وإنا
لفراقك ياأبا عبد الله لمحزونون
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد :
أخي عبدالله ، إن لله ما أخذ وله ما أعطى ، وكل شيء عنده بأجل مسمى ، وإن القلب
ليحزن ، والعين لتدمع ، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا ،وإنا لفراقك يا أبا عبدالله
لمحزونون، والحمد لله على كل حال .
أما بعد :
فالشيخ رحمه الله كان أجدر بقول الشاعر ( شرح الحماسة 2/856 ) :
مضى ابن سعيد حين لم يبق مشرق ***** ولا مـغـرب إلا لــه فـيـه مـادح
ومـا كنـت أد ري ما فـواضـل كـفـه ***** على الناس حتى غيبته الصفائح
فأصـبح في لحـد من الأرض مـيتـاً ***** وكانت به حياً تضيق الصحاصح
سأبكيك ما فاضت دموعي فإن تغض ***** فحسـبك منـي ماتـجن الجـوانـح
فما أنا من رزءٍ ، وإن جل ، جازع ***** ولا بـسرور.. بعـد موتـك فـارح
لـئـن حسـنت فيك الـمراثي وذكرها ***** لقـد حسنت من قبل فيك المدائح
تسألني عن الشيخ ، ومتى كانت معرفتي به ؟ وذكرياتي معه ؟
فالشيخ لا يسأل عن مثله ، وهو من هو علماً وعملاً ، وخلقاً ، وعبادة ، وإحساناً
إلى الناس ، فجازاه الله خير ما يجازي عالماً عن طلابه ومحبيه .
ولكن للشيخ وراء هذا جوانب يتميز بها ، وفيها موضع أسوة وقدوة ، وهي حرية من
محبيه وناشري سيرته أن يولوها العناية والاهتمام .
فمنذ أول عهده بالتدريس ، وهو عهد قديم قديم ، كان للشيخ طريقته الخاصة في
تقرير المادة ، وترسيخها في الأذهان ، ومساءلة الطلاب ، وإشراكهم في البحث ،
وتربيتهم على الحوار ، وهو شيء يشبه ما توصلت إليه دراسات التربية والتعليم
الآن ، وكأن الشيخ رحمه الله اقتبس هذا من شيخه العلامة عبدالرحمن بن ناصر
السعدي ، ثم طوره واعتمده .
فهو الوحيد ، ربما ، من بين أقرانه وأسنانه من كان يعتني بطريقة السؤال والجواب
، وعرض المشكلة وسماع تعليقات الطلبة حولها ، وربط المادة الجديدة بما قبلها ،
والعناية بالاستذكار وتقسيم المجلس إلى دروس متعددة ، والمحافظة على النظامية
،والانضباط فيها .
وهو من القلائل الذين توفروا على التعليم ، وإفادة الطلبة ، وتخصيص جلّ الوقت
لذلك، فالدروس المسائية على مدار السنة ، وطيلة أيام الأسبوع ، وفي الإجازات
الطويلة كانت الدروس المكثفة لبضعة أشهر ، وهي أشبه بالدروس النظامية ، تفسير ،
حديث ، فقه ، نحو ، أصول ، وعقيدة ، ولكل مادة وقتها المحدد ، ومنهجها الخاص ،
وكانت تعقد ضحى لأكثر من ثلاث ساعات .
وفي الحرم كان الشيخ رحمه الله يعقد دروسه العلمية لعموم الحاضرين من الطلاب
وغيرهم ، ويجيب على الأسئلة الفقهية والعلمية كل عام ، وظل الشيخ رحمه الله
وفياً لهذا الالتزام حتى هذه السنة رغم ظروفه الصحية التي كان يمر بها .
وبهذه الهمة ، وهذا الدأب تمكن رحمه الله من إنجاز شرح العديد من الكتب العلمية
في العقيدة والفقه والحديث والنحو والأصول وغيرها ، فضلاً عن إنجاز تفسير لمعظم
كتاب الله تعالى لأكثر من مرة ، وفي ظني أن تفسيره من أثمن التراث العلمي الذي
خلفه.
كما تمكن من تخريج عدد كبير من الطلبة المستفيدين به في سائر المناطق من
السعودية واليمن ومصر والشام والعراق وغيرها ، والذين يرجى أن يتمثلوا الكلمة
السائرة ( كما عُلمتم فعلّموا) ، وأن يسدوا شيئاً من الفراغ الذي أحدثه رحيل
الشيخ .
وهو من القلة الذين كانوا يعتنون بالدليل ، وينظرون في حجج الأقوال النقلية
والعقلية ، وينأون بأنفسهم عن التقليد المجرد ، وإذا كان هذا أصبح اليوم بحمد
الله شعاراً يتداوله الكثيرون ، فإنه في أيام ظهور الشيخ وانتشار ذكره كان
قليلاً ، والقائلون به يعدون على الأصابع ، ويقصدون من أماكن شتى ، ويلقون
بسببه شيئاً من العنت والأذى، في بيئات نشأت على التقليد .
وخارج هذا الإطار فإن الشيخ - رحمه الله- كان على علاقة وثيقة بكثير من الأنشطة
الدعوية في العالم الإسلامي ، بل في العالم كله ، يرعاها ويدعمها ، ويوجهها ،
ويتابع مشاريعها .
وكان مهتماً بأخبار المسلمين المستضعفين ، وخطبه تشهد بذلك ، وفتاواه في دعمهم
وإعانتهم ونصرتهم ذائعة مشهورة ، وآخر ذلك كان اهتمامه المتميز بجهاد المسلمين
في الشيشان ، وسؤاله المتصل عن أحوالهم ، ودعمه لهم مادياً ومعنوياً ، جعل الله
ذلك في موازين حسناته .
أما عن ذكرياتي مع الشيخ رحمه الله فعمرها يزيد على سبع وعشرين سنة ، وأول لقاء
مجالسة لي مع الشيخ كان بمنزله القديم ، وكنت طالباً في المرحلة الثانوية ، وقد
تحدث الشيخ رحمه الله في هذا المجلس عن الورع ، وتجنب الشبهات ، وذكر قصة بعض
السلف الذين كانوا يمضغون اللقمة فتحدثهم نفوسهم أنها من الحرام فلا يسيغونها .
وآخر لقاء لي معه كان قبيل شهر رمضان ، حيث زرته في المستشفى بمعية الشيخ ناصر
بن سليمان العمر والشيخ سفر بن عبدالرحمن الحوالي حفظهما الله ، وكانت الصالات
تغص بالشباب الذي ينتظرون الإذن لهم بالدخول على الشيخ ، فأذن لنا ، ودخلنا
عليه ، ودعونا له ، وسمعنا منه من طيب القول وصالح الدعاء ما خفف عن نفوسنا بعض
الألم الذي يجده كل من رأى الشيخ ، وقد عاد نضواً منهكاً في جسده ، غير أن فيه
قوة المؤمن وصبره واحتسابه ، مما يذكرك بقول محمد إقبال :
غاية المؤمن أن يلقى الردى باسم الوجه سروراً ورضى
وما بين هذه وتلك أحاديث طوال ، عسى أن تتوفر الهمة لكتابة شيء منها .
اللهم ارحم الشيخ ، وارفع درجته في المهديين ، واخلفه في عقبه في الغابرين ،
واغفر لنا وله أجمعين ، اللهم أفسح له في قبره ، ونور له فيه .
والحمد لله رب العالمين .
سلمان بن فهد العودة
السبت 18 / 10/ 1421هـ