بسم الله الرحمن الرحيم
بنفسي تلك الأرض ما أحسن الرُبى
وما أحسن المصطاف والمتربّعا
هناك في نجد؛ ومن جانب واديها الأيمن (وادي الرمة) تترآى لك
مدينة الزلفي المأنوسة المحروسة، قلب نجد ولبها، وواسطة عقدها، وربيع
زمانها، وراحة كفها..
قف يا حادي الركب مليّا
فالصبا أهدت لنا أطيب ريّا
تبدو لك من بعيد كطفلة تلهو فوق كثبان الرمل، مستلقية على
أحقاف الصحراء، متكئة على منعرجات اللوى، تلك هي الزلفي شامخة باذخة راسخة،
فاخلع نعليك وألقِ عصاك ثم قل:
خليلي من نجد قِفا بي على الرُبى
فقد هبَّ من تلك الديار نسيمُ
ها هي ذي تلك الحسناء النجدية البديعة؛ قد تلفعت برداء
صحراوي ذهبي مخملي، فكساها جلالة ومهابة وفخامة، وكأنها كما قال امرئ
القيس:
كبيرُ أناسٍ في بجادٍ مزمّلِ
إنها الزلفي .. عروس الصحراء، وحسناء الرمال، وجوهرة البيداء، وفاتنة نجد،
أرض لا يدان لأحد بعدم حبها؛ فما أبهى ذات الوشاح الأصفر وأجملها، تأسر
قلبك أسرا، فإما مَنّاً بعدُ وإما فداء ..
من لقلبٍ حلّ جرعاء الحمى
ضاع مني هل له ردٌ عليّ؟
روّح القلب بذكر المنحنى
وأعده عند سمعي يا أُخيّ
الزلفي .. تنسيك بحسن طلعتها؛ وجميل مرآها، وبديع منظرها؛ وجليل محياها، ما
كنت تألف من أهل ومن وطن، وتلهيك عما كنت تعرف من صحب وجيران، ولسان الحال
عند إذٍ كما قال مجنون بني عامر:
خليليّ لا والله ما أنا منكما
إذا علم من آل ليلى بداليا
ويح الزلفي .. آسرة ساحرة باهرة، فاستودع الله قلبك وبصرك، فستأخذ لبك،
وتسلب قلبك، فلا عجب إن قلت فيها ما قال من قبلك:
خذا من صبا نجد أماناً لقلبه
فقد هاله الدمع المُلِحّ بصبّهِ
ومذ جذبتهُ للهوى نفحة الصبا
فقد كاد رياها يطير بلُبّهِ
الزلفي .. تحتضنها الرمال الذهبية، وتحفها بحار الكثبان،
وتكتنفها الوديان، وتتجاذبها النفوذ والدهناء، وطوّقها جبل طويق وكأنها ما
أطاق بعدها، فما أجمل تلك من فاتنة صحراوية بدوية نجدية..
ولذات اليمن بلغ أنني
إن تكن سلمى فإني بعض طي
أو تكن حجرا أكن يحيى لها
أو تكن حزوى أكن غيلان مي
لقد أخذت الزلفي من الصحراء الإباء والجلاء والنقاء، وأخذت منها السعة
والسكينة والانبساط والتواضع، وأخذت منها البدواة والحلاوة والأصالة..
حسن الحضارة مجلوب بتطريةٍ
وفي البداوةِ حسنٌ غير مجلوبِ
كما أخذت الزلفي من نجد -ويا لنجد- وجد نجد، وحنينها وشوقها، وأخذت طيب
عرارها، ونسيم ربيعها، وحلو لياليها، وجمال عشياتها..
تفوح أطياب نجد من ثيابهمُ
عند القدوم لقرب العهد بالدارِ
وأخذت من جبل طويق شموخه وشممه وإباءه، وأخذت منه صموده وثباته ورسوخه،
فبين طويق وبين الزلفي قصة حب، فجبل طويق جبل يحب الزلفي وتحبه..
للحب سر أجل ما زلت أجهلهُ
وكم سواي بسر الحب قد حاروا
للزلفي من بين مدن نجد وقراها مزية، فلها سحرها الخاص، ورونقها المتفرد،
وجاذبيتها المتميزة، فكأنها لنجد باب صنعاء، وأحد المدينة، وحجون مكة، وجسر
بغداد، وأبواب جيرون، وأهرامات مصر، وساحة فناء مراكش، فهي لنجد ديباجة
كتاب، ومقدمة خطبة، وهلال عيد؛ وأول قصيد، وباكورة ثمر، ووجه النهار ..
محاسن كل أرض فيك ألقى
فما لسواك من وصف سيبقى؟!
وأما أهل الزلفي ففيهم شيء واحد أؤاخذهم به وألومهم عليه
وأحاذره منهم ولا أغشك بكتمانه فخذه أو دعه .. وذاك أنهم ينسونك أهلك وصحبك
ومن تحب بكرمهم وأريحيتهم وسماحتهم ونداهم ..
لا عيب فيهم غير أن مجيئهم
يُنسى بها خلٌّ حبيبٌ بل أبُ
قوم كرام لا يبارى جودهم
وحديثهم عذب الكلام ومرحبُ
لله تلك الأرواح الطاهرة والنفوس الزاكية والسجايا الكريمة .. يحتفون
ويتحفون؛ ويأنسون ويؤنسون؛ جار كريم ومحل خصيب ووجه متهلل؛ فما تجد أكرم
ضيفا من ضيفم؛ ومن أقبل إليهم ورأى حدبهم على الضيف كان لسان الحال منه:
كأنما يوسف في كل راحلة
والحي في كل بيت منه يعقوبُ
إذا لقيت الواحد منهم فلأريحيته وسماحة نفسه وحسن منطقه لا تملك إلا تقول
له: إنك امرؤ فيك جاذبية..
هينون لينون أيسار ذوو يسرٍ
سواس مكرمة أبناء أيسارِ
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم
مثل النجوم التي يسري بها الساري
ولقد جالست ثلة من أفاضلها وأعيانها وشيوخها وأكابرها؛ فما ذكرت إلا بيت
أبي الطيب وكأنه عناهم حين قال:
أكارم حسد الأرض السماء بهم
وقصرت كل مصر عن طرابلس
من كل أبيض وضاح عمامته
كأنما اشتملت نوراً على قبس
وكم جلست فيها مجلس علم وأدب وظرف، فكانت تلك المجالس من مفاخر الزمان
ومآثر الدهر ومحاسن الدنيا وأجمل الذكريات .. فالعق العسل ولا تسل، واركض
برجلك هذا مغتسل بارد وشراب، فماذا أحدث عما في تلك المجالس من (الإمتاع
والمؤانسة)، و(البيان والتبين)، و(عيون الأخبار)، و(جواهر الأدب)، و(لباب
الآداب).
حييت حييت من حي ومن نادي
وحبذا حبذا واديك من وادي
ما رأيت كأهل الزلفي حبا لبلدتهم، وافتخارا واعتزازا بها،
وشوقا وحنينا إليها، وفرحا وسرورا بها، فبينها وبينهم قصة حب وحكاية عشق
وحديث ود، فكأنها وكأنهم الفرقدان ونخلتا حلوان..
لا لا تقل هذا غرام ما ترى
شيء أجل من الغرام وأكبر
قدر لي أن أزورها قبل سنوات خمس شتاء عام ثلاثين وستة وأربعمائة وألف؛ ولا
زلت أجد في نفسي أثر تلك الزيارة الطيبة، ولسان الحال:
ذم المنازل غير منزلة اللوى
والعيش غير أولئك الأيام
فها هي ذي خواطر حب، ولواعج شوق، وبواعث ود، وذكريات محب، بقيت في القلب
واستقرت في سويدائه، ولكنها تتجدد بين الفينة والأخرى كلما ذكر اسم الزلفي
أو هاتفني منها حبيب..
وحبذا نفحات من يمانية
تأتيك من قبل الريان أحيانا
زرت الزلفي فأبى القلب إلا الحب والود، واللسان إلا الثناء والحمد، والعين
إلا الإعجاب والقرور، والنفس إلا الراحة والسرور، والقلم إلا الكتابة
والإشادة..
أفادتكم النعماء مني ثلاثة
يدي ولساني والضمير المحجّبا
وأخيراً .. ما شهدت إلا بما علمت، وما قلت
إلا ما رأيت، وما ذكرت إلا بما به شعرت، وإن لم تصدق فأت البلدة التي كنا
فيها؛ واسأل العير التي أقبلنا فيها؛ وإنا لصادقون.
رقمه قائله
د. عبد الرحيم بن سعيد الإسحاقي
٦ / ١٠ / ١٤٤١هـ