إرجع.. فسيكفيك الناس!!..

حسن عبد الرحمن

 
أوراق تربويّة..
في طبيعة النفس البشريّة..
وواقع العلاقات الإنسانيّة..

إرجع.. فسيكفيك الناس!!..
 

السلام عليكم..

قوة الإيمان.. والشعور بوحدة المصير.. كان دائمًا وقود الدّعوات وهي تصارع من أجل البقاء.. وتستميت بأنصارها.. أمام ألوان البطش والتنكيل.. وأشكال الظلم والعدوان.. ومحاولات القضاء والاجتثات من الجذور..

بقدر ما تكون الدّعوات قادرة على تحقيق أعلى درجات الجاهزيّة والشعور بالمسؤولية في نفوس أتباعها وحاملي لوائها.. بقدر ما تكون أقدر على تحمّل عناء الصمود وأعباء الصدام.. حتى وإن طال أمد الاستنزاف وامتدّت السنين..

وهذا ما يفسّر الكثير من مآلاتِ وقائعٍ رجحتْ فيها كفّة القلّة المؤمنة بضرورة التضحية وحتمية البقاء والصمود.. على الكثرة التي تعدّدت لديها الخيارات.. وجمعها حُطام الدنيا ورائحة المغانم والمتاع الزائل..

وهذا ما يُفسّر أيضًا عودة دعوات للظهور من جديد.. بعد أن ظنّ مناوئوها أنهم سحقوها واقتلعوا وجودها.. لكنها استعصت على الزوال لأن بذرتها كانت لا تزال سالمة في صدور بعض أتباعها المخلصين.. الذين آمنوا بضرورة الوفاء.. والاستمرار.. فانسحبوا لا رهبة في المواجهة.. وإنّما إعدادًا لجولة قادمة..

قضيّة الحسين بن علي رضي الله عنهما وعدالتها.. التفّ حولها وانضوى تحت رايتها جمعٌ من أهل الفضل والخير والشرفاء.. رفضوا أن تعود الأمانة والمسئولية إرثًا يُورّث كما تورّث التركات.. وساءهم أن يروا مقاليد الحكم في الأمة تصير إلى من ليس لها بأهل..

لكن سلطة الحكم استطاعت أن تعالج الوضع لصالحها.. وتمكّنتْ من أن تستفرد بقادة الحركة.. لتقطع رؤوسهم وهم الأطهارُ دون أن تقيمَ أي اعتبار لفضلهم وقرابتهم من رسول الله عليه الصلاة والسلام..

لكن.. كيف حدث هذا !!.. كيف تحطّمت آمالٌ كادت تتجسّد.. في ذروة الشعور بالتمكين والنجاح !!..

كيف استطاعت سلطة فاسدة.. مستنزفة الشرعيّة والمصداقية أن تبقى.. وأن تسحب البساط من تحت أقدام دعاة وقادة الحركة.. وتسحقهم وفي رصيدهم قضية عادلة.. وحولهم أوضاع مناسبة لتقويض عرشها المهتزّ.. القائم على المظالم والطغيان !!..

تحدّث المؤرخون طويلاً وأسهبوا.. وكم نسبوا وعزوا وأرجعوا.. لكننّا من موقعنا هنا.. ومن قلب الأزمة التي تعيشها قضايانا العادلة اليوم.. واليُتم الذي تعانيه في ظلّ قلّة الناصر والمعين على كثرة سوادنا الذي يسدّ الأفق.. ننظرُ لتلك الأحداث بمنظار آخر.. باحثين عمّا يُفسّر السلبية والقصور السائد في ظلّ الأوضاع الراهنة.. وما تشهده الساحة من أحداث مزلزلة هذه الأيام..

بعث أهل الكوفة إلى الحسين رضي الله عنه يُبايعونه على الطاعة والنصرة.. يحثّونه على المسير إليهم مستعجلين قدومه.. فأرسل إليهم مندوبه مسلم بن عقيل قبل أن يدخل عليهم.. واجتمع له ثمانية عشر ألف نفر بايعوه على النصرة والإمارة للحسين رضي الله عنه..

[ ... أخرج عبيد الله بعض الأمراء وأمرهم أن يركبوا في الكوفة يخذلون الناس عن مسلم بن عقيل ففعلوا ذلك فجعلت المرأة تجيء إلى ابنها وأخيها وتقول له ارجع إلى البيت الناس يكفونك ويقول الرجل لابنه وأخيه كأنك غدا بجنود الشام قد أقبلت فماذا تصنع معهم فتقاصر الناس وقصروا وتصرموا واصرفوا عن مسلم بن عقيل حتى لم يبق إلا في خمسمائة نفس, ثم تقالوا حتى بقي في ثلاث مئة, ثم تقالوا حتى بقي معه ثلاثون رجلا, فصلى بهم المغرب وقصد أبواب كندة فخرج منها في عشرة, ثم انصرفوا عنه فبقي وحده حتى ليس معه من يدله على الطريق ولا من يؤانسه بنفسه ولا من يأويه إلى منزله فذهب على وجهه واختلط الظلام وهو وحده يتردد في الطريق لا يدري أين يذهب ] البداية والنهاية لابن كثير..

كان في آلاف من الأنصار يُحيطون بدار الوالي.. فأمسى وليس معه أحد !!..

هؤلاء الأنصار.. حتمًا كانوا يرغبون في التغيير والإصلاح وهم من عانى من سوء الأوضاع وفسادها.. وبعثوا للحسين يحثّونه على القدوم إليهم.. لكنهم كانوا أقلّ شعورًا بالمسؤولية.. وبأنّ التغيير يحتاجُ منهم جميعًا وقفتهم وصمودهم.. واحدًا واحدًا..

هذا القصور في الوعي بالقضيّة.. وضمور الشعور بالمسئوليّة.. وضعف روح الاستعداد والجاهزيّة.. هو الذي جعلهم ينسحبون الواحد تلو الآخر غير مدركين لمآل ما يصنعون.. وفي دواخلهم صدى كلمات أزواجهم وأهاليهم تتردّد.. " ارجع.. فسيكفيك الناس " !!..

حينما تواطأت مواقف الانسحاب والتراجع.. أفرزت ما يشبه حالة خيانة جماعية.. جعلت الآلاف الذين كانوا في الميدان.. آلافًا في البيوت والمخابىء.. يُقضىَ في مصائرهم وهم غائبون !!..

إلى كلّ صاحب علم ووعي وفكر.. قادر على أن يضع على الطريق الكثير ممّن لا يزالون يتلمّسونه.. بحثًا عن دور من الأدوار خدمةً للدّين ومساهمة في حمل أعباء الدعوة.. ثمّ هو منشغل عن ثغره هذا.. منهمك في خاصّة نفسه وشؤونه.. مستهينًا بقدراته وإمكانياته..

إلى كلّ صاحب بسطة في المال والجاه.. قادر على أن يغيث العشرات من المساكين والفقراء.. المسحوقين على هامش الحياة.. وأن يأخذ بأيدي العشرات من الشباب الطامح إلى حياة كريمة.. لا تغمّس فيها الأقوات بالذلّ والهوان.. وأن يسعف الكثير من المشاريع الدّعوية والتربويّة والجهادية التي تئنّ من عجزها عن تغطية تكاليف التشييد.. والحاجة للتجديد.. ثمّ هو منشغل عن ثغره هذا.. ومنهمك في حطام الدنيا طمعًا في الاستزادة بلا هدف نبيل..

إلى كلّ ربّة بيت.. قادرة على أن تصنع بين جدران بيتها من أطفالها قادة المستقبل.. وتزرع فيهم أمانة من سبقونا بالإسلام.. ومن تركوا أهاليهم وضِياعهم وأموالهم.. وركبوا ظهور الجياد وهم في سنّ الشيوخ.. وانطلقوا فاتحين في الآفاق يُعانقون المخاطر.. يبلّغون الدين ويدعون إلى الله.. ثمّ هي مُمسكة عن دورها منشغلة عن ثغرها باهتمامات تافهة.. وأماني سافهة.. وسخافة التطلّعات والأحلام التي تروّجها قنوات الفساد..

إلى كلّ هؤلاء وغيرهم من المتردّدين على مشارف المساهمة والعطاء.. أمعِنْ الإنصات وأرهفْ السمع.. وستجد صدى ذات الصوت يتردّد في داخلك.. يحثّك على التثاقل إلى الأرض والتخلّف عن المسير.." عليك بنفسك ولا تهتمّ.. فسيكفيك الناس "..

إنّك لن تنجح في كتم أنفاسه داخلك.. إلاّ إذا نجحتَ واعتبرتَ نفسك الوحيد في الميدان.. فحاول..

وحينها حتى لو أردتَ.. لن يجاريك ضميرك وتقوى على الانسحاب.. مهما اشتدّت التحدّيات وتعاظمت في عينيك التكاليف والتضحيات !!..