فتوى الشيخ حمود بن
عقلاء الشعيبي
في الصلاة على الميت الغائب
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على
أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد
فقد وردنا سؤال من بعض شباب المدينة المنورة هذا نصه :
ما حكم الصلاة على الميت الغائب ؟ وإذا كان في المسألة خلاف فنرجوا بيانه ، مع
ذكر الراجح من أقوال العلماء في المسألة ؟ والله يحفظكم ..
الجواب ..
الحمد لله ، لقد أختلف علماء الأمة في حكم الصلاة على الميت الغائب على أقوال
سأبينها إن شاء الله فيما يأتي ، لكن ينبغي أن يُعلم أن الأصل في مشروعية
الصلاة على الميت الغائب فعله صلى الله عليه وسلم في صلاته على النجاشي ، القول
الأول من أقوال العلماء مشروعية الصلاة على الغائب مطلقا سواء أديت عليه الصلاة
حاضرا أو لم يصلى عليه مطلقا ، وهذا عليه طائفة من العلماء ، منهم الإمام ابن
حزم وغيره حيث قال في المحلى 5/169 رقم 610 قال : ويصلى على الميت الغائب ، وقد
صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على النجاشي ، وصلى معه أصحابه صفوفا ، وهذا
إجماع منهم لا يجوز تعديه ا هـ . وقال أيضا في المحلى 5/139 رقم 580 بعدما ذكر
صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم على النجاشي وأنه أمر بها قال : فهذا أمر رسول
الله صلى الله عليه وسلم وعمله وعمل جميع أصحابه فلا إجماع أصح من هذا . ا هـ
والقول بمنع الصلاة على الغائب مطلقا خلاف السنة و خلاف عمل الصحابة ، قال ابن
حزم في المحلى ( 5/139 رقم 580 ) : ولم يجئ قط عن أحد من الصحابة أنه زجر عن
هذا أو أنكره ( أي الصلاة على الغائب ) اهـ .
وهذا هو الذي عليه العمل القديم وهو عمل الصحابة ولكن حدث خلاف بين التابعين
فيما بعد في ذلك على ثلاثة أقوال كما تقدم .
القول الأول :
الصلاة مطلقا على كل غائب صلي عليه أو لم يصل
عليه وهو قول الشافعي وأحمد رحمهما الله وأصحابهما ( الفتح الرباني 7/222 ، نيل
الأوطار 4/55 ، مجموع النووي 5/253 ، الإفصاح لابن هبيرة 1/187 ) .
القول الثاني : أنه خاص بالنبي صلى الله
عليه وسلم ولا يكون لأحد بعده ، فمنعوا الصلاة على الغائب مطلقا ، وهو قول مالك
وأبي حنيفة رحمهما الله واصحابهما ( المراجع السابقة ) .
القول الثالث :
التفصيل وهو الصلاة على الغائب إذا لم يصل عليه ، وهذا القول هو القول الراجح
الذي تدل عليه الأدلة وهي ( 1 ) أنه فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في صلاته
على النجاشي وصلاة الصحابة معه ، ( 2 ) إجماع الصحابة وعدم منعهم من الصلاة على
الغائب ، إذ لو كانت خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم لمنعوا ذلك ، قال ابن حزم
في المحلى : ولم يجئ قط عن أحد من الصحابة أنه زجر عن هذا أو أنكره ( أي الصلاة
على الغائب ) . اهـ
أما القول بالخصوصية فهذا خلاف الأصل ، إذ إن الأصل عدم الخصوصية بل التأسي
والاقتداء به ، قال تعالى ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) الآية ، وقال
صلى الله عليه وسلم : ( صلوا كما رأيتموني أُصلي ) ، وقد رأيناه يصلى على غائب
لم يصل عليه ، فنُصلي على الغائب الذي لم يصل عليه فقط .
أما القول الأول وهو الصلاة مطلقا فيرده أن الرسول صلى الله عليه وسلم توفي
بأبي هو وأمي فلم يصل عليه صلاة الغائب وكذا الخلفاء الراشدون والعلماء
المرضيون والأئمة المهديون ،قال ابن القيم رحمه الله : ولم يكن من هديه وسنته
الصلاة على كل ميت غائب ، فقد مات خلق كثير من المسلمين من الصحابة وغيرهم وهم
غُيّب فلم يصل عليه اهـ ( زاد المعاد 1/144 ) ، وقال ابن التركماني في الجوهر
النقي 4/51 قال : أنه لم ينقل أن النبي صلى على من مات من أصحابه ولم ينقل أنه
صلى المسلمون على الخلفاء الأربعة وغيرهم .
والقول الثالث الذي رجحناه قال به واختاره من العلماء أبو داود صاحب السنن حيث
قال في سننه من كتاب الجنائز باب الصلاة على المسلم يموت في بلاد الشرك ،
واختاره الخطابي حيث قال في معالم السنن 1/270 : النجاشي رجل مسلم قد آمن برسول
الله صلى الله عليه وسلم وصدقه على نبوته إلا إنه كان يكتم إيمانه والمسلم إذا
مات وجب على المسلمين أن يصلوا عليه إلا إنه كان بين ظهراني أهل الكفر ولم يكن
بحضرته من يقوم بحقه في الصلاة عليه فلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل
ذلك إذ هو نبيه ووليه وأحق الناس به ، فهذا والله أعلم هو السبب الذي دعاه إلى
الصلاة عليه بظهر الغيب ، فعلى هذا إذا مات المسلم ببلد من البلدان وقد قُضي
حقه في الصلاة عليه فإنه لا يصلى عليه من كان ببلد آخر غائباً عنه فإن علم أنه
لم يصل عليه لعائق أو مانع عذرٍ كانت السنة أن يصلى عليه ولا يترك ذلك لبعد
المسافة .. ثم رد على من خصص الفعل برسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا : لأن
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فعل شيئاً من أفعال الشريعة كان علينا
متابعته والاقتداء به والتخصيص لا يُعلم إلا بدليل ، ومما يبين ذلك أنه صلى
الله عليه وسلم خرج بالناس إلى المصلى فصف بهم فصلوا معه فعلمتَ إن هذا التأويل
فاسد . اهـ
واختاره أيضا شيخ الإسلام ابن تيميه فيما نقله عنه ابن القيم في زاد المعاد
1/145 قال : قال ابن تيميه : الصواب أن الغائب إن مات ببلد لم يصل عليه فيه
صُلي عليه كما صَلى النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي ، لأنه مات بين
الكفار ولم يصل عليه ، وإن صُلي حيث مات لم يصل عليه صلاة الغائب ، لأن الفرض
سقط بصلاة المسلمين عليه اهـ وهي رواية عن الإمام احمد في الإنصاف 2/533 : وقيل
يصلى عليه إن لم يكن صلي عليه وإلا فلا ، اختاره الشيخ تقي الدين وابن عبدالقوي
وصاحب النظم ومجمع البحرين اهـ واختاره أيضا ابن القيم .
أما ما يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى على الصحابي معاوية ابن أبي
معاوية فلا يصح ، قال ابن القيم في زاد المعاد 1/145 : وما روي أنه صلى على
الصحابي معاوية ابن أبي معاوية صلاة غائب فلا يصح ، وقال ابن عبدالبر والبيهقي
والذهبي : إن أسانيد أحاديث صلاته على معاوية بن أبي معاوية ليست بالقوية ( عون
المعبود 9/19 ) .
ومن المعلوم أن المقاصد الشرعية من الصلاة على الغائب هي الدعاء والاستغفار له
كما روى أبو هريرة قال : نعى رسول الله صلى الله عليه وسلم النجاشي لأصحابه ،
ثم قال : استغفروا له ، رواه أحمد ( المسند 2/241 ، 529 ) ، وقال ابن القيم في
زاد المعاد 1/141 : ومقصود الصلاة على الجنازة هو الدعاء للميت اهـ
ولكن مما أُحدث في الأزمنة المتأخرة وهو جعل صلاة الغائب صلاة مدح وتكريم وصلاة
مجاملة وتأييد ، فخرجت عن مقاصدها الشرعية التي شُرعت من أجلها إلى هذه الأمور
المحدثة ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد )
بل صُلي على من أمر الله بعدم الصلاة عليه ، كما قال تعالى ( ولا تصل على أحد
منهم مات أبدا ولا تقم على قبره ) الآية ، قال ابن رشد : أجمع العلماء على ترك
الصلاة على المنافقين مع تلفظهم بالشهادة اهـ ( بداية المجتهد 1/239 ) .
وصُلّي على من حارب الله ورسوله وصد عن سبيل الله وحكم بغير شرعه ووآلى أعداء
الإسلام ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ولو كان من مقاصد صلاة الجنازة التكريم
والمدح والثناء وإظهار المكانة لكان أولى الناس بها المصطفى صلى الله عليه وسلم
عند موته والخلفاء الراشدين من بعده والأئمة المهديين من بعدهم .
هذا ونسأل الله أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه إنه على كل شيء قدير ،
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..
أملاه فضيلة الشيخ
أ. حمود بن عقلاء الشعيبي
18/ 11/ 1421 هـ