه مناكير. وقال الأزدي: يتكلمون فيه.
وأما أَبوه، فقال يحيى بن مَعين: لا شيء، ولا يُكتب حديثه. وقال النسائي، والدارقطني: ضعيف. وقال ابن حبان: خَرج من مَخرج حَدّ العدالة. وقال ابن عَدي: عامّة أحاديثه غير محفوظة .
المرجع السابق ص٢٦-٢٧
١٢١-ومن ذلك-أي مما لايصح-: ما رَواه ابن مَنده وغيره من حديث أحمد بن عبد الله الجُويباري الكذّاب، عن شَقيق، عن إبراهيم بن أَدهم، عن ابن يزيد، عن أُويس القَرني، عن عُمر، وعلي رضي الله تعالى عنهم، عن النبي ﷺ: «من دعا بهذه الأسماء: اللهم أنت حيّ لا تَموت، وغالب لا تُغلب، وبَصير لا تَرتاب، وسَميع لا تَشك، وصادق لا تكذب، وصَمد لا تَطعم، وعالم لا تُعلَّم -إلى أن قال-: فوالذي بَعثني بالحق، لو دعا بهذه الدّعوات على صفائح الحديد لذابت، وعلى ماءٍ جار لسكن، ومن دعا عند مَنامه به بُعث بكل حَرف منه سبعمائة ألف مَلك يُسبحون له ويَستغفرون له».
وتابعه كذّابٌ آخر، هو الحُسين بن داود البَلخي، عن شَقيق .
ورَوى جُملة منه كذّاب آخر: سليمان بن عيسى، عن الثوري، عن إبراهيم بن أدهم.
وهذا وأمثاله: ممّا لا يَرتاب من له أدنى مَعرفة بالرسول ﷺ وكلامه، أنه مَوضوعٌ مُختلقٌ، ومُفترى عليه.
المرجع السابق ص٢٧-٢٨
١٢٢-ومن ذلك-أي مما لا يصح-: ما رَواه عبّاس بن الضحّاك البَلخي -كذابٌ أشر- عن عُمر بن الضحّاك -مَجهول لا يُعرف- عن أبي مُعاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ: «من كتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لم يُعْم الهاء التي في الله تعالى، كتب الله له ألفَ ألفَ حسنة، ومحا عنه ألفَ ألفَ سيئة، ورَفع له ألفَ ألفَ دَرجة» .
المرجع السابق ص٢٨
١٢٣-ومن ذلك-أي مما لا يصح-ما رَواه أبو العَلاء، عن نافع، عن ابن عُمر -يَرفعه-: «من كفّن مَيتًا فإن له بكل شَعرة تُصيب كَفنه عَشر حَسنات» .
وأبو العَلاء هذا، يَروي عن نافع ما ليس في حديثه، ولا يَجوز الاحتجاج به .
المرجع السابق ص٢٨
١٢٤-ومن ذلك-أي مما لا يصح-: حديث يرويه محمد بن عبد الرحمن بن البيلَماني عن ابن عُمر، عن النبي ﷺ: «من صام صبيحة يوم الفطر، فكأنّما صام الدهر» . وهذا حديثٌ باطلٌ مَوضوعٌ على رسول الله ﷺ.
وابن البيلَماني يَروي المناكير،قال البخاري، وأبو حاتم الرازي، والنسائي: هو منكر الحديث. وقال يحيى بن مَعين: ليس بشيء.
المرجع السابق ص٢٩
١٢٥-ومن ذلك-أي مما لا يصح- حديث: «من صَام يوم عاشوراء، كتب الله له عِبادة سِتّين سَنة» .
وهذا باطلٌ، يرويه حَبيب بن أبي حَبيب، عن إبراهيم الصائغ، عن مَيمون بن مِهران، عن ابن عباس.
المرجع السابق ص٣٠
١٢٦-ومن ذلك-أي مما لايصح- حديث يرويه زكريا بن دُويد الكندِي -الكذّاب الأشر- عن حُميد الطويل، عن أنس، عن النبي ﷺ: «من دَاوم على صلاة الضحى، ولم يَقطعها إلا من عِلّة، كُنت أنا وهو في الجنة في زَورق من
نُور، في بَحر من نُور، حتى يَزور رَبّ العالمين»
المرجع السابق ص٣٠
١٢٧-ومن ذلك -أي مما لا يصح- حديث يرويه عُمر بن رَاشد، عن يحيى بن أبي كَثير، عن أبي سَلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «من صلى بعد المغرب سِتّ رَكعات، لم يتكلم بينهنّ بشيءٍ، عَدلنَ له عِبادة اثنتي عشرة سَنة».
وعُمر هذا قال فيه الإمام أحمد، ويحيى بن معين، والدارقطني: ضعيف. وقال أحمد أيضا: لا يُساوي حديثه شيئًا. وقال البخاري: مُنكر الحديث وضَعَّفه جدًّا.
المرجع السابق ص٣١
١٢٨-ومن ذلك-أي مما لا يصح- حديث: «مَن صلّى يَوم الأحد أربع رَكعات بتسليمةٍ وَاحدةٍ، تقرأ في كل رَكعة (الحمد) و﴿آمَنَ الرَّسُولُ﴾ إلى آخرها، كَتب الله له ألفَ حَجّة، وألف عُمرة، وألف غَزوة، وبكل رَكعة ألف صلاة، وجَعل بينه وبين النار ألف خَندق» .
فقبح الله واضعه، ما أجرأه على الله ورسوله.
ومن ذلك حديث: «من صلى ليلة الأحد أربع ركعات، يقرأ في كل رَكعة»فاتحة الكتاب«مَرَّة، و﴿قُلْ هُوَ اَللَّهُ أَحَدٌ ﴾ خمس عَشرة مَرّة، أعطاه الله يوم القيامة ثواب من قرأ القرآن عَشر مَرَّات، وعَمل بما في القرآن، ويَخرج يوم القيامة من قَبره ووجهه مثل القمر ليلة البدر، ويُعطيه الله بكل رَكعة ألف مَدينة من لؤلؤ، في كل مدينة ألف قَصر من زبرجد، في كل قَصر ألف دار من الياقوت، في كل دار ألف بيت من المسك، في كل بيت ألف سرير».
واستمر هذا الكذاب الأشر على الألف.
المرجع السابق ص٣٢
١٢٩-ومن ذلك-أي مما لا يصح- حديث: «من صلى لَيلة الاثنين سِتّ رَكعات، يقرأ في كل ركعة»فاتحة الكتاب«مَرة، وعشرين ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾، ويَستغفر الله بعد ذلك عَشر مَرَّات، أعطاه الله يوم القيامة ثواب ألف صِدِّيق، وألف عابد، وألف زاهد» .
فقبح الله واضعه ومختلقه على رسول الله ﷺ، وهو عَمل الجُويباري الخَبيث.
المرجع السابق ص٣٣
١٣٠-ومن ذلك حديث: «من صلى يوم الاثنين أربع ركعات يقرأ في كل رَكعة»فاتحة الكتاب«مَرَّة و»آية الكرسي«مَرَّة، و﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ مَرّة، و﴿قُل أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴾ مَرَّة، كُفّرت ذنوبه كلها، وأعطاه الله قصرًا في الجنة من دُرّة بيَضاء، في جَوف القصر سبعة أبيات، طُول كل بيت ثلاثة آلاف ذراع، وعرضه مثل ذلك».
واستمر هذا الكذَّاب الخبيث على ذلك، حديث طويلٌ فيه من هذه المجازفات، وهو من عَمل الحسين بن إبراهيم، كذّاب دجّال يَروي عن محمد بن طاهر، ووَضع من هذا الضرب، أحاديث صلاة يوم الأحد،وليلة الأحد، وصلاة يوم الاثنين، وليلة الاثنين، ويوم الثلاثاء، وليلة الثلاثاء. وهكذا في سائر أيام الأسبوع ولياليه.
المرجع السابق ص٣٤
١٣١-والأحاديث الموضوعة عليها ظُلمة ورَكاكة، ومُجازفات باردة تنادت على وَضعها واختلاقها على رسول الله ﷺ، مثل حديث: «من صلّى الضحى كذا وكذا رَكعة أُعطي ثواب سبعين نبيًّا» .
وكأن هذا الكذاب الخبيث لم يعلم أن غير النبي لو صلّى عُمر نُوح عليه السلام لم يُعط ثواب نبيٍّ واحدٍ.
وكقوله: «من اغتسل يوم الجُمعة بِنيّة وحِسبة كتب الله له بكل شَعرة نورًا يوم القيامة، ورفع له بكل قَطرة دَرجة في الجنّة من دُرّ، وياقوت، وزبرجد، ما بين كل درجتين مَسيرة مائة عام» .
ومَرَّ في حديثٍ طويلٍ، قبح الله واضعه، فهو من عَمل عُمر بن صُبح الكذّاب الخبيث.
المرجع السابق ص٣٤-٣٥
١٣٢-قوله في الحديث المكذوب: «من قال لا إله إلا الله، خَلَق الله من تلك الكلمة طائرًا له سَبعون ألف لِسان كل لِسان سَبعون ألف لُغة يَستغفرون له».
و«من فعل كذا وكذا أعطي في الجنة سَبعين ألف مَدينة، في كل مَدينة سَبعون ألف قَصر، في كل قَصر سَبعون ألف حَوراء».
وأمثال هذه التي لا يخلو حال واضعها من أحد أمرين:
إمّا أن يَكون في غاية الجَهل والحُمق.
وإمّا أن يكون زِنديقًا قَصد التّنقيص بالرسول ﷺ.
المرجع السابق ص٣٦
١٣٣-حديث: «الباذنجان لما أُكل له».
و«البَاذنجان شِفاء من كل دَاء».
قَبّح الله واضعهما، فإنّ هذا لو قاله بعض جَهلة الأطباء لسَخر النّاس منه، ولو أُكل الباذنجان للحُمّى والسوداء الغالبة، وكثير من الأمراض لم يزدها إلا شِدّة، ولو أكله فَقير ليَستغني لم يُفده الغِنَى، أو جاهل ليتعلم لم يُفده العلم.
المرجع السابق ص٣٧
١٣٤-حديث: «إذا عَطس الرَّجل عند الحديث فهو صِدق».
هذا، وإن صَحّح بعض الناس سَنده، فالحسّ يَشهد بوَضعه، لأنّا نُشاهد العُطاس والكَذِب يعمل عمله، ولو عَطس مائة ألف رَجل عند حديث يُروى عن النبي ﷺ لم يُحكم بصحته بالعُطاس، ولو عَطسوا عند شهادة زُور لم تُصدّق.
المرجع السابق ص٣٧-٣٨
١٣٥-وكذلك-أي مما يكذبه الحس- حديث: «عليكم بالعدَس، فإنّه مبارك يُرقّ القلب، قُدِّس فيه سَبعون نبيًّا» .
وقد سُئل عبد الله بن المُبارك عن هذا الحديث؟ وقيل له: إنّه يُروى عنك. فقال: وعنّي؟!.
أرفعُ شيءٍ في العدَس أنّه شَهوة اليهود. ولو قُدّس فيه نبيٌّ واحدٌ لكان شِفاءً من الأدواء، فكيف بسبعين نَبي؟! وقد سَمّاه الله تعالى ﴿أَدْنَى﴾ [البقرة: ٦١] على من اختاره على المنّ والسّلوَى، وجعلَه قَرين الثُّوم والبصل، أفتَرى أنبياء بني إسرائيل قُدّسوا فيه لهذه العلّة؟.
ويُشبه أن يكون هذا الحديث من وَضع الذين اختاروه على المَنّ والسلوى، أو أشباههم.
ثم ذكر ثلاثة أحاديث أخرى ، فلتراجع.
المرجع السابق ص٣٨-٣٩
١٣٦-الرافضة -فإنهم أكذب خلق الله- والكُهّان، والطُّرُقية، والمُنَجمين.
المرجع السابق ص٤٠
١٣٧-ومنها-أي من الأمور الكلية التي يعرف بها كون الحديث موضوعا- سَماجة الحديث، وكَونه مما يُسخر منه، كحديث: «لو كان الأَرُزّ رجلًا، لكان حليمًا، ما أكله جائعٌ إلا أشبعه».
فهذا من السَّمِج البارد الذي تُصان عنه الفضلاء فضلًا عن سيد الأنبياء.
ثم ذكر من الأمثلة على هذا الأمر سبعة عشر حديثا أعرضها عنها للاختصار فلتراجع .
المرجع السابق ٤١-٤٢-٤٣-٤٤
١٣٨-وبالجملة: فكل أحاديث الديك كذب، إلا حديثًا واحدًا: «إذا سمعتم صِياح الدّيَكة، فاسألوا الله من فضله، فإنها رأت مَلكًا».
المرجع السابق ص٤٥
١٣٩-ومنها-أي من الأمور الكلية التي يعرف بها كون الحديث موضوعا- : مُناقضة الحديث لما جاءت به السَّنة مُناقضة بَيّنة، فكل حديثٍ يَشتمل على فَسادٍ، أو ظُلمٍ، أو عَيبٍ، أو مَدح باطلٍ، أو ذَم حقٍّ، أو نحو ذلك، فرسول الله ﷺ منه بَريء.
ومن هذا الباب: أحاديث مَدح من اسمه محمّد وأحمد، وأنّ كل من يُسمّى بهذا الاسم، لم يَدخل النار.
المرجع السابق ص٤٦
١٤٠-ومنها-أي من الأمور الكلية التي يعرف بها كون الحديث موضوعا- أن يُدّعى على النبي ﷺ أنه فعل أمرًا ظاهرًا، بمحضر من الصحابة كلهم، وأنهم اتفقوا على كِتمانه ولم يَفعلوه كما يَزعم أكذب الطوائف: «أنّه ﷺ أخذ بيد علي بن أبي طالب رضي الله عنه بمحضر من الصحابة كلهم، وهم رَاجعون من حجة الوداع، فأقامه بينهم حتى عرفه الجميع، ثم قال: هذا وَصيي وأخي، والخليفة من بَعدي، فاسمعوا له وأطيعوا».
ثم اتفق الكُلّ على كِتمان ذلك وتَغييره، فلعنة الله على الكاذبين.
وكذلك رِوايتهم: «أن الشّمس رُدّت له بَعد العصر، والناس يُشاهدونها».
المرجع السابق ص٤٧
١٤١-ومنها-أي من الأمور الكلية التي يعرف بها كون الحديث موضوعا-أن يكون الحديث باطلًا في نَفْسه، فيدل بطلانه على أنه ليس من كلام الرسول ﷺ.
كحديث: «المجرّة التي في السماء من عَرَق الأَفعى التي تحت العَرش»
ثم ذكر عدة أحاديث باطلة بعد هذا وعدتها عشرة أحاديث فلتراجع .
المرجع السابق ص٤٩-٥٠-٥١-٥٢
١٤٢-ومنها-أي من الأمور الكلية التي يعرف بها كون الحديث موضوعا-أن يكون كلامه لا يُشبه كلام الأنبياء، فضلًا عن كَلام رسول الله ﷺ الذي هو وَحي يُوحى، كما قال الله تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (٤)﴾ [النجم: ٣، ٤]، أي: نُطقه إلا وحي يوحى، فيكون الحديث ممّا لا يُشبه الوحي، بل لا يُشبه كلام الصحابة.
كحديث: «ثلاثة تَزيد في البصر: النَّظر إلى الخُضرة، والماء الجاري، والوجه الحسن».
وهذا الكلام ممَّا يُجلّ عنه أبو هريرة وابن عباس، بل سعيد بن المسيّب والحسن، بل أحمد ومالك.
ثم ذكر سبعة أمثلة على هذا الأصل، وقال في آخره :وفي الباب أحاديث كثيرةٌ، وأقرب شيءٍ في الباب حديث: «إذا بَعثتم إليّ بَريدًا فابعثوه حَسن الوجه حَسن الاسم»
وفيه عُمر بن راشد، قال ابن حِبّان: يَضع الحديث. وذكر أبو الفَرج هذا الحديث في «الموضوعات»
المرجع السابق ص٥٣-٥٤-٥٥

١٤٣-ومنها-أي من الأمور الكلية التي يعرف بها كون الحديث موضوعا-أن يكون في الحديث تاريخ كذا وكذا، مثل قوله: إذا كان سَنَة كذا وكذا، وَقع كَيت وكَيت. كقول الكذّاب الأشر: «إذا انكسف القَمر في المُحرّم، كان البلاء والقتال، وشُغل السلطان، وإذا انكسف في صَفر كان كذا وكذا ...».
واستمر الكذاب في الشهور كلها.
وأحاديث هذا الباب كلها كذبٌ.
المرجع السابق ص٥٦
١٤٤-ومنها-أي من الأمور الكلية التي يعرف بها كون الحديث موضوعا-أن يكون الحديث بوَصف الأطباء والطُّرُقية أشبه وأليق، كحديث: «الهريسة تَشدّ الظهر»
وذكر بعده أحد عشر حديثا كهذا وأمثاله ثم قال في آخره:وكل حديثٍ في طَنين الأذن فهو كذبٌ.
ومنها: أحاديث «العقل» كلها كَذِب، كقوله: «لما خَلَق الله العقل، قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر، فأدبر، فقال: ما خلقت خلقًا أكرم عليّ منك، بك آخذ، وبك أُعطي» وذكر أحاديث .
المرجع السابق ص٥٧-٥٨-٥٩-٦٠
١٤٥-ومنها-أي من الأمور الكلية التي يعرف بها كون الحديث موضوعا- الأحاديث التي ذُكر فيها الخَضر وحياته، كلها كذب ولا يَصح في حياته حديثٌ واحدٌ.
كحديث: «أن رسول الله ﷺ كان في المسجد فسمع كلامًا من ورائه فذهبوا ينظرون فإذا هو الخَضر»
وذكر أحاديث نحو هذا، ورجح موته ونقل كلام أهل العلم القائلين بذلك، ثم ذكر كلام ابن الجوزي كله حول هذه المسألة، وقد أجاد وأتى ما يرجح موته بالأدلة من القرآن والسنة والمعقول، بل ذكر من المعقول تسعة أوجه، فلتراجع فإنها من المهمات .
المرجع السابق ص٦٣-٦٤-٦٥-٦٦-٦٧-٦٨-٦٩
١٤٦-ومنها-من مثل ماسبق- أن يكون الحديث ممّا تَقوم الشواهد الصحيحة على بُطلانه. كحديث عُوج بن عُنق الطويل، الذي قَصَد واضعه الطعن في أخبار الأنبياء، فإنهم يجترئون على هذه الأخبار.
وذكر سواه مما هو مثله خمسة أحاديث.
المرجع السابق ص٧٠-٧١-٧٢-٧٣
١٤٧-ومنها: مخالفة الحديث صريح القرآن، كحديث: «مقدار الدنيا، وأنها سبعة آلاف سنة، ونحن في الألف السابعة».
وهذا من أبين الكذب؛ لأنه لو كان صحيحًا لكان كل أحد عالمًا أنه قد بقي للقيامة من وقتنا هذا مئتان وإحدى وخمسون سنة، وذكر تحت هذا الأصل ثلاثة أحاديث.
المرجع السابق ص٧٤-٧٥-٧٦
١٤٨-وَقع الغلط من حديث أبي هريرة: «خلق الله التربة يوم السبت ...» الحديث، وهو في «صحيح مسلم» .
ولكن وَقع فيه الغلط في رَفعِه، وإنما هو من قول كَعب الأحبار، كذلك قال إمام أهل الحديث محمد بن إسماعيل البخاري في «تاريخه الكبير» وقال غيره من علماء المسلمين أيضًا.
وهو كما قالوا؛ لأن الله أخبر أنه ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ [الفرقان: ٥٩].
وهذا الحديث يقتضي أن مُدّة التّخليق سبعة أيام، والله تعالى أعلم
المرجع السابق ص٧٨
١٤٩-ومن ذلك الحديث الذي يُروى في الصّخرَة: «أنها عَرش الله الأدنى».
تعالى الله عن كذب المفترين.
ولما سَمع عُروة بن الزُّبير هذا، قال: «سبحان الله، يقول الله تعالى: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ [البقرة: ٢٥٥] وتكون الصخرة عَرشه الأدنى» .
وكل حديث في «الصخرة» فهو كذب مفترى. والقدم الذي فيها كذبٌ موضوعٌ، مما عملته أيدي المزورين .
وأرفع شيءٍ في الصخرة أنها كانت قبلة اليهود، وهي في المكان كيوم السبت في الزمان، أبدل الله بها الأمة الكعبةَ البيت الحرام.
المرجع السابق ص٧٩
١٥٠-وقد أكثر الكذابون من الوضع في فضائلها-أي الصخرة-، وفضائل بيت المقدس، والذي صح في فضله قوله ﷺ: «لا تُشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا». وهو في الصحيحين .
وقوله من حديث أبي ذر، وقد سأل: أي مسجدٍ وضع في الأرض أول؟ فقال: «المسجد الحرام» قال: ثم أي؟ قال: «المسجد الأقصى ...» الحديث، وهو متفقٌ عليه.
وحديث عبد الله بن عَمرو: «لما بنى سُليمان البيت، سألَ ربّه ثلاثًا: سأله حكمًا يُصادف حكمه، فأعطاه إياه، وساله مُلكًا لا ينبغي لأحدٍ من بعده، فأعطاه إياه، وسأله أن لا يَؤمّ أحدٌ هذا البيت لا يُريد إلا الصلاة فيه إلا رَجع من خَطيئته كيوم ولدته أمه، وأنا أرجو أنه قد يكون أعطاه الله ذلك» وهو في «مسند أحمد»، و«صحيح الحاكم».
وفي الباب حديثٌ رابع دون هذه الأحاديث، رواه ابن ماجه في سننه».
وهو حديثٌ مُضطربٌ: «أن الصّلاة فيه بخمسين ألف صلاة» .
وهذا مُحالٌ؛ لأنّ مَسجد رسول الله ﷺ أفضل منه، والصلاة فيه: «تفضل على غيره بألف صلاة».
وقد رُوي في بيت المقدس «التفضيل بخمس مئة» وهو أشبه.
وصَحّ أنه ﷺ: «أُسري به إليه، وأنه صَلّى فيه، وأمّ المرسلين في تلك الصلاة، ورَبط البراق بحلَقة الباب، وعُرج به منه» .
وصَحّ عنه أن المؤمنين يتحصّنون به من يأجوج ومأجوج.
فهذا مجموع ما يصح فيه من الأحاديث.
المرجع السابق ص٨٠-٨١-٨٢
١٥١-ومنها-أي مما سبق من الموضوعات-أحاديث صلوات الأيام والليالي، كصلاة يوم الأحد، وليلة الأحد، ويوم الاثنين، وليلة الاثنين، إلى آخر الأسبوع .
كل أحاديثها كذب، وقد تقدم بعض ذلك.
وكذلك: أحاديث صلاة الرغَائب ليلة أول جمعة من رَجَب ، كلها كذب مُختلق على رسول الله ﷺ.
وكل حديث في ذكر صوم رَجب، وصلاة بعض الليالي فيه، فهو كذبٌ مفترى ، ثم ذكر ثلاثة أحاديث ، وقال في آخر كلامه :وأقرب ما جاء فيه، ما رواه ابن ماجه في «سننه»: «أن رسول الله ﷺ نهى عن صيام رَجب»
ومن ذلك: أحاديث صلاة ليلة النصف من شعبان، ثم ذكر ثلاثة أحاديث لا يصح من ذلك شيء .
المرجع السابق ص٨٣-٨٤-٨٥-٨٦
١٥٢-ومنها-أي مما سبق- رَكاكة ألفاظ الحديث وسَمَاجتها، بحيث يَمُجها السمع، ويسمج معناها الفطن.
كحديث: «أربع لا تَشبع من أربع: أُنثى من ذَكر، وأرض من مَطر، وعين من نَظر، وأُذن من خَبر» .
وذكر سواه خمسة أحاديث.
المرجع السابق ص٨٨-٨٩
١٥٣-ومنها: أحاديث ذَمّ الحبَشة والسودان كلها كذب، وذكر أربعة أحاديث.
ومنها: أحاديث ذَمّ الترك ، وحديث ذَمّ الخصيان، وأحاديث ذَمّ المماليك.
وذكر حديثين .
المرجع السابق ص٩٠-٩١
١٥٤-ومنها: ما يَقترن بالحديث من القرائن التي يُعلم بها أنه باطلٌ.
مثل حديث: «وَضع الجزية عن أهل خيبر» وهذا كذب، من عدة وُجوه:
ثم ذكر عشرة وجوه، فراجعها ففيه دلالة على غور علم هذا الهمام رحمه الله وجمعنا به في جنته .
المرجع السابق ص٩٢-٩٣-٩٤
١٥٥-فصل في ذِكر جوامع وضوابط كُلّية في هذا الباب-مما لا يصح-
فمنها: أحاديث الحَمَام -بالتخفيف- لا يَصح منها شيءٌ. وذكر ستة أحاديث.
وأرفع شيء جاء فيها: «أنه رأى رجلًا يَتبع حمامة، فقال: شيطان يتبع شيطانة»
-ومنها: أحاديث اتخاذ الدجاج.
ليس فيها حديث صحيح،وذكر حديثين.
-ومنها: أحاديث ذَمّ الأولاد، كلها كذب من أولها إلى آخرها. وذكر ثلاثة أحاديث.
-ومنها: أحاديث التواريخ المستقبلة.
وقد تقدمت الإشارة إليها، وهو: كل حديث فيه: إذا كانت سنة كذا وكذا حلّ كذا وكذا. وذكر عشرة أحاديث.
-ومنها: الاكتحال يوم عاشوراء، والتزيّن، والتوسعة، والصلاة فيه، وغير ذلك من فضائل.
لا يصح منها شيءٌ، ولا حديثٌ واحدٌ، ولا يثبت عن النبي ﷺ فيه غير أحاديث صيامه. وما عداها فباطلٌ.
وأمثل ما فيها: «من وسّع على عياله يوم عاشوراء وسّع الله عليه سائر سنته» .
قال الإمام أحمد: لا يصح هذا الحديث.
-ومنها: ذِكر فضائل السور، وثواب من قرأ سورة كذا فله أجر كذا، من أول القرآن إلى آخره. كما يَذكر ذلك الثعلبي في أول كل سورة، والزمخشري في آخرها.
قال عبد الله بن المبارك: أظن الزنادقة وضعوها. انتهى.
والذي صح في أحاديث السور: ثم ذكر ما صح وما دونه في الصحة، وقال في آخر الفصل :سائر الأحاديث بعد، كقوله: «من قرأ سورة كذا أُعطي ثواب كذا» فموضوعة على رسول الله ﷺ، وقد اعترف بوَضعها واضعها، وقال: قصدت أن أُشغل الناس بالقرآن عن غيره.
وقال بعض جُهلاء الوضاعين في هذا النوع: نحن نَكذب لرسول الله ﷺ، ولا نَكذب عليه.
ولا يَعلم هذا الجاهل أنه من قال عليه ما لم يقل، فقد كذب عليه، واستحق الوعيد الشديد.
المرجع السابق من ص٩٥--١٠٧

١٥٦-وَضعت جَهلة المُنتسبين إلى السنّة في فضائل الصديق، حديث: «إن الله يَتجلّى للناس عامّة يوم القيامة، ولأبي بكر خاصّة».
ثم ذكر أربعة أحاديث أخرى مثله موضوعة، وقال في آخرها :وحديث: «ما سَبقكم أبو بكر بكثرة صَوم ولا صَلاة، وإنما فَضَلكم بشيءٍ وَقر في صَدره».
وهذا من كلام أبي بكر بن عَيّاش.
المرجع السابق ص١٠٨-١٠٩
١٥٧-وأما ما وَضعه الرّافضة من فضائل علي، فأكثر من أن يُعد.
قال الحافظ أبو يَعلى الخَلِيلي في «كتاب الإرشاد»: وضعت الرافضة في فضائل علي، وأهل البيت، نحو ثلاث مئة ألف حديث.
ولا يُستبعد هذا، فإنك لو تَتبعت ما عندهم من ذلك لوجدت الأمر كما قال.
المرجع السابق ص١٠٩
١٥٨-ومن ذلك: ما وضعه بعض جهلة السنّة في فضائل معاوية.
قال إسحاق بن رَاهُويه: لا يَصح في فضل معاوية بن أبي سفيان عن النبي ﷺ شيءٌ .
قلت: ومُراده، ومُراد من قال ذلك من أهل الحديث: أنه لم يصح حديث في مناقبة بخصُوصه؛ وإلا فما صح في مناقب الصحابة على العموم، ومناقب قريش فهو داخل فيه.
المرجع السابق ص١١٠
١٥٩-ومن ذلك: ما وَضعه الكذابون في مناقب أبي حنيفة، والشافعي، على التّنصيص على اسمهما، وما وضعه الكذابون أيضًا فى ذَمّهما عن رسول الله ﷺ . وما يُروى من ذلك كله كذبٌ.
ومن ذلك: الأحاديث في ذَمّ مُعاوية. وكل حديث في ذَمّه فهو كذبٌ.
وكل حديث في ذَمّ عَمرو بن العاص فهو كذبٌ.
وكل حديث في ذَمّ بني أُمية فهو كذبٌ.
وكل حديث في مَدح المنصور، والسفّاح، والرشيد، فهو كذبٌ.
وكل حديث في مَدح بغداد ودِجْلتها، والبصرة، والكوفة، ومَرو، وقَزوين، وعَسقلان، والإسكندرية، ونَصيبين، وأنطاكية، فهو كذبٌ.
وكل حديثٍ في تحريم وَلد العباس على النار، فهو كذبٌ .
وكل حديثٍ في مَدح أهل خراسان؛ الخارجين مع عبد الله بن على ولد العباس، فهو كذبٌ.
وكل حديثٍ: أن مَدينة كذا وكذا، من مُدن الجنة، أو من مُدن النار، فهو كذبٌ.
وكل حديثٍ فيه ذَمّ يَزِيد فكذب. وكذلك أحاديث ذَمّ الوليد وذَمّ مروان بن الحكم.
وحديث عَدد الخلفاء من وَلد العباس كذبٌ .
وحديث ذَمّ أبي موسى من أقبح الكذب .
وحديث: «نَظر رسول الله ﷺ إلى معاوية، وعَمرو بن العاص، فقال: اركسهما في الفتنة رَكسًا، دُعهما إلى النار دَعًّا» كذبٌ ومُختلقٌ.
المرجع السابق ص١١٠-١١١-١١٢-١١٣
١٦٠-وكل حديث فيه أن الإيمان لا يَزيد ولا ينقص، فكذب مُختلقٌ.
وقابل من وَضعها طائفةٌ أخرى، فوضعوا أحاديث على رسول الله ﷺ، أنه قال: «الإيمان يزيد، وينقص» .
وهذا كلام صحيح، وهو إجماع السلف، حكاه الشافعي، وغيره ، ولكن هذا اللفظ كذبٌ على رسول الله ﷺ، وهو مثل إجماع الصحابة، والتابعين، وجميع أهل السنّة، وأئمّة الفقه، على أن القرآن كلام الله، مُنزل غير مخلوق، وليست هذه الألفاظ حديثًا عن رسول الله ﷺ، ومن رَوى ذلك عنه فقد غَلط.
المرجع السابق ١١٣-١١٤
١٦١-وكل حديثٍ في التنشيف بعد الوُضوء فإنه لا يصح.
وكذا حديث مَسْح الرقبة في الوُضوء باطلٌ .
وأحاديث الذّكر على أعضاء الوُضوء كلها باطلٌ، ليس فيها شيءٌ يصح. وأقرب ما رُوي منها أحاديث التّسمية على الوُضوء.
وقد قال الإمام أحمد: لا يثبت في التسمية على الوُضوء حديث. انتهى.
ولكنها أحاديث حِسان.
المرجع السابق ص١١٥-١١٦
١٦٢-وكذلك تقدير أقل الحيض بثلاثة أيام، وأكثره لعشرة. ليس فيها شيءٌ صحيحٌ، بل كله باطلٌ.
وكذلك حديث: «لا صلاة لمن عليه صلاة».
المرجع السابق ص١١٨
١٦٣-ومن الأحاديث الباطلة حديث: «من بَشَّرني بخروج نيسان ضمنتُ له على الله الجنة».
وحديث: «من آذى ذِمّيًّا فقد آذاني».
وحديث: «يوم صومكم يوم نحركم يوم رأس سنتكم».
وحديث: «للسائل حَقٌّ، وإن جاء على فَرس» .
قال الإمام أحمد: أربعة أحاديث تدور في الأسواق، لا أصل لها عن رسول الله ﷺ، فذَكر هذه الأحاديث الأربعة.
المرجع السابق ص١١٩
١٦٤-ومن ذلك-أي من الأحاديث الباطلة-حديث: «لولا كذبُ السائل ما أفلح من رَدّه».
ومن ذلك: حديث: «طَلب الخير من الرُّحماء ، ومن حِسان الوجوه».
ومن ذلك: أحاديث التحذير من التبرّم لحوائج الناس. ليس فيها شيءٌ صحيح.
وكذلك حديث: «السّخي قريب من الناس، قريب من الجنة، والبخيل عكسه».
ومن ذلك: أحاديث اتخاذ السراري، كحديث: «اتخذوا السراري؛ فإنهنّ مُباركات الأرحام»
ومن هذا: أحاديث مَدح العُزبة. كلها باطلٌ.
ومن ذلك: أحاديث النّهي عن قَطع السّدر .
ومن ذلك؛ ما تقدّمت الإشارة إلى بعضه: أحاديث مَدح العدس، والأرز، والباقلاء، والباذنجان، والرمّان، والزبيب، والهندباء، والكراث، والبطيخ، والجوز، والجبن، والهريسة، وفيها جُزء كله كذب من أوله إلى آخره.
وأقرب ما جاء فيها حديث: «أفضل طعام الدنيا والآخرة اللّحم».
وقال العُقيلي: لا يصح في هذا المتن عن النبي ﷺ شيء.
ومن هذا: «حديث النهي عن قَطع اللّحم بالسكين، وأنه من صُنع الأعاجم» .
ومن ذلك: حديث النهي عن الأكل في السوق. كلها باطلةٌ.
ومن ذلك: أحاديث البطّيخ، وفضله. وفيه جُزء.
ومن ذلك: أحاديث فضائل الأزهار، كحديث: «فضل النّرجِس، والورد، والمَرزَنجُوش، والبنفسج، والبان» كلها كذبٌ.
المرجع السابق من ص١٢٠--١٢٦
١٦٥-ومن ذلك: أحاديث الحِنّاء وفضله، والثناء عليه. وفيه جُزءٌ لا يصح منه شيءٌ.
وأجود ما فيه حديث الترمذي: «أربع من سنن المرسلين: السِّواك، والطِّيب، والحنّاء».
وسمعتُ شَيخنا أبا الحجاج المِزّي، يقول: هذا غلطٌ من بعض الرواة، وإنما هو الخِتان بالنون، كذلك رواه المَحامِلي عن شَيخ الترمِذي، قال: والظاهر أنّ اللفظة وَقعت في آخر السّطر فسَقط منها النُّون، فرواها بعضهم: الحِنّاء، وبعضهم الحيَاء. وإنما هو الخِتان.
وصَحّ حديث: الخضاب بالحنّاء والكتم .
المرجع السابق ص١٢٧-١٢٨
١٦٦-ومن ذلك-من الأحاديث الباطلة- أحاديث التختُّم بالعَقيق.
ومن ذلك: حديث النهي أن تُقصّ الرُّؤيا على النساء .
المرجع السابق ص١٢٨
١٦٧-ومن ذلك-أي من الأحاديث الباطلة- أحاديث: لا يَدخل الجنّة وَلد زِنى .
قال أبو الفَرج بن الجَوزي: «وقد وَرد في ذلك أحاديث ليس فيها شيءٌ يصح، وهي مُعَارضةٌ بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الإسراء: ١٥]».
قلتُ: ليست مُعارَضة بها إن صَحّت؛ فإنه لم يُحرم الجنّة بفعل والديه، بل إنّ النُّطفة الخبيثة لا يَتخلّق منها طَيّب في الغالب، ولا يَدخل الجنّة إلا نَفْس طَيّبة، فإن كانت في هذا الجنس طَيبة دَخلت الجنة، وكان الحديث من العَائم المخصُوص.
وقد وَرد في ذَمّه: «أنّه شَرّ الثلاثة». وهو حديثٌ حسنٌ، ومعناه صحيحٌ بهذا الاعتبار؛ فإنّ شَرّ الأبوين عارضٌ، وهذا نُطفةٌ خَبيثةٌ، وشرّه من أصله، وشَرّ الأبوين من فعلهما.
المرجع السابق ص١٢٩

١٦٨-ومن ذلك-أي من الأحاديث الباطلة-حديث: «ليس لفاسق غيبة».
ومن ذلك: أحاديث النهي عن سَبّ البراغيث.
ومن ذلك: أحاديث اللعب بالشطرنج إباحةً وتحريمًا كلها كذبٌ على رسول الله ﷺ، وإنما يثبت فيه المنع عن الصحابة.
ومن ذلك حديث: «لا تُقتل المرأة إذا ارتدّت».
ومن ذلك حديث: «من أُهديت إليه هدية، وعنده جماعة، فهم شركاؤه»
وقال البخاري في صحيحه، باب من أُهدي له هدية وعنده جلساؤه فهو أحق، قال: ويُذكر عن ابن عباس: «إنّ جُلساءه شركاؤه» ولم يصح .
ومن ذلك حديث: «إن عبد الرحمن بن عوف يَدخل الجنّة حَبوًا» .
ومن ذلك: حديث الأبدال، والأقطاب، والأغواث، والنُّقباء، والنُّجباء، والأوتاد، كلها باطلةٌ على رسول الله ﷺ.
وأقرب ما فيها: «لا تَسبُّوا أهل الشام فإن فيهم البُدلاء، كلما مات رجلٌ منهم، أبدل الله مكانه رجلًا آخر».
ذكره أحمد. ولا يصح أيضًا؛ فإنه مُنقطع.
المرجع السابق ص١٣٠-١٣١-١٣٢
١٦٩-ومن ذلك: المنع من رَفع اليدين في الصلاة، عند الركوع، والرفع منه، كلها باطلةٌ مكذوبة على رسول الله ﷺ، لا يصح شيءٌ منها، كحديث ابن مسعود: «إنما أُصلي بكم صَلاة رسول الله ﷺ. قال: فصلّى فلم يَرفَع يديه إلا في أوّل مَرّة»
وذكر سوى هذا الحديث مما هو باطل في المنع من رفع اليدين في الصلاة والركوع وغيرها ستة أحاديث. فلتراجع .
المرجع السابق ص١٣٣-١٣٤-١٣٥
١٧٠-ومن ذلك-أي من الأحاديث الباطلة-حديث: «إن الناس يوم القيامة يُدعون بأمهاتهم لا بآبائهم». هو باطلٌ، والأحاديث الصحيحة بخلافه.
ومن ذلك: «حُضور رسول الله ﷺ سماعًاورقص، حتى شقّ قميصه».
فلعن الله واضعه، ما أجرأه على الكذب.
وحديث: «لو أحسن أحدكم ظنّه بحجر لنفعه».
وهو من وضع المشركين عُبّاد الأوثان.
وحديث: «اتخذوا مع الفقراء أيادي، فإن لهم دَولة يوم القيامة، وأيُّ دَولة» .
وحديث: «من عَشق فعَفّ فكتم فمات فهو شهيدٌ» موضوعٌ على رسول الله ﷺ.
وحديث: «من أكل مع مَغفورٍ له غُفر له». موضوع أيضًا، وغاية ما رُوي فيه أنه مَنَام رآه بعض الناس.
وحديث: «من قَصّ أظفاره مخالفًا لم يَر في عينيه رمدًا». من أقبح الموضوعات.
وحديث: «إذا دعت أحدَكم أمُّه وهو في الصلاة فليجب، وإذا دعاه أبوه فلا يُجب»
وحديث جابر في التشهد، وفي أوله: «بسم الله، التحيات لله». يرويه حُميد بن الربيع، عن أبي عاصم، عن ابن جُريج، عن أبي الزُّبير، عنه. قال ابن معين: هذا حُميد كذابٌ. وقال النسائي: ليس بشيءٍ.
المرجع السابق ص١٣٦-١٣٧-١٣٨-١٣٩
١٧٢-وسئلتُ عن: «لا مَهدي إلا عيسى ابن مريم» . فكيف يأتلف هذا مع أحاديث المهدي، وخروجه، وما وَجه الجمع بينهما؟ وهل في المهدي حديث، أم لا؟
فأما حديث: «لا مَهدي إلا عيسى ابن مريم» فرواه ابن ماجه في «سُننه»، عن يونس بن عبد الأعلى، عن الشافعي، عن محمد بن خالد الجَنَدي، عن أبان بن صالح، عن الحسن، عن أنس بن مالك، عن النبي ﷺ.
وهو مما تفرد به محمد بن خالد.
وقال البيهقي: تفرد به محمد بن خالد هذا.
وقد قال الحاكم أبو عبد الله: هو مجهولٌ.
المرجع السابق ص١٤٠-١٤١
١٧٣-قال الحاكم أبو عبد الله: والأحاديث على خروج المهدي أصح إسنادًا .
قلت: كحديث ابن مسعود، عن النبي ﷺ: «لو لم يَبق من الدنيا إلا يوم، لطوّل الله ذلك اليوم، حتى يَبعث رجلًا مني، أو من أهل بيتي، يُواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قِسطًا وعَدلًا، كما مُلئت ظُلمًا وجَورًا». رواه أبو داود، والترمذي، وقال: «حديث حسن صحيح»، قال: «وفي الباب عن علي، وأبي سعيد، وأمّ سَلمة، وأبي هريرة». ثم رَوى حديث أبي هريرة، وقال: «حسن صحيح». انتهى.
وفي الباب عن حُذيفة بن اليمان، وأبي أُمامة الباهلي، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وثوبان، وأنس بن مالك، وجابر، وابن عباس، وغيرهم.
-وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله ﷺ: «المهدي مِنيّ، أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض قِسطًا، وعدلًا، كما مُلئت جَورًا وظُلمًا، يملك سبع سنين» . رواه أبو داود بإسناد جيدٍ من حديث عِمران بن دَاوَر القطان- وهو حسن الحديث - عن قتادة، عن أبي نَضْرة، عنه.
-ورَوى أبو داود من حديث صالح بن أبي مريم أبي الخليل، عن صاحب له، عن أم سَلمة، عن النبي ﷺ، قال: «يكون اختلاف عند مَوت خَليفة، فيخرج رَجل من أهل المدينة هاربًا إلى مكة، فيأتيه ناس من أهل مكة فيخرجونه، وهو كارهٌ، فيبايعونه بين الرُّكن والمقام... الحديث بطوله "
الحديث حسن، ومثله مما يجوز أن يقال فيه: صحيح.
-وقال ابن ماجه في «سننه»: ثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا أبو داود الحفري ، ثنا ياسين، عن إبراهيم بن محمد بن الحنفية، عن أبيه، عن علي، قال: قال رسول الله ﷺ: «المهدي من أهل البيت يُصلحه الله في ليلة».
وياسين، وإن كان ضعيفًا فحديثه يصلح للاعتضاد، ولم يصلح للاعتماد.
-وذكر أبو نُعيم في «كتاب المهدي» من حديث حُذيفة، قال: قال رسول الله ﷺ: «لو لم يَبق من الدنيا إلا يومٌ واحدٌ، لبعث الله فيه رجلًا اسمه اسمي، وخُلُقه خُلُقي، يُكنى أبا عبد الله» .
ولكن في إسناده العباس بن بكّار لا يُحتج بحديثه، وقد تقدم هذا المتن من حديث ابن مسعود، وأبي هريرة، وهما صحيحان.
-وقد قالت أم سلمة: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «المهدي من عِترتي، من ولد فاطمة» . رواه أبو داود، وابن ماجه، وفي إسناده زياد ابن بَيان، وثّقه ابن حبان ، وقال ابن مَعين: ليس به بأس. وقال البخاري: في إسناد حديثه نظر.
-وقال أبو نعيم: ثنا خلف بن أحمد بن العباس الرَّامَهُرمُزي في «كتابه»، ثنا همّام بن أحمد بن أيوب، ثنا طالوت بن عَبّاد، ثنا سُويد بن إبراهيم، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، قال: قال رسول الله ﷺ: «ليبعثنّ الله من عِترتي رجلًا أفرق الثنايا، أجلى الجبهة، يملأ الأرض عدلًا، يفيض المال» .
ولكن طالوت، وشيخه ضعيفان . والحديث ذكرناه للشواهد.
-وقال يحيى بن عبد الحميد الحِمّاني في «مسنده»: ثنا قيس بن الربيع، عن أبي حُصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: «لا تقوم الساعة حتى يملك رجل من أهل بيتي يفتح القسطنطينية، وجبل الديلم، ولو لم يبق إلا يوم، طوّل الله ذلك اليوم حتى يفتحها».
يحيى بن عبد الحميد وثقه ابن معين وغيره، وتكلم فيه أحمد.
-وقال أبو نُعيم: ثنا أبو الفَرج الأصبهاني، ثنا أحمد بن الحسين، ثنا أبو جعفر بن طارق، عن الخليل بن لطيف، عن أبي نَضْرة، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله ﷺ: «منا الذي يصلي عيسى ابن مريم خلفه فيقول: ألا إن بعضهم على بعضٍ أمراء، تَكْرِمة الله لهذه الأمة».
وهذا إسنادٌ لا تقوم به حجةٌ، لكن في «صحيح ابن حبان» من حديث عطية بن عامر نحوه.
-وقال الحارث بن أبي أسامة في «مسنده»: أنا إسماعيل بن عبد الكريم، حدثنا إبراهيم بن عَقيل، عن أبيه، عن وهب بن مُنبّه، عن جابر، قال: قال رسول الله ﷺ: «ينزل عيسى ابن مريم، فيقول أميرهم المهدي: تعال صَلّ بنا، فيقول: لا، إن بعضهم أميرُ بعضٍ، تَكْرِمة الله هذه الأمة».
وهذا إسنادٌ جيدٌ.
-وقال الطبراني: ثنا محمد بن زكريا الغلابي، ثنا العباس بن بكار، ثنا عبد الله بن زياد، عن الأعمش، عن زِرّ بن حُبيش، عن حُذيفة، قال: «خطبنا النبي ﷺ فذكر ما هو كائنٌ، ثم قال: لو لم يبق من الدنيا إلا يومٌ واحدٌ لطوّل الله ذلك اليوم، حتى يَبعث رجلًا من ولدي، اسمه اسمي». ولكن هذا إسنادٌ ضعيفٌ .
وأحاديث هذا الباب أربعة أقسام: صِحاح، وحِسان، وغَرائب، وموضوعة.
المرجع السابق من ص١٤١--١٤٨
١٧٤-يصح أن يقال: لا مهدي في الحقيقة سواه-يقصد عيسى ابن مريم-، وإن كان غيره مهديًّا، كما يقال: لا علم إلا ما نفع، ولا مال إلا ما وقى وجه صاحبه،وكما يصح أن يقال: إنما المهدي عيسى ابن مريم، يعنى المهدي الكامل المعصوم.
المرجع السابق ص١٤٨
١٧٥-روى أحمد في «مسنده»: ثنا وكيع، عن شَريك، عن علي بن زيد، عن أبي قِلابة، عن ثَوبان، قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا رأيتم الرايات السود قد أقبلت من خراسان، فأتوها ولو حَبوًا على الثلج، فإن فيها خليفة الله المهدي».
وعلي بن زيد، قد روى مسلم له متابعة، ولكن هو ضعيف، وله مناكير تفرد بها، فلا يحتج بما ينفرد به.
وروى ابن ماجه من حديث الثّوري، عن خالد، عن أبي قِلابة، عن أبي أسماء، عن ثَوبان، عن النبي ﷺ، نحوه.
وتابعه عبد العزيز بن المُختار، عن خالد.
المرجع السابق ص١٤٩
١٧٦-وفي «سنن ابن ماجه» عن عبد الله بن مسعود، قال: «بينما نحن عند رسول الله ﷺ، إذ أقبل فِتية من بني هاشم، فلما رآهم النبي ﷺ اغرورقت عيناه، وتَغيّر لونه، فقلتُ: ما نزال نرى في وجهك شيئًا نكرهه؟ قال: إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا، وإنّ أهل بيتي سيلقون بعدي بلاءً وتشريدًا وتطريدًا، حتى يأتي قوم من أهل المشرق، ومعهم رايات سُود يسألون الحق فلا يُعطونه، فيُقاتِلون فيُنصَرون، فيُعطون ما سألوا فلا يَقبلونه، حتى يَدفعُونها إلى رجلٍ من أهل بيتي، فيملؤها قِسطًا، كما مُلئت جَورًا، فمن أدرك ذلك منكم فليأتهم ولو حَبْوًا على الثلج» .
وفي إسناده يزيد بن أبي زياد، وهو سيئ الحفظ، اختلط في آخر عُمُره، وكان يقبل التلقين، وهذا والذي قَبْله لو صح لم يكن فيه دليلٌ على أن المهدي الذي تولى من بني العباس هو المهدي الذي يخرج في آخر الزمان، بل هو مهدي من جملة المهديين، وعمر بن عبد العزيز كان مهديًّا، بل هو أولى باسم المهدي منه.
وقد قال رسول الله ﷺ: «عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديّين من بعدي»
وقد ذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه، وغيره، إلى أن عمر بن عبد العزيز منهم، ولا ريب أنه كان راشدًا مهديًّا، ولكن ليس بالمهدي الذي يخرج في آخر الزمان، فالمهدي في جانب الخير والرشد، كالدجال في جانب الشرّ والضلال، كما أن بين يدي الدجال الأكبر صاحب الخوارق، دجالون كذابون، فكذلك بين يدي المهدي الأكبر مهديون راشدون.
المرجع السابق ص١٥٠-١٥١
١٧٧-مهدي المغاربة: محمد بن تُومرت، فإنه رجلٌ كذابٌ ظالمٌ،متغلبٌ بالباطل، مَلك بالظلم والتغلُّب والتحيُّل، فقَتل النُّفوس، وأباح حريم المسلمين، وسَبى ذراريهم، وأخذ أموالهم، وكان شرًّا على الملّة من الحجاج بن يوسف بكثير.
المرجع السابق ص١٥٤
١٧٨-والنصارى تَنتظر المسيح عيسى ابن مريم، ولا رَيب في نُزوله، ولكن إذا نَزل كَسر الصّليب، وقَتل الخنزير، وأباد المِلَل كلها، سِوى مِلّة الإسلام.
وهذا معنى الحديث: «لا مَهدي إلا عيسى ابن مريم».
المرجع السابق ص١٥٦.

سادسا: الكلام على مسألة السماع :

١٧٩-ولا ريبَ أنَّ ارتكاب المحرمات مع العلم بتحريمها أسهلُ وأسلمُ عاقبةً من ارتكابها على هذا الوجه-يقصد بذلك السماع المحرم الذي ينسب للرسول صلى الله عليه وسلم،ويعتقد أنه قربة، وأن تأثر القلوب به أسرع وأقوى من تأثرها بالقرآن- فإنَّ هذا قَلْبٌ للدين، ومشاقَّةٌ لرسول رب العالمين، واتباعٌ لغير سبيل المؤمنين، وقد قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: ١١٥].
الكلام على مسألة السماع ص٢١
١٨٠-قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (٦) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [لقمان: ٦ - ٧].
وقد فسر غير واحد من السلف لَهْوَ الحديثِ بأنَّه الغناء، وروي في ذلك حديث مرفوع من حديث عائشة أم المؤمنين: «إن الله حرَّم القينَة، وبيعَها وثمنَها وتعليمَها والاستماعَ إليها»، ثمّ قرأ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ﴾ الآية.
وثبت تفسير ذلك بالغناء عن الصحابة والتابعين، وهم أعلم الناس بالقرآن وتفسيره.
المرجع السابق ص٢٤
١٨١-قال عكرمة عن ابن عباس في قوله: ﴿أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ﴾ [النجم: ٥٩ - ٦١]: إنَّ السمود هو الغناء. يقال: سَمَدَ فلان إذا غنَّى . وقد فُسّر السمود باللهو، وفسّر بالإعراض، وفسّر بالغفلة، وفسّر بالأشر والبطر، ولا ينافي تفسيره بالغناء، فإن الغناء ثمرة ذلك كله، فإن الحامل عليه اللهو والغفلة والإعراض والأشر والبطر، وذلك كله منافٍ للعبودية.
المرجع السابق ص٢٤-٢٥
١٨٢-وفي جامع الخلال عن يزيد بن هارون إمام الإسلام في وقته، أنه قال: ما يُغبِّر إلا فاسق، ومتى كان التغبير؟
المرجع السابق ص٣٢
١٨٣-السماع وإن كان قد حضره سيد الطائفة أبو القاسم الجنيد فقد صح عنه أنه تاب عنه وتركه قبل وفاته.
المرجع ص٤٤
١٨٤-بعض المسلمين، واتفاقهم لا يكون حجةً على مَن سواهم من طوائف أهل العلم.
فمَن قال من أهل الإسلام: إن اتفاق السماعاتية حجة شرعية يجب اتباعها؟ أو اتفاق الفقراء أو اتفاق الصوفية حجة؟ فهذا لم يقله أحد من المسلمين، ومَن قاله فقد خرقَ إجماع المسلمين، فإن الحجة كتاب الله، وسنة رسوله وأقوال أصحابه، وإجماع الأمة.
المرجع السابق ص٤٥
١٨٥-من نقل عنه أنَّه حضر السماع من القوم، فليس فيهم رجل واحد يسوغ تقليده في الدين، فإنَّه ليس فيهم إمام من أئمة التقوى والعلم الذين يسوغ تقليدهم في الجملة.
وأعلى من حضره قوم لهم صدق وزهد وأحوال مع الله، ولكنهم ليسوا بمعصومين، ولا لهم قول يحكى مع أقوال العلماء الذين دارت الفتوى والحكم على أقوالهم.
وغاية أحدهم أن يكون حضوره له من السعي المغفور، الذي يغفره الله له لصدقه وكثرة حسناته وحسن نيته، فأما أن يتخذ قُدوة وإمامًا فهذا باطل قطعًا، إذ ليس من أهل الاجتهاد ومن له قول بين أهل العلم.
المرجع السابق ص٤٨-٤٩
١٨٦-قال عارف القوم وسيدهم بلا مدافع، الشيخ عبد القادر الكيلاني بعد ذكره آداب السماع: «ولو صدق القوم في قصدهم وتجردهم وتصوفهم، لما انزعجوا في قلوبهم وجوارحهم بغير سماع كتاب الله عز وجل ، إذ هو كلام محبوبهم وصفته، وفيه ذكره وذكرهم، وذكر الأولين والآخرين .. الخ ماقال )
المرجع السابق ص١٥٢
١٨٧-ينظر إلى ما في هذا السماع من المصلحة والمفسدة، فإن كانت مصلحته أرجح من مفسدته لم يكن حرامًا، وإن كانت مفسدته أرجح من مصلحته كان حرامًا، ولا تقتضي الشريعة غير هذا. ومعلوم قطعًا أن السماع المصطلح عليه المتعارف اليوم بين الناس مصلحته في مفسدته كتَفْلَةٍ في بحر، فإن كان فيه جزء من المصالح ففيه ثلاثة وعشرون جزءًا من المفاسد، فهو أشبه الأشياء بالخمر والميسر اللذين قال الله تعالى فيهما: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ [البقرة: ٢١٩].
المرجع السابق ص٥٩
١٨٨-ولما كان عادة الملوك أن يُحيَّوا بأنواع التحيات من الأفعال والأقوال المتضمنة للخضوع والثناء وطلب البقاء ودوام الملك، فمنهم من يُحيَّى بالسجود، ومنهم من يُحيَّى بالثناء عليه، ومنهم من يُحيَّى بطلب البقاء والدوام له، ومنهم من يُجمع له ذلك كله، فكان الملك الحق سبحانه أولى بالتحيات كلها من جميع خلقه، وهي له بالحقيقة، ولهذا فُسِّرت التحيات بالملك، وفسرت بالبقاء والدوام، وحقيقتها ما ذكرته، وهي تحيات الملك، فالملك الحق المبين أولى بها.
فكل تحية يُحيَّى بها ملِكٌ من سجود أو ثناء أو بقاء ودوام فهي لله عزوجل، ولهذا أتى بها مجموعةً معرَّفةً باللام إرادةَ العموم، وهي جمع تحية، وهي تفعلة من الحياة، وأصلها تَحيِيَة بوزن تكرِمة، ثمّ أُدغِم أحد المثلين في الآخر فصارت تحيَّة، وإذا كان أصلها من الحياة فالمطلوب بها لمن يُحيَّا بها دوام الحياة.
وكانوا يقولون لملوكهم: لك الحياة الباقية، ولك الحياة الدائمة، وبعضهم يقول: عشرة آلاف سنة، واشتقَّ منها: أدام الله أيامك، وأطال الله بقاءك، ونحو ذلك مما يراد به دوام الحياة والملك، وذلك لا ينبغي إلا للحي الذي لا يموت، وللملك الذي كل مُلكٍ زائل غير ملكه.
المرجع السابق ص١٠٩
١٨٩-قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الزمر: ١٨].
الألف واللام هنا-يعني القول- لتعريف العهد، وهو القول الذي دُعِيَ إليه المخاطب وأُمِرَ بتدبره، وأُخبِر بتوصيله له، وهو كالكتاب والقرآن. والألف واللام فيه كالألف واللام في الكتاب سواء، وكذلك الألف واللام في الرسول في قوله: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ [الفرقان: ٣٠]، وفي قوله: ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾ [النور: ٦٣]، وقوله: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ [المائدة: ٩٢]، فهل يجوز أن يقال: إن اللام في الكتاب والرسول للاستغراق، فتُحمل على كل كتاب وعلى كل رسول؟
وإن كانت للعموم فهي إنما تعمُّ القولَ الذي أنزله الله ومدحَه وأثنى عليه، وأمرَ باتّباعه واستماعه وتدبره وفهمه، فهي تقتضي العمومَ والاستغراق في جميع هذا القول، فإنها تقتضي عمومَ ما عرفته وقصْدَ مصحوبها.
المرجع السابق ص١٢٧
١٩٠-ذكر أبو نعيم في «صفة الجنة» من حديث سعيد بن أبي مريم ثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير عن زيد بن أسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: «إن أزواجَ أهل الجنة ليغنِّين أزواجَهن بأحسن أصواتٍ سمعها أحدٌ قطُّ، وإن مما يُغنِّينَ: نحن الخيراتُ الحسانُ، نحن أزواجُ قومٍ كرام، ينظرون بِقرّةِ أعيان. وإن مما يُغنين به: نحن الخالداتُ فلا يَمُتْنَهْ، نحن الآمناتُ فلا يَخَفْنَهْ، نحن المقيماتُ فلا يَظْعَنَّهْ ». تفرد به سعيد بن أبي مريم.
المرجع السابق ص١٣٥
١٩١-وروى الطبراني من حديث سليمان بن أبي كريمة ــ وفيه كلام ــ
عن هشام بن حسان عن الحسن عن أمه عن أم سلمة قالت: قلت: يا رسول الله! نساء الدنيا أفضل أم الحور العين؟ قال: «بل نساء الدنيا أفضل من الحور العين، كفضل الظِّهارة على البِطانة»، قلت: يا رسول الله! وبمَ ذلك؟ قال: «بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن لله، ألبسَ الله وجوهَهن النورَ، وأجسادَهن الحريرَ، بِيضُ الألوان، خُضْر الثياب، صُفْر الحلي، مَجامِرُهن الدُّرّ، وأمشاطهن الذهب، يقلن: نحن الخالداتُ فلا نموت، ونحن الناعمات فلا نَبْأَس أبدًا، ونحن المقيمات فلا نظعن أبدًا، ونحن الراضيات فلا نسخط أبدًا، طوبى لمن كنا له وكان لنا». الحديث.
المرجع السابق ص١٣٨
١٩٢-فلو قيل: إن هذا السماع اللذيذ الموعود به في الجنة إنما هو لمن نزَّه سمْعَه في الدنيا عن سماع الغناء والملاهي، اعتبارًا بنظيره من اللباس وشرب الخمر واستعمال آنية الذهب والفضة، لكان هذا أشبهَ بالصواب، وأصحَّ من استدلالكم على إباحته في الدنيا باستعمال أهل الجنة له.
وقد جاء الأثر بما قلنا صريحًا، وهو ما روى أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا داود بن عمرو الضبي حدثنا عبد الله بن المبارك عن مالك بن أنس عن محمد بن المنكدر قال: «إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: أين الذين كانوا يُنزِّهون أنفسهم عن اللهو ومزامير الشيطان؟
أسكِنوهم في رياض المسك. ثم يقول للملائكة أَسمِعوهم حمدي وثنائي، وأَعلِموهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون». وقد تقدم نقله عن مجاهد من كلام ابن بطة.
المرجع السابق ص١٤٠
١٩٣-جاء في الحديث: أن الرجل من أهل الجنة يُزوَّج باثنتين وسبعين زوجة، ذكره أبو نعيم في كتاب صفة الجنة من حديث خالد بن معدان عن أبي أمامة عن رسول الله ﷺ قال: «ما من عبدٍ يدخل الجنة إلا ويُزوَّج ثنتين وسبعين زوجةً، ثنتان من الحور العين وسبعين من أهل ميراثه من أهل الدنيا، ليس منهن امرأة إلا لها قُبُلٌ شَهِيٌّ، وله ذَكَرٌ لا يَنثني».
وذكر من حديث الحجاج عن قتادة عن أنس يرفعه: «للمؤمن في الجنة ثلاثون زوجة»، فقلنا: يا رسول الله! أوَله قوةُ ذلك؟ قال: «إنه لَيُعطَى قوةَ مائةٍ».
وفي حديث آخر: «إن الرجل منهم ليصل في اليوم إلى مائة عذراءَ».
وهذه الآثار لا تناقُضَ بينها، فإن تفاضلهم في العدد على حسب تفاضلهم في مقدار الثواب.
المرجع السابق ص١٤٠-١٤١
١٩٤-قال إمام الزنادقة ابن الراوندي: اختلف الفقهاء في السماع، فقال بعضهم: هو مباح، وقال بعضهم: هو محرم، وعندي أنه واجب. ذكره أبو عبد الرحمن السلمي عنه في «مسألة السماع» واعتضد به. وكذلك شيخ الملاحدة وإمامهم ابن سينا في الإشارات أمر بسماع الألحان وعشق الصور، وجعل ذلك مما يُزكِّي النفوس ويُهذِّبها ويُصفّيها، وقبله معهم معلمهم الثاني أبو نصر الفارابي إمام أهل الألحان. فرضي الله عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي، وجزاه عن نصيحته للإسلام خيرًا، فكل هذا مما يشهد لقوله: إن غناء التغبير من إحداث الزنادقة.
الكلام على مسألة السماع ص١٤٦
١٩٥-لا يسوغ أن يقرأ القرآن بألحان الغناء، ويُقْرن به من الألحان وآلات اللهو ما يُقْرن بالغناء، حتى ولا عند من يقول بإباحة ذلك في الشعر، بل المسلمون مجمعون على تحريمه.
المرجع السابق ص١٥٥

١٩٦-هذا أصل عظيم من أصول سبيل الله، والطريق الموصل إليه، يجب الاعتناء به، فإنَّ كثيرًا من الأفعال قد يكون مباحًا أو مكروهًا أو محرمًا، إما بالاتفاق، أو فيه نزاع بين العلماء، فيستحسنه طائفة من الناس ويفعلونه على أنَّه قربة وطاعة ودين يتقربون به إلى الله، حتى يعدُّون من يفعل ذلك أفضل ممن لا يفعله، وربما جعلوا ذلك من لوازم طريقهم إلى الله، أو جعلوه شعارَ الصالحين وأولياء الله، ويكون ذلك خطأ وضلالًا ودينًا مبتدعًا لم يأذن به الله.
مثال ذلك: حلق الرأس في غير الحج والعمرة من غير عذر، اختلف الناس في إباحته وكراهته على قولين، وهما روايتان عن أحمد، ولا خلاف بينهم أنه لا يُشرَع ولا يُستحَبّ، ولا هو قربة إلى الله، ومع هذا فقد اتخذه طوائف من النسَّاك والفقراء دينًا، حتى جعلوه شعارًا وعلامة على الدين والنسك والخير، وجعلوه من تمام التوبة، حتى إنَّ من لم يفعل ذلك يكون منقوصًا خارجًا عن الطريق المفضلة المحمودة عندهم، ومن فعل ذلك دخل في هَدْيهم وطريقهم. وهذا خروجٌ عن طريق الله وسبيله باتفاق المسلمين، واتخاذ ذلك دينًا وشعارًا لأهل الدين من أسباب تبديل الدين، فكما أنَّه لا حرامَ إلا ما حرَّمه الله، ولا واجبَ إلا ما أوجبه، فلا دينَ إلَّا ما شرعه، ولا مستحبَّ إلا ما أحبه.
المرجع السابق ص١٦٤
١٩٧-وأمّا نقلك لإباحته -يقصد الغناء- عن مالك بن أنس وأهل الحجاز كلهم فهذا من أقبح الغلط وأفحشه، فإن مالكًا نفسه لم يختلف قوله وقول أصحابه في ذمِّه والمنع منه وكراهته، بل هو من المبالغين في ذلك، الشاهدين على أهله بالفسق، ولهذا لما سأله إسحاق بن عيسى الطبَّاع عمّا يترخص فيه أهل المدينة من الغناء، فقال: «إنما يفعله عندنا الفساق».
ومؤلفات أصحابه في تحريمه شاهدة بذلك .
والشافعي لم يختلف قوله في كراهته، وقال في كتابه المعروف «بأدب القضاء»: الغناء لهو مكروه شبيه بالباطل، ومَن استكثر منه فهو سفيهٌ تُرَدَّ شهادتُه. وقد قال عن سماع التغبير الذي هو أحسن سماعات هؤلاء: إنه مما أحدثته الزنادقة يَصُدُّون به الناس عن القرآن. وأمّا فقهاء الكوفة فمن أشدّ الناس تحريمًا للغناء، ولم يتنازعوا في ذلك، ولم يخالفهم إلا العنبري
١٩٧-قال صاحب الغناء: وقد ذكر محمد بن طاهر في مسألة «السماع» حكاية عن مالك أنه ضربَ بطَبْلٍ، وأنشد أبياتًا، ومالك مالك!
*قال صاحب القرآن: قد أعاذ الله مالكًا وأصحابه من هذا البهتان والفرية، ومالك أجلُّ عند الله وعند أهل الإسلام من ذلك، والكذبُ الفاحش على الأئمة المشهورين صنعة جهلة الكذابين، فلو أن واضع هذه الحكاية نسبها إلى مَن ليس في الشهرة والإمامة والجلالة كمالكٍ لأمكن أن يخفى ويَرُوجَ على الجهال، وأمّا على إمام دار الهجرة فسبحانك هذا بهتان عظيم.
المرجع السابق ص١٧٨-١٧٩
١٩٨-ليس ابن جريج وأهل مكة ممن يعرف عنهم الغناء، بل المشهور عنهم خلاف ذلك.ولم يجعلْه ابن جريج ولا أحدٌ قبلَ هذه الطائفة دينًا وقربةً وصلاحًا للقلوب، ويُفضِّلْه على سماع القرآن من وجوه متعددة، بل غاية ما يُحكَى عمن يُرخِّص فيه أنه جعله بمنزلة الغناء والضرب بالدف للنساء في العرس وأيام الأعياد وعند قدوم الغائب، وهو مع ذلك باطل، كما في الحديث الذي في السنن: أن امرأة نذرَتْ أن تَضِربَ لقدوم رسول الله ﷺ بالدفّ ففعلتْ، فلما جاء عمر أمرها رسول الله ﷺ بالسكوت، وقال: «إن هذا رجل لا يحب الباطل» . وسمى الصديق غناء الجويريتين يومَ العيد مزمور الشيطان، وأقرَّه رسول الله ﷺ على هذه التسمية، وأقرَّ الجويريتين لمكان صغرهما وكونه يوم عيد،
وخلوّ ما تُغنِّيان به من آلاتِ المعازف وغناءِ الألحان والطرابات، ولم يقل: هو قربة وطاعة ودين ومصلح للقلوب،بل قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: «كلُّ لهوٍ يلهو به الرجل فهو باطل إلا رميَهُ بقوسه وتأديبَه فرسَه وملاعبتَه امرأته، فإنهن من الحق».
المرجع السابق ص١٧٩-١٨٠
١٩٩-ومعلوم أن الباطل من الأعمال هو ما ليس فيه منفعة، فهذا يُرخَّص في بعضه أحيانًا للنفوس التي لا تصبر على الحق المحض، ويُرخَّص منه في القدر الذي يحتاج إليه، في الأوقات التي تتقاضى ذلك، كالأعياد والأعراس وقدوم الغائب، وتلك نفوس الصبيان والنساء والجواري الصغار، وهن اللاتي غنَّين في بيت عائشة، وضربن بالدف خلفَ رسول الله ﷺ، وعند تلقِّيه فرحًا وسرورًا به.
فهذا كان فرح هؤلاء الضعفاء العقول الذين لا تحتمل عقولهم الصبرَ تحت محض الحق، فكان في إقرارهم بالترخيص لهم في هذا القدر مصلحةٌ لهم، وذريعةٌ إلى انبساط نفوسهم وفرحهم بالحق، فهو من نوع الترخيص في اللُّعَبِ للبنات، وما شاكل ذلك، وهذا من كمال شريعته ومعرفته بالنفوس وما تصلح عليه، وسوقها إلى دينه بكل طريق وفي كل وادٍ. ومن المعلوم أن النفوس الصغار والعقول الضعيفة إذا حُمِلت على محض الحق، وحُمِلَ عليها ثِقلُه، تفسَّخَتْ تحته واستعصَتْ ولم تَنقَدْ، فإذا أُعطِيَتْ شيئًا من الباطل ليكون لها عونًا على الحق ومنفذًا له، كان أسرعَ لقبولها وطاعتها وانقيادها.
المرجع السابق ص١٨١
٢٠٠-والتأويل والاجتهاد من باب المعارض في حق بعض الناس، يُدفَع به عنه العقوبة كما يُدفَع بالتوبة والحسنات الماحية، وهذا إنما هو لمن استفرغ وُسعَه في طلب الحق واتقى الله ما استطاع.
المرجع السابق ص١٨٣
٢٠١-وبالجملة فالكلام في السماع على وجهين:
أحدهما: سماع اللهو واللعب والطرب، فهذا يقال فيه: مكروه أو محرم أو باطل، أو مُرخَّص في بعض أنواعه.
والثاني: السماع المحدَث لأهل الدين والقُربة، فهذا يقال فيه: إنه بدعة وضلالة، وإنه مخالف لكتاب الله وسنة رسول الله ﷺ وإجماع السالفين جميعهم، وإنما حدثَ في الأمة لما حدث الكلام، فكثر هذا في أهل النظر والعلم، وكثر هذا في أهل الإرادة والعبادة، ولهذا كان يزيد بن هارون شيخ الإسلام في وقته، وهو من أتباع التابعين، ينهى عن مجالسة الجهمية والمغبِّرة، هؤلاء أهل الكلام المخالف للكتاب والسنة، وهؤلاء أهل السماع المُحدَث المخالف للكتاب والسنة، ولهذا لم يستطع أحد قطُّ ممن زعم أن هذا السماع قربة ومستحب، أن يأتي بأثرٍ عن رسول الله ﷺ ولا عن أحد من أصحابه بذلك، إلا من جاهر بالوقاحة والكذب، وزعم أن رسول الله ﷺ سمع هذا السماع، وتواجدَ عليه حتى شقَّ قميصَه. فلْيَبْشُرْ من نسب ذلك إليه بمقعده من النار.
المرجع السابق ص١٨٤
٢٠٢-قال صاحب الغناء : وقد رُوي عن ابن عمر وعبد الله بن جعفر آثارٌ في إباحة السماع، هذا مع تشدد ابن عمر وزهده ودينه وحرصه على متابعة الرسول وبُعْدِه من البدع، وعبد الله بن جعفر الطيار.
* قال صاحب القرآن: أما ما نقل عن ابن عمر فإنه نقلٌ باطل، والمحفوظ عن ابن عمر ذمه للغناء، ونهيه عنه، كما هو المحفوظ عن إخوانه من أصحاب رسول الله ﷺ كابن مسعود وابن عباس وجابر وغيرهم، ممن رضيهم المسلمون قدوةً وأئمةً. وهذه سيرة ابن عمر وأخباره ومناقبه وفتاويه بين الأمة، هل تجد فيها أنه عمل هذا السماع أو حضره أو رخَّص فيه؟ فقد نزَّه الله سَمْعَ ابن عمر عنه، بل وأصحاب ابن عمر.
وأما ما نقلتَ عن عبد الله بن جعفر، فلا ريب أنه قد نُقِل عنه ذلك، لكن المنقول عنه أنه كانت له جارية تُغنِّيه في بيته، فيستمتع بسماع غنائها. هذا غايةُ ما نُقِل عنه، وليس ابن جعفر ممن يُعارَضُ به أركانُ الأمة كابن مسعود وابن عباس وجابر وابن عمر. ومن احتج بفعل عبد الله بن جعفر فليحتجَّ بفعل معاوية في قتاله لعلي، وبفعل عبد الله بن الزبير في قتاله في الفرقة، وبفعل مروان بن الحكم في خطبته يوم العيد قبل الصلاة، وأمثال ذلك مما لا يصلح لأهل العلم والدين أن يُدْخِلوه في أدلة الشرع، لا سيما النسّاك والزهاد وأهل الحقائق، فإنهم لا يَصلُح لهم أن يتركوا سبيلَ مثل أبي ذر وأبي أيوب الأنصاري وعمار بن ياسر وأبي الدرداء ومعاذ بن جبل وأبي عبيدة بن الجراح، والمشهورين بالنسك والعبادة، ويتبعون سبيلَ من اتخذ جاريةً تُغنِّيه في بيته للهو واللذة، ويجعلونه حجةً لهم فيما بينهم وبين الله في الرقص وسماع الأغاني المطربة من الشاهد المليح، بمساعدة الدفوف والشبابات والمواصيل. هذا مع أن الذي فعله عبد الله بن جعفر كان في داره، لم يكن يجمع الناس على ذلك ولا يدعو إليه، ولا يعدُّه دينًا وقربة يُقرِّبه إلى الله، بل هو من الباطل واللهو.
المرجع السابق ص١٨٥-١٨٦
٢٠٣-وأما قولكم-يقصد أصحاب الغناء-: «إن الغناء إن لم يكنْه فهما رضيعَا لِبانٍ، وهما في بابهما أخوانِ» فمن أبطل الباطل، وهو من جنس استدلالكم على حل الغناء والسماع بسماع النبي ﷺ الشعرَ واستنشاده له، وهل هذا إلا من أفسدِ القياس وأبطله؟ وإذا كان الأمر كما تقولون فلِمَ سمع رسول الله ﷺ وأصحابه الحُداءَ والشعر؟ ولم يُنقل والعياذ بالله عن أحد منهم قطُّ استماعُ الغناء وحضوره وإقامته، فضلًا عن اتخاذه طاعة وقربة ودينًا! فقياس الغناء على الحداء من جنس قياس الربا على البيع، وقياس نكاح التحليل على نكاح الرغبة، ونكاح المتعة على النكاح المؤبد، وأمثال ذلك من الأقيسة التي تتضمن الجمع بين ما فرَّق الله ورسوله بينهما.
المرجع السابق ص١٨٧-١٨٨
٢٠٤-وهل الاستعانة على الحق بالشيء اليسير من الباطل إلا خاصة الحكمة والعقل؟ بل يصير ذلك من الحق إذا كان مُعِينًا عليه، ولهذا كان لَهْوُ الرجل بفرسه وقوسه وزوجته من الحق، لإعانته على الشجاعة والجهاد والعفة، والنفوس لا تنقاد إلى الحق إلا ببِرْطيلٍ، فإذا بُرطِلَتْ بشيء من الباطل لتبذل به حقًّا، وُجُوْدُه أنفعُ لها وخير من فوات ذلك الباطل، كان هذا من تمام تربيتها وتكميلها. فليتأمل اللبيب هذا الموضع حق التأمل، فإنَّه نافعٌ جدًّا، والله المستعان.
المرجع السابق ص١٩٢
٢٠٥-فقوله: «ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن»، إن أريد به الحضّ على نفس الفعل كان ذمًّا لمن ترك التغني به، وإن أريد به المعنى الثاني، وهو أنَّه إذا تغنى فليتغنَّ بالقرآن، كان ذمًّا لمن تغنَّى بغيره، لا لمن ترك التغني به، وبين المعنيين فرق ظاهر، وقد يصح أن يُرادَا معًا، وأنَّه ذمّ من ترك التغني به ومن تغنَّى بغيره. والله أعلم.
المرجع السابق ص١٩٥

٢٠٦-قال النبي ﷺ : «صوتان ملعونان: صوتُ ويلٍ عند مصيبة، وصوتُ مزمارٍ عند نِعْمة»
هذا الحديث من أجود ما يُحتَجُّ به على تحريم الغناء، كما في اللفظ الآخر الصحيح: «إنما نَهَيْتُ عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نِعْمة: لهو ولعب ومزامير الشيطان، وصوت عند مصيبة: لَطْم خدودٍ وشَقّ جُيوبٍ ودعاء بدعوى الجاهلية» .
وقولك-يقصد صاحب الغناء-: «إنَّ مفهوم الخطاب يقتضي إباحةَ غير هذا»، فجوابه من وجهين:
أحدهما: أنَّ مثل هذا اللفظ لا مفهومَ له عند أكثر أهل العلم، فإنَّ التخصيص في مثل هذا بالعدد لا يقتضي اختصاص الحكم به، كقوله ﷺ: «ثلاث في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن»، لا يقتضي أنَّه ليس فيهم من أمر الجاهلية غير هذه الثلاث، ومن قال من الفقهاء بمفهوم العدد، فإنما يكون عنده حجة إذا لم يكن للتخصيص سبب آخر، وهنا التخصيص لكون هذين الصوتين كانا معتادين في زمنه وعلى عهده ﷺ، كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ﴾ [الإسراء: ٣١] فإنَّ القتل على هذه الصفة هو الذي كان معتادًا على عهده في العرب.
الثاني: أنَّ اللفظ الذي ذكره رسول الله ﷺ يدل على مورد النزاع، فإنَّه إذا نُهِي عن هذا الصوت عند النعمة التي يُعذَر الإنسان عندها، إذ هي محل فرح وسرور، كما رخّص في غناء النساء في الأعراس والأعياد ونحو ذلك، فلأن يُنهَى عنه في غير هذه الحال أولى وأحرى.
المرجع السابق ص١٩٦
٢٠٧-روى ابن طاهر المقدسي أن رجلًا أنشد بين يدي النبي ﷺ:
أقبلتْ فلاحَ لها ... عارضانِ كالسَّبَجِ
أدبرَتْ فقلتُ لها ... والفؤادُ في وَهَجِ
هلْ عليَّ ويحَكما ... إن عَشِقْتُ من حَرجِ
فقال رسول الله ﷺ: «لا إن شاء الله». وذكره أبو القاسم القشيري في رسالته .
هذا الحديث مكذوب موضوع على رسول الله ﷺ، لا يشك فيه مَن له أدنى علم بسنّة رسول الله ﷺ وتمييز صحيحها من سقيمها، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدّس الله روحه يقول: «هذا الحديث موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث، لا أصل له، وليس هو في شيء من دواوين الإسلام، وليس له إسناد» . ومَن له أدنى ذوق في الشعر يعرف أن هذا من شعر المتأخرين، وليس من فحله بل من ثُنيانِه، وشعر العرب أفحلُ من هذا وأحمس. وكيف يُظَنُّ بالنبي ﷺ أنه يقول: لا حرج؟ من غير أن يسأله عن معشوقته أهي ممن يحل له أم لا؟ فقبَّح الله واضعَه على رسول الله ﷺ، ما أجرأَه على النار!
المرجع السابق ص١٩٨-١٩٩
٢٠٨-قال صاحب الغناء: قد روي أن أعرابيًا أتى النبي ﷺ وأنشده:
قد لَسَعَتْ حيَّةُ الهوى كَبِدِي ... فلا طبيبٌ لها ولا رَاقِي
إلّا الحبيب الذي شُغِفْتُ به ... فعنده رُقْيتي وتِرْيَاقِي
فتواجد النبي ﷺ عند سماعه .
وهذا الحديث أيضًا من الطراز الأول، فليتبوأ واضعُه على رسول الله ﷺ مقعدَه من النار. سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: «هذا كذبٌ مفترًى موضوع باتفاق أهل العلم» .
قلت: وركاكة شعره وسماجته وما تجد عليه من الثقالة، من أبين الشواهد على أنه من شعر المتأخرين البارد السَّمج، فقبَّح الله الكاذبين على رسول الله ﷺ.
المرجع السابق ص١٩٩-٢٠٠
٢٠٩-وقد اختلف الناس في كفر من كذب عليه-أي على النبي صلى الله عليه وسلم-وقتله على قولين مشهورين، وهما وجهان لأصحاب الشافعي وغيرهم، والذين ذهبوا إلى كفره وقتله احتجوا بالأثر المشهور أن رجلًا جاء إلى قوم من العرب، فقال: إني رسول رسول الله ﷺ إليكم أن تزوِّجوني، فزوَّجوه وأكرموه،ثمّ أرسلوا إلى رسول الله ﷺ أنّا قد فعلنا ما أمرتَنا به، فأمر بقتله.
وذكر لأصحاب هذا المذهب زيادة على هذا أربع حجج ثم قال في آخر ذلك :وهذا المذهب كما ترى قوةً وظهورًا.
المرجع السابق ص٢٠٠-٢٠١-٢٠٢
٢١٠-قال صاحب الغناء: وقد رُوي أن أصحاب الصُّفَّةِ سمعوا يومًا فتواجدوا، ومزَّقوا ثيابهم. ولنا الأسوة فيهم.
هذا أيضًا من جِراب الكذب الذي فتحه البهَّاتون الكذابون الدجّالون، ولم يكن في القرون الثلاثة لا بالمدينة ولا بمكة ولا بالشام ولا باليمن ولا بمصر ولا خراسان ولا العراق، مَن يجتمع على هذا السماع المحدَث، فضلًا عن أن يكون نظيره كان على عهد رسول الله ﷺ، ولا كان أحد يُمزِّق ثيابه من السلف الصالح، وهم كانوا أعلمَ بالله وأفقهَ في دينه من أن يُقدِموا على محرَّم في الشريعة باتفاق الأمة، وهو إتلاف المال وإضاعته، ويعدُّونه قربةً إلى الله تعالى، ولا كان فيهم رقَّاصٌ، بل لمَّا حدثَ التغبيرُ في أواخر المائة الثانية، وكان أهله من خيار طائفتهم، وكان مبدأ حدوثه من جهة المشرق التي منها يطلع قرن الشيطان، وبها الفِتَن ، قال الشافعي: «خلّفتُ ببغداد شيئًا أحدثتْه الزنادقة يسمّونه التغبير، يصدُّون به الناس عن القرآن».
المرجع السابق ص٢٠٢
٢١١-الاحتجاج بفعل طائفة من الصديقين في مسألة نازعهم فيها مثلُهم أو أكثرُ منهم فباطل، بل لو كان المنازع لهم أقلَّ منهم عددًا وأدنى منزلةً، لم تكن الحجة مع أحدهما إلا بكتاب الله وسنّة رسوله ﷺ، فإن الأمة أُمِرَتْ بذلك، قال الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [النساء: ٥٩]. فإذا تنازع الأمراء والعلماء والزهّاد والعبّاد في شيء، فعليهم جميعهم أن يردُّوا ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله.
المرجع السابق ص٢٠٥
٢١٢-رفع الأصوات بالذكر المشروع مكروه، إلا حيث جاءت به السنّة، كالأذان والتلبية.
وقال الحسن البصري: «رفع الصوت بالدعاء بدعة». ونص عليه الإمام أحمد وغيره.
فإذا كان رفع الصوت في مواطن العبادات بالذكر والدعاء الذي يحبه الله ويرضاه بدعةً مكروهة لا يتقرب بها إلى الله، فكيف يكون رفعُه بالغناء الذي هو قرآن الشيطان قربةً وطاعة؟ وقد سماه النبي ﷺ صوتًا فاجرًا أحمق، ونهى عنه.
المرجع السابق ص٢٢٥-٢٢٦-٢٢٧
٢١٣-وأمّا القتال فالسنّة فيه خفض الصوت.
المرجع السابق ص٢٢٧
٢١٤-قال صاحب الغناء:حكى إسماعيل بن عُلَية قال: كنت أمشي مع الشافعي وقت الهاجرة، فجُزْنا بموضع يقول فيه قوّالٌ شيئًا، فقال: مِلْ بنا إليه، ثم قال لي: أيُطْرِبك هذا؟ فقلت: لا، فقال: ما لك حسٌّ.
قال صاحب القرآن وهو كلام ابن القيم:هذه حكاية مكذوبة مختلَقةٍ على الشافعي، يَعلم كذِبَها من له معرفة بالناس وطبقاتهم. والشافعي أخذ عن إسماعيل بن عُلَية، وهو من أكبر شيوخه، وأما ابنه إبراهيم تلميذ عبد الرحمن بن كيسان الأصم فكان الشافعي يذمُّه، ويقول فيه: «أنا مخالفٌ لابن عُلَية في كل شيء، حتى في قول لا إله إلا الله، فإني أقول: لا إله إلا الله الذي كلَّم موسى من وراء حجاب، وهو يقول: لا إله إلا الله الذي خَلق في الهواء كلامًا أسمعَه موسى . وهذا هو الذي يُذكر له أقوال شاذة في الفقه وأصوله، ويظن من لا علم عنده أنه إسماعيل، وليس الأمر كذلك. فإن أباه إسماعيل من أجلِّ شيوخ الشافعي وأحمد وطبقتهما.
ثم لو صحَّت هذه الحكاية لم يكن فيها إلا ما هو مُدرَك بالإحساس، من أنّ الصوت الطيب لذيذ مُطرِب، وهذا أمر يشترك فيه جميع الناس، ليس مما يحتاج أن يستدل فيه بشهادة الشافعي، بل ذِكرُ الشافعي في مثل هذا غضٌّ من منصبه. كما ذكر ابن طاهر عن مالك تلك الحكاية المشهورة، ولولا شهرة زهد أحمد وورعه لوضعوا عليه حكاية في إباحة السماع.
المرجع السابق ص٢٣٢
٢١٥-فإنَّه ما بُدِّلتِ الأديانُ في سالف الأزمنة وهَلُمَّ جرًّا إلا بمثل هذه المقاييس-يقصد الباطلة-، فمن عَمَدَ إلى كلام الله الذي أنزله وأمر باستماعه، فعَدَلَ به سماعَ بعض الأشعار وآثره عليه، وأخذ ذوقَه ومواجيدَه وصلاحَ قلبه منه، فهو ممن اتخذ من دون الله أندادًا يحبهم كحبّ الله، والذين آمنوا أشدُّ حبًّا لله.
المرجع السابق ص٢٣٧
٢١٦-الواقعون في فتنة الصوت منهم من له من العقل والدين والمعرفة ما ليس في الواقعين في فتنة الصور، فإنَّه ليس في أهل الصور رجلٌ مشهور بين الأمة بعلم ودين وسلوك وخير، بخلاف أهل الأصوات، ولكن أهل الأصوات طَرَّقُوا لأهل الصور الطريقَ،ونَهَجُوا لهم السبيلَ، ونَقَطُوا لهم فخطُّوا، وارتادوا لهم المنازلَ فحطُّوا، وطيَّبوا لهم السيرَ فساروا، وجدُّوا بهم إلى مطارح الجمال فطاروا، ودَبْدَبُوا لهم فطاب لهم اللعب، وغنَّوا لهم فاستفزَّهم إلى المليح والمليحة الطربُ، ووصفوا لهم سمرَ القدود ووردَ الخدود وتفلُّكَ النهود وسواد العيون وبياض الثغور، ونادَوا: «حيَّ على الوصال» فما وصلُ الحبيب بمحظور، فأجاب القوم مناديَ الهوى إذ نادى بهم بحيَّ على غير الفلاح، وباعوا أنفسَهم بالغَبْن وبذلوها في مرضاةِ الصور الجميلة بذلَ المحبِّ أخي سماح، تاللهِ ما حَمِدُوا عقبى سيرِهم لما حَمِدَ القومُ السُّرى عند الصباح.
المرجع السابق ص٢٣٨
٢١٧-حديث «من عَشِقَ وعفَّ وكتمَ فمات مات شهيدًا»، ولم يعلموا أنَّه خبر موضوع على رسول الله ﷺ.
المرجع السابق ص٢٣٩
٢١٨-ويحتجون-أي طوائف من الجهال- بأنَّ العشق والمحبة غير داخلٍ تحت الاختيار، ولا يملك العبدُ دفعَه عن نفسه، وما كان هكذا فإنَّ الله لا يُعذِّب عليه. وينسَون أنَّ تولُّعَهم به وتعاطِيَهم لأسبابه مقدور، وبه يتعلق التكليف، فلما خانت أعينُهم وتمنَّتْ أنفسُهم وأتبَعُوا النظرةَ النظرةَ تمكَّن داء العشق منهم، فعزَّ على الأطباء دواؤه.
المرجع السابق ص٢٤٠

٢١٩-وإذا استوى شخصان في الأعمال الصالحة وكان أحدهما أحسنَ صورةً أو أحسنَ صوتًا كانا عند الله سواء، فإنَّ أكرم الخلق عند الله أتقاهم، ولكن صاحب الصورة الجميلة إذا صان جمالَه عن محارم الله وعفَّ عنها كان أفضلَ من غيره من هذا الوجه، وهو بمنزلة صاحب المال والقدرة إذا عفَّ عن قدرة، فإنَّه أفضلُ ممن عفافُه عفافُ عجز، فإنَّ ما امتحن به صاحب القدرة والمال والجمال من الأسباب الداعية إلى اتباع الهوى أو قضاء الشهوة أعظمُ مما امتحن به مَنْ خلا من ذلك، فجهادُ هذا وصبرُه أعظم.
وهذا عام في جميع الأمور التي أنعم الله بها على بني آدم وابتلاهم بها، فمن كان فيها شاكرًا صابرًا كان من أولياء الله المتقين، وكان أفضل ممن لم يُمتحَن، وإن لم يكن المبتلَى صابرًا شكورًا بل فرَّط فيما أُمِر به ونُهِي عنه كان له حكم أمثاله، وكان من سَلِمَ من هذه المحنة خيرًا منه، فمن امتُحِن وصبر فهو خير الأقسام، ويليه من سَلِمَ من المحنة، والثالث من امتُحِن فوقع، فهو المأخوذ المعاقَب إلا أن يتداركه الله.
فمن كان له مال يتمكن من إنفاقه في الفواحش والظلم، فخالف هواه وأنفقه فيما يبتغي به وجهَ الله، فهو نظيرُ من كان له حسن وجمال فعفَّ به عن محارم الله وصانَه من الفواحش، ونظيرُ من كان له صوت حسن فصانه عن الغناء ومزامير الشيطان واستعمله في تزيين كتاب الله والتغني به، فإن كل واحد من هؤلاء يُثاب على عمله الصالح الذي يشاركه فيه من ليس له مثل ذلك الجمال والصوت والمال، ويُثاب ثوابًا آخر على صَرْفِه ما يتقاضاه من الصورة والصوت والقوة إلى مرضاة الله، وتعطيلِها عن مساخطِه، فثوابُه يُشبِه ثوابَ المجاهد، فصاحب الصوت الطيب المطرب الذي يمكنه أن يُغنّي بالشعر، إذا قرأ القرآن بصوته الطيب وتغنَّى به أُثِيبَ ثوابَ من تغنَّى بكتاب الله وترك التغني بالشعر، ويثاب أيضًا على قصده إسماعَ أهل الإيمان كتابَ الله ولذتهم بقراءته وانتفاعهم بها، فيثاب ثلاثةَ أنواع من الثواب بالقصد والنية: ثواب المجاهد، وثواب التالي، وثواب المحسن النفَّاع لغيره، فإن شهد مع ذلك أَذَنَ اللهِ عزوجل لقراءته واستماعَه لها، فقرأه بصوته الطيب ليأذن الله له ويستمع لقراءته، كما قال النبي ﷺ: «ما أذِنَ الله لشيء كأَذَنِه لنبي حسنِ الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به» ، وقال: «لَلّهُ أشدُّ أَذَنًا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القَينةِ إلى قَيْنتِه»، فثوابُ ذلك أمر آخر.
المرجع السابق ص٢٤٣-٢٤٤
٢٢٠-وأظهر هذه السِّماتِ على الوجوه سِمَةُ الصدق والكذب، فإن الكذاب يُكسَى وجهُه من السواد بحسب كَذِبه، والصادق يُكسَى وجهُه من البياض بحسب صدقه. ولهذا رُوِي عن عمر بن الخطاب أنه أمر بتعزير شاهد الزور بأن يُسوَّد وجهُه، ويُركبَ مقلوبًا على الدابة، فإن العقوبة من جنس الذنب، فلما سَوَّد وجهَه بالكذب وقَلَبَ الحديثَ سُوِّد وجهُه وقُلِبَ في ركوبه، وهذا أمر محسوس لمَن له قلب، فإن ما في القلب من النور والظلمة والخير والشر يَسْرِي كثيرًا إلى الوجه والعين، وهما أعظم الأعضاء ارتباطًا بالقلب.
المرجع السابق ص٢٤٨
٢٢١-وفي الغالب يكون بين جمال الظاهر والباطن تلازم، وبين قبح الظاهر والباطن تلازم، فإن لكل باطن عنوانًا من الظاهر يدل عليه ويُعرف به. وقد جعل الله سبحانه بين الخَلْق والخُلُق والظاهر والباطن ارتباطًا والتئامًا وتناسبًا، ومن ههنا تكلّم الناس في الفراسة، واستنبطوا علمها، وهو من ألطف العلوم وأدقِّها، وأصله معرفة المشاكلة والمناسبة والأخوة التي عقدها الله سبحانه بين المتشاكلين، ومَن لم يكن له نصيبٌ منها لم يكَدْ ينتفع بنفسه ولا بغيره.
المرجع السابق ص٢٥٠
٢٢٢-لا ريبَ أن الصوت المتناهي في الحسن يُحرِّك النفوس تحريكًا عظيمًا جدًّا خارجًا عن العادة، وقد شاهد الناس وسمعوا من ذلك ما هو معلوم، والأصوات من أعظم المحركات للنفوس، ولا يُعادِلُها شيء في حركة النفوس إلا الصور، فإذا اتفق قوة المؤثر واستعداد المحل قوي التأثير، حتى يغيب عن الحسِّ أحيانًا، ويحول بين سامعه وبين مباشرة المؤلم المؤذي، فلا يَشعُر به.
وإذا صادف محلًّا مستعدًّا لصِغَرٍ أو أنوثةٍ أو جزعٍ أو فرحٍ أو قوةِ حبٍّ أو رياضةٍ ولطافةِ روحٍ، حرَّكهُ غايةَ الحركة، وأزعجَ قاطنَه ، وأثار ساكنَه، وهذا لا يدل على جواز ولا تحريم ولا مدح ولا ذم، بل دلالته على الذم والمنع أقرب من دلالته على الجواز والاستحباب، فإن هذا يُفسِد النفوس أكثر مما يُصلِحها، ويضرها أكثر مما ينفعها، وإن كان فيه منفعة يسيرة فآفته ومضرته أكبر من نفعه.
المرجع السابق ص٢٥٦
٢٢٣-قال تعالى للشيطان: ﴿وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ﴾ [الإسراء: ٦٤]، فالصوت الشيطاني يَستفِزُّ بني آدم، وصوت الشيطان كل صوت في غير طاعة الله، نُسِبَ إلى
الشيطان لأمره به ورضاه به، وإلا فليس هو الصوت نفسه، فصوت الغناء وصوت النوح وصوت المعازف من الشبابات والأوتار وغيرها كلها من أصوات الشيطان، التي يَستفِزُّ بها بني آدم فيَستخِفُّهم ويُزعِجُهم. ولهذا قال السلف في هذه الآية: «إنه الغناء».
ولا ريبَ أنه من أعظم أصوات الشيطان التي يَستفِزُّ بها النفوسَ ويُزعِجها ويُقلِقها، وهو ضدُّ القرآن الذي تطمئن به القلوب وتسكنُ وتُخبِتُ إلى ربها، فصوت القرآن يُسكِّن النفوسَ ويُطَمْئِنُها ويُوقرها، وصوت الغناء يَستفِزُّها ويُزعِجُها ويُهيِّجُها.
المرجع السابق ص٢٥٦
٢٢٤-قال أبو عمر الأنماطي: سمعته يقول-يعني الجنيد- وقد سُئل: ما بالُ
الإنسان يكون هادئًا فإذا سمع السماع اضطرب؟ فقال: إنَّ الله لما خاطب الأرواح في الميثاق الأول بقوله: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ [الأعراف: ١٧٢]، استفرغتْ عذوبةَ سماعِ الكلام الأرواحُ، فإذا سمعوا السماع حرَّكهم ذِكرُ ذلك.
فهذا النقل إن كان ثابتًا عن الجنيد فهو نقل عن غير معصوم، وإن لم يكن ثابتًا عنه وهو الأليق بمثل جلالته ومعرفته فهو نقل غير مصدَّق عن قائلٍ غير معصوم، فكيف يكون حجةً؟ والجنيد أعرفُ بالله من أن يقول مثل هذا، فإنَّ هذا الاضطراب يكون لجميع الحيوان ناطقه وأعجمه، ويكون للكفار والمنافقين والفساق والفجار، ثمّ الاضطراب قد يكون لحلاوة الصوت ومحبته واستلذاذه، وقد يكون للخوف منه وهيبته، وقد يكون للحزن والجزع، وقد يكون للغضب.
وأيضًا فمن المعلوم قطعًا أنَّ الصوت المسموع ليس هو ذلك الخطاب الأول، ولا هو متعلق به، ولا هو منه بسبيل.
وأيضًا فإنَّ معنى الآية ينبُو عما حملها عليه من قال بهذا القول من وجوه متعددة: ثم ذكر خمسة أوجه فلتراجع .
المرجع السابق ص٢٥٩
٢٢٥-وإذا اختلفت الأحكام باختلاف المكلفين اختلفت باختلاف أوصافهم، كتحريم نكاح الإماء على القادر الواجد لنكاح حرة، وإباحته للعاجز الخائف العَنَتَ، وكوجوب الصوم على المقيم والمرأة الطاهر، وإباحة الفطر للمسافر ووجوبه على الحائض، وكوجوب الزكاة على المالك للنصاب وسقوطها عن العاجز عنه، وتحريم النكاح والوطء على المحرم وإباحته للحلال، وتحريم دخول المسجد على الجنب وإباحته للطاهر. فهذا هو الذي تجيء به الشرائع، وهو تعليق الأحكام بالأوصاف واختلافها بسببها.
المرجع السابق ص٢٦٣
٢٢٦-قال صاحب الغناء: فهذا ذو النون المصري من سادات القوم ومشايخ الطريق، سُئل عن الصوت الحسن فقال: مخاطبات وإشارات أودعها الله كلَّ طيب وطيبة. وسئل مرة أخرى عن السماع،فقال: واردُ حقّ يُزعِج القلوبَ إلى الحق، فمن أصغى إليه بحقٍّ تحقَّقَ، ومن أصغَى إليه بنفسٍ تزندق.
* قال صاحب القرآن: الحكاية عن أضعافِ أضعاف هؤلاء لا تُجدِي عليك شيئًا، فلِمَ ذا التكثر بما لا يفيد؟ ثمّ إنَّ هذا الكلام لا تُعرَف صحتُه عن ذي النون، والكذب على المشايخ كثير جدًّا، وقد رأى أهل العلم وسمعوا من ذلك ما لا يُحصِيه إلا الله. ثمّ لو سُلِّمَتْ صحةُ هذا عن ذي النون فله حكم أمثاله من غير المعصومين الذين يجوز عليهم بل يجب وقوع الخطأ منهم، وغاية أحدهم أن يُعذَر فيما صدر منه باجتهاده، ويكون ذلك العمل منه مغفورًا بنيته وصدقه وحسناته وغير ذلك، وأما أن يُجعَل قدوةً للناس في ذلك فكلَّا ولمَّا.
وقوله: «إن الصوت الحسن مخاطبات وإشارات أودعَها الله كلَّ طيب وطيبة»، لا يجوز أن يراد به أن كل صوتٍ طيّبٍ كائنًا ما كان فإن الله أودعه مخاطباتٍ يخاطب بها عباده، فإن هذا القول كفر صريح، فإن ذلك يستلزم أن تكون الأصوات الطيبة التي يستعملها المشركون وأهل الكتاب في الاستعانة بها على كفرهم قد خاطب الله بها عباده، وأن تكون الأصوات الطيبة التي يَستفزُّ بها الشيطان لبني آدم قد أودعها الله مخاطباتٍ يُخاطِب بها عبادَه، وأن تكون أصوات الملاهي قد أودعها الله مخاطباتٍ يخاطب بها عباده. ومن المعلوم أن هذا لا يقوله عاقل.
المرجع السابق ص٢٦٤-٢٦٧
٢٢٧-وهذه هي التي يُسمِّيها القوم إشاراتٍ ومخاطباتٍ، فالمخاطبات من جنس دلالات الألفاظ، والإشارات من جنس دلالات القياس، وهذه يستعملها القوم كثيرًا فيما يرونه ويسمعونه، وبعضهم يغلو فيها غلوًّا مُفرِطًا، وكثير من الناس يَنبُو فهمُه عنها، والصواب فيها التوسط، وهي تصح بثلاثة شروط:
أحدها: أن يكون المعنى صحيحًا في نفسه.
الثاني: أن لا يكون في اللفظ ما يُضادُّه.
الثالث: أن يكون بينه وبين معنى اللفظ الذي وضع له قدرٌ مشترك يفهم بواسطته.
فإذا كانت دلالة الإشارة مؤيَّدةً بهذه الأصول الثلاثة فهي إشارة صحيحة، ولنذكر لذلك أمثلة: ثم ذكر خمسة أمثلة من القرآن،ومثالين من السنة، وقال في آخرها : فهذه إشارات صحيحة، وهي من جنس مقاييس الفقهاء، بل أصح من كثير منها.
المرجع السابق ص٢٦٩-٢٧٠
٢٢٨-فهذه الطيباتُ من الأصواتِ المباحةِ، والصورِ الجميلةِ، والمطاعمِ والمشاربِ، والملابسِ والمناظرِ إذا كانت على وجهها وصادَفَت ذا هِمَّةٍ عاليةٍ ومحبَّةٍ ناصحةٍ وصدْقٍ وعزيمة انتَفَعَ بها غايةَ الانتفاع، وإلا انقَطَعَ بها غايةَ الانقطاع.
المرجع السابق ص٣٤٥



 

 
  • فوائد وفرائد من كتب العقيدة
  • فوائد وفرائد من كتب الفقه
  • فوائد وفرائد من كتب التفسير
  • فوائد وفرائد من كتب الحديث
  • فوائد وفرائد منوعة
  • غرد بفوائد كتاب
  • فوائد وفرائد قيدها: المسلم
  • فوائد وفرائد قيدها: عِلْمِيَّاتُ
  • الرئيسية