حين تنزل بالمؤمن المصائب ، يكون له معها شأن غير شأن الغافلين ، فأول شأنه
الصبر ، ومعناه الرضا بالقضاء ، قال تعالى { ومن يؤمن بالله يهد قلبه ، والله
بكل شيء عليم } ، والمراد بالإيمان في الآية الإيمان بقضاء الله وقدره ، أي
من أصابته مصيبة فعلم أنها بقدر الله فصبر واحتسب واستسلم لقضاء الله هدى
الله قلبه وعوضه عما فاته من الدنيا هدى في قلبه ، ويقيناً صادقاً ، وقد
يُخلف الله عليه ما كان أخذه منه أو خيراً منه .
{ والله بكل شيء عليم } تنبيه على أن ذلك إنما يصدر عن علمه المتضمن لحكمته ،
وذلك يوجب الصبر والرضا .
والصبر كما يعرفه العلماء : حبس النفس عن الجزع ، وحبس اللسان عن التشكي
والتسخط ، والجوارح عن فعل ما ينافي الرضا بالقضاء ، وفي الصحيحين : " ما
أعطي أحد عطاء خير من الصبر " ، وقال عمر رضي الله عنه : وجدنا خير عيشنا
بالصبر "
قال تعالى : { وبشّر الصابرين الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ
قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ
صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) .
أذكركم أحبتي في الله بقول النبي صلى الله عليه وسلم حين حزن على موت ابنه
إبراهيم " تدمع العين ويحزن القلب ، ولا نقول إلا ما يرضي الرب ، وإنا بك يا
إبراهيم لمحزونون "
منهج ناصع وضيء يبين كيف يكون حزن المؤمن ، وحين أخطأ رجال فظنوا أن موت
إبراهيم كان سبباً في كسوف الشمس ، قام صلى الله عليه وسلم فبين الحق ، ودفع
الوهم والخطأ ، ولم يشغله الحزن عن الواجب من أمر الدعوة .
فالمكروه يقع ويحوله المؤمن بفضل الله ورحمته وتوفيقه ، ثم بهدي النبي
المصطفى صلى الله عليه وسلم ثم بعزم المؤمن الراشد إلى نعمة نتلمح فيها من
رحمات الله وفيض إنعامه ما تقر به أعيننا ، وهذا هو حسن العاقبة المرجو
للمؤمن الصابر الواثق بربه .
أحبتي في الله .. نعيش جميعاً في جو من الحزن والأسى على ما يقع على إخواننا
المجاهدين ، وإن أشد ما يحزننا هو هذا العجز الذي نراه في أنفسنا حيث لا ندري
ما نفعل وكيف ندفع عنهم بعض ما يلقونه . وأشد ما يخافه المؤمن هو تردده في
سبب عجزنا أهو عجز ناشئ عن خور وجبن وحب للدنيا وركون إليها وتفريط في حق
الله أم هو عجز لنا فيه عذر ؟
يرجح العلامة ابن القيم رحمه الله أن المصائب تكفر الخطايا ، ولا يثاب على
مجرد وقوعها ، إلا إذا كانت سبباً لعمل صالح كالصبر والرضا والتوبة
والاستغفار ، فإنه حينئذ يثاب على ما تولد منها ، وعلى هذا يقال في معنى
الحديث إن عظم الجزاء مع عظم البلاء إذا صبر واحتسب . اهـ
ويفهم من كلامه رحمه الله أن المؤمن
الموفق هو الذي يحول طاقة الحزن مما نزل به إلى عمل صالح .
كنا نتعشّى ، ونسمع الأخبار ، قالوا :
بدأ القصف ، وإن القنابل تفرغ الخنادق من الهواء فيموت من فيها ، وسألني ولدي
الشاب ، هل يمكن أن يقع ذلك ؟ قلت : يقع ، ويتخذ الله من عباده المؤمنين
شهداء ، قال : أقصد يمكن أن يَقتلوا كل المجاهدين هناك ؟ قلت نسأل الله
العافية ، ونسأله سبحانه أن يحفظهم وينجيهم ويثبتهم وينصرهم .
وجم الولد ، ووضع اللقمة من يده في هدوء ، وانسل إلى غرفته .
كأني به لم يستطع أن يذاكر دروسه في تلك الليلة ، قلت له في صلاة الصبح في
المسجد ، لم تذاكر دروسك أمس ، إن حزن المؤمن ينبغي أن يتحول إلى عمل صالح ،
فإذا كنت تراجع من قرآنك جزءاً فراجع جزأين ، وإذا كنت تذاكر أربع ساعات
فاجعلها ستاً ، إذا وجدت نفسك أقدر على الصفح والعفو عن أخيك المخطئ في حقك ،
وأنك حريص على دعوة زملائك وإرشادهم إلى الخير ، فذاك هو حزن المؤمن ، لا
نريد حزناً يعطل ، ويمرض ، ويشل الحركة .
صام الولد في هذا اليوم ، وبذل جهداً أكبر في المذاكرة ، وبدا منشرح الصدر
على ما به من حزن ، فاطمأن قلبي .
أحبتي في الله ..
لا يهزمنكم الشيطان ، ولا يهزمنكم إعلام الشياطين فيوهن عزائمكم ، { ولا
تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ
فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا
بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ
مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}
المراجعة
أن نعيد النظر فيمن كنا نظن بهم الخير ممن أعانوا الكفار علينا ، وكنا نحسبهم
فئتنا .
والمراجعة
أن نتأمل في واقع المسلمين الذين كشفتهم الأحداث فإذا معتقد الإرجاء قد عشش
وباض وفرّخ في ديارنا ونحن نائمون .
والمراجعة
أن نفتح أعيننا أكثر على دور المنافقين من العلمانيين الذين كانوا أكبر عون
لأعداء الله في ضربنا وقتلنا بينما يعيشون بيننا آمنين .
والمراجعة
أن نتعامل مع الحقيقة التي أفقنا عليها بعد الوهم الذي خدرنا به الإعلام
العربي الخائن سنين طويلة بشأن الدول الصديقة ، وحقوق الإنسان والدول
المتحضرة ، إلى آخر تلك الأكاذيب .
المراجعة
أن نرجع نحن الدعاة إلى أنفسنا ونفتش فيها عن أخطائنا وعللنا فنصلحها ونتوب
منها قبل أن نخرج إلى شعوبنا المريضة لنعالجها ونحن مرضى .
المراجعة
أن نعلم مَن من علمائنا ودعاتنا كانوا أثبت قلوباً وأرسخ علماً وأقوم فهماً
وأنفع للأمة في محنتها فنلتف حولهم ونمضي خلفهم ، وأن ننفض أيدينا من
الحكومات التي سقطت في الأوحال .
المراجعة
أن نتعاهد على نصرة الدين ، والعض عليه ، وأن نوطن أنفسنا على الصبر على
الطاعة ، وإبلاغ الدعوة مهما كلفنا ذلك من متاعب ، وأن يرى الله تعالى منا
صدقاً ووفاء لدينه .