إنّ المُـواءمةَ بينَ المهنةِ التي تقيمُ أوَدَ الإنسانِ ، و الهوايةِ التي
يأنسُ بِها و يستـَروِحُ لها أوقاتَ الفَراغِ ، مِن أصعبِ المُعادلاتِ ، لا
سيّما إذا اتّسعتِِ الشّـقّـةُ بينَهما ، و تعذّرَ معَها الإلتقاء و لَو في
نُقطةٍ نائيةٍ في خارطةِ إمكاناتِ الإنسانِ و قدُراتِه . و تتضاعفُ هذِهِ
الصّعوبةَ إذا كانتِ المهنةُ التي يزاولُها الإنسانُ شاقّةً ، مُرهِقةً ،
يقضيِ فيها زهرةَ أوقاتِه ؛ فلا ينصرفُ منها إلاّ و هو طامحٌ في طلبِ
الرّاحةِ البدنيّة ، بعدَ يومٍ شاقّ منَ العملِ المُـضني ، فأنّى لهُ و هذه
حالُه أن يصقـلَ موهبتَهُ ، و أن يتعاهدَها بالرعايةِ و الإهتمام اللازِمَين؟
بيْدَ أنّ هذا لا يعني استحالةَ التوفيقِ بينَ الأمرَيْن ؛ فهناكَ أمثلةٌ في
القديمِ و الحديثِ مِمّن تسَامَت هِـمَمُهُم ، و ارتـقـَت نفوسُهُم ، فجمعوا
بين المهنةِ و الهوايةِ ، فأبـْدعـوا ، و أجـَادوا ، و هم مع ذلكَ يتعاطـَونَ
صنائعَ يراها أغلبُ النّاسِ مِهـَناً شاقّةً وضيعةً ، لا يزاولُها إلاّ شخصٌ
بسيطُ في تحصيلِهِ العلميّ ، محرومُ المواهب .
و أظنّ مـِن نافلةِ القولِ أنّ مهنةَ " الخبّازِ " من المِهنِ التي يزدَريِها
عرفُنا الإجتماعيّ ، و يرى في من يزاوِلُها بساطةَ الفكرِ و ضحالتِه ، و
مظَـنّةَ النـّـأيِ عن جادّة الإبداعِ الأدبيّ ، لكنّ القاضي " ابن خـلّكان"
رحمَه الله يحدّثُنا في كتابِه الماتِع " وَفـَيات الاعيان " أنّ خبّازاً قد
حازَ في الشّعرِ و التصرّف بأفانينِه القِـدحَ المُعلّى ، و هو " نصر بن أحمد
الخبز أرزيّ " المُتوفّى عام 317 هـ ، و قد طارَ ذَكرُه في الآفاقَ فجعلَ
النّاس يتحلّقونَ حولَ مخبزِهِ لاستماعِ أشعارِه ، يقول ابن خلّكان : " و كان
يخبزُ الأرزّ بمربدِ البصرةَ في دُكـّان ، و كان ينشدُ أشعارَه المقصورةَ على
الغزَل و النـّاس يزدحمونَ عليه ، و يتطرّفونَ باستماع شعره ، و يتعجّبونَ
مِن حالِه و أمرِه " .
بل و جذَبَت موهِبَتهُ الفّذّةُ اهتِمامَ بعضِ فحولِ الشّعَراءِ ، فهُم
يتردّدونَ عليهِ و يتّخذونَه خَديناً في مجالسِ السّمر ؛ فهذا " أبو الحسين
محمد " المعروف " بـابن لنكَك " الشّاعرالبصريّ المعروفُ ، يقولُ عنهُ ابن
خلّكان : " معَ علوّ قدرِهِ عندهم ينتابُ دُكـّانَه ليسمعَ شعرَه ، و اعتنى
بِهِ ، و جمَعَ له ديواناً " .
و مِمّا يُستَملحُ من أخبارِهِ أن زارَه بعضُ أصحابِه في يوم العيدِ في
مخبزِهِ و هو يوقِدُ السّعفَ لإنضاجِ خُبزِه ، فاتّسخت ثيابهُم الجديدة منَ
الدّخـّان ! فكتبَ لهُ ابن لنكَك مُمازِحاً في ثوبٍ منَ العتابِ الرّقيق :
لنـصرٍ في فؤادي فرطُ حُبّ
------ أنيفُ به على كلّ الصّحاب
أتـيـنـاهُ فـبـــخّرنا بخوراً ------ منَ السّعفِ المُدخّنِ بالتِهابِ
فقُمتُ مُبادراً و حسبتُ نصراً ------- أرادَ بذلكَ طردي أو ذهابي
فقالَ : متى أراك أبا حُسينٍ ------- فقـلـتُ : إذا اتّسخت ثيابي
فلمّا وصلتِ الرّقعةُ إلى نصرٍ
، كتَبَ على ظهرِها هذه الأبيات :
منحتُ أبا الحُسين صميمَ وُدّي
------ فداعبَني بألفاظٍ عِذابِ
أتى و ثيابُهُ كالشيبِ بيض ------ فعُدنَ له كريعانِ الشبابِ
و بُغضي للمشيبِ أعدّ عندي ------ سواداً لونه لونَ الخضابِ
و أخبارُهُ منثورةٌ في وفياتِ
الأعيان ( 5 : 376 ) ، و كذلك كتاب " الموزون و المخزون " للعلاّمة " أبي
تراب الظاهري " رحمه الله ، ص: 168 .
و مِن وحيِ العصرِ الحديثِ ، أسوقُ قصّةً طريفةً حصلّت للشيخ الجليل " محمد
بن عبدالله آل شاكر " مع خبّازٍ بلغَ شأواً طيّباً في العلومِ الشرعيّة ، و
قد نشرَ الشيخُ هذه القصّةَ في مجلّة البيان عدد 68 ، و أنقلُها بتمامِها لما
تنطوي عليهِ من فائدةٍ و طـرافة ، و هي بعنوان " بائعُ خُـبـْـزٍ فـقـيـه " :
" رأيته وهو يحمل عبء السبعين من الـسـنـين، تزينه لحية بيضاء، وابتسامة
لطيفة، يلقاك بها وأنت تشتري منه الخبز في واحد من مخابز بلدنا الحبيب، ولما
دخلت عليه في إحدى الليالي، بعد صلاة التراويح بادرني بالسؤال: ما رأيك في
القراءة من المصحف في الصلاة؟ وكان يقصد صلاة التراويح في رمضان.
وقد وقع في ظني أنه تفقّه على مذهب الإمام أبي حنيفـة (رحمه الله) ـ كغالبية
أهل موطنه (أفغانستان) ـ فقلت له: صلاته تامة؛ لأن القـــراءة عـبـادة
انضـمــت إلى عبادة أخرى هي الصلاة، والعبادة لا تفسد الصلاة، وهو قول أبي
يوسف ومحمد بن الحسن.
فأجابني: ولكن شيخهما (أبا حنيفة) يخالفهما في ذلك؛ وكأنه بهذا الـكــلام
يـشـيـر إـلى ترجيح رأي الإمام في فساد هذه الصلاة لما فيها من تشبّه بأهل
الكتـاب، إذ الفـتــوى علـى قـول أبي حنيفـة ـ في المذهب ـ سواء أَوَافَقَهُ
أحد أصحابه أم لم يوافقه.
ثم مدّ يده إلى كتاب ضخم، فإذا هو جزء من (فتح القدير) للكمال بن الهمام شرح
(الهداية) للمـرغـيـنـانـي الحنفي، بطبعة حجرية هندية دقيقة، وعليها حواشٍ لا
يصبر على القراءة فيها وبين سـطــــورها المتعرجة والمائلة إلا أولو العزم من
طلبة العلم، وفتح الكتاب ليقرأ لي نصّاً فيه ذلك الـحـكـــم، فـعـجـبتُ ـ
والله ـ لهذا الفقه الدقيق عند بائع الخبز الطاعن في السن، وزادني هذا حبّاً
له وإكباراً، ولكن عجبي ازداد أكثر عندما فتح كتاباً آخر بجانب منضدته (بل هو
ثلاثة كتب في كـتـاب: مـتـن، وشـرح، وحاشية!!)، واسمه (قمر الأقمار على نور
الأنوار شرح المنار) لكي يؤيد ما ذهب إليه مـن الفقه بقاعدة من الأصول!.
وعندئذ أصابتني حالة من الذهول والشرود، عدتُ بعدهـــــا إلى انتباهي وقد
ارتسمت أمام ناظريّ صورة عدد من الطلبة في إحدى الجامعات، وقد أهدتهـم الكلية
التي ينتسبون إليها مجموعة من الكتب والمصادرالعلمية، تشجيعاً لهم وحفزاً
لهمـمهم، وتعزيزاً لتفوقهم، وبين هذه الكتب (فتح القدير) نفسه، ولكن بطبعة
جميلة واضحة، وهــم يريدون أن يستبدلوا به كتاباً آخر، متسائلين عن فائدته
وموضوعه!!.
أمــا الكتاب الآخر، وهو (قمر الأقمار...) فهو شرح العلامة محمد بن عبد الحي
على (نور الأنـــوار) لِمُلا جَيّون، وهذا شرح (للمنار) للنّسفي، فقد قفز إلى
ذهني سؤالٌ حياله: كم من أساتذتـنــــا وطلابنا المتخصصين قد سمع بالكتاب
ومؤلّفه، أو اكتحلت أعينهم بمرآه، بَلْه القراءة فيه والرجوع إليه؟.
ما أظن أنّ حالفاً يحنث لو حلف بأنّ كثيراً منهم لم يسمع بهذا الكتاب، ولم
يره من باب أولى!، تُرى مــا الــــذي يشـغـل كثيراً منا ومن طلاب العلم؟ وما
مدى اهتمامهم بما نذروا أنفسهم له؟ أم أن الاهتمام بالرصـيـد ومتابعة الأسعار
وتقلّباتها زاحمت اهتماماتهم العلمية ونموّهم التربوي المهني؟ أسأل الله لـي
ولـهــم الهداية والتوفيق، وأن يردّنا إلى ما نكون به خير أمة*. " .
انتهى النقل .
يقول أنور : و بَعـدُ ؛ فهذان أنمـُوذَجانِ صريحانِ، و برهانانِ مُتجدّدانَ
على أنّ علوّ الهمّةِ ، و السموّ النفسيّ ، قادرانِ على تخطّي أكبر العوائقِ
و المصاعـِب ، و أن صُعوبةَ المِهنَةَ - أيــّـاً كانَت - ، لن تكونَ حَـجرَ
عثرةٍ أمامَ صقلِ المَواهِبِ ، و العنايةِ بها ، و ما أجملَ ما قالَه الشّاعر
" عليّ بن الجهم " :
لـكـنـَها هـمــِمٌ أدّت إلى
رِفَعٍ *** و كلّ ذلكَ طبعٌ غـيـر مكتَسَبِ
فرُبّ ذي حسَبٍ أودَت صنايعُه *** بهِ و قد شرّفـَت وغداً بلا حسَبِ
و ربّ محمودِ فعلٍ ما لهُ حسبٌ *** إلاّ صنايعُ جاءتهُ منَ الأدَبِ
فجـلـّلـتهُ بعـــــزّ بعــد مخمَلةٍ *** و رتّبـتهُ من الافضالِ في الرّتَبِ
أخوكم الواثق بنصر الله
أنــــور بـــــاشــــــــــــــــا