بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد الأحد، تعالى عن الشريك والصاحبة والولد.
نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه.
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول، وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا.
اللهم اجزه عنا أفضل ما جزيت نبيا عن أمته وأعلي على جميع الدرجات درجته واحشرنا تحت لوائه وزمرته وأوردنا حوضه في الآخرة.
اللهم لا تجعل لقلوبنا الآن حوضا ترده إلا كتابك وسنة نبيك (صلى الله عليه وسلم) أفضل صلاة وأتم سلام وأكمله وأعلاه.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
اللهم وبغض إلى قلوبنا البدعة والمبتدعين، وأرنا الحق حقا والباطل باطلا ووفقنا لأتباع الحق والعمل به والدعوة إليه والصبرَ على الأذى فيه ابتغاء وجهك وطلب مرضاتك.
( رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ* رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ). ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً). سلام عليكم ورحمته وبركاته، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعنا وإياكم على الإيمان والذكر والقرآن، وأن يجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله.
ثم يجمعنا أخرى سرمدية أبدية في دار قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها.
أحبتي في الله:
لقائنا الليلة يتجدد مع الجزء الثاني من محاضرة هكذا علمتني الحياة.
لكم غنم هذه المحاضرة وعلي غرمها، لكم صفوها وعلي كدرها.
هذه بضاعتي وإن كنت قليل البضاعة تعرض عليكم، وهذه بنات أفكاري تزف إليكم، فإن صادفت قبولا فإمساك بمعروف، وإن لم يكن فتسريح بإحسان والله المستعان.
ما كان من صواب فمن الله الواحد المنان.
وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان والله بريء منه ورسوله والله المستعان.
وأنا العبد الفقير القليل الضعيف المهوان نُبذ مما سنح لي من المعارف تحت ظل العقيدة.
أسأل الله أن يجعلها لي ولكم ذخرا ليوم تتقلب فيه القلوب والأبصار.
وأسأله أن يجعلها من صالحات الأعمال وخالصات الآثار وباقيات الحسنات إلى آخر الأعمار. رباه،رباه:
يظن الناس بي خيرا وإني....... لشر الناس إن لم تعفو عني
وما لي حيلة إلا رجائي ........وعفوك إن عفوت وحسن ظني
اللهم اجعلني خيرا مما يظنون، وأغفر لي ما لا يعلمون، وهكذا علمتني الحياة:
علمتني الحياة في ظل العقيدة إنه لا خيرَ ولا أفضل ولا أجملَ ولا أحسنَ من كلمةٍ طيبة:
)أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ* تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ). أخي: إن البر شيء هين..........وجه طليق وكلام لين
هاهو أعرابي كما يروى يدخل على رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم) وهو بين أصحابه:
فيمسكه بتلابيبه ويهزَه ويقول:
أعطني من مالِ اللهِ الذي أعطاك لا من مالي أبيكَ ولا من مالِ أمِك.
فيقومُ صحابةُ رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم) يريدون أن يؤدبوا من يعتدي على شخصِ محمدٍ (صلى الله عليه وسلم) فيقول عليه الصلاة والسلام:
على رسلِكم المالُ مالُ الله، أو كما قال (صلى الله عليه وسلم).
ثم يأخذُ هذا الأعرابيُ يداعبُه ويلاطِفُه، ويذهبُ به إلى بيتِه (صلى الله عليه وسلم) فيقول:
خذ ما شئت ودع ما شئت.
لكن ماذا يأخذ من بيتِ محمدٍ (صلى الله عليه وسلم) ؟
بيتٌ لا توقدُ فيه النارِ شهرينِ ولا ثلاثةَ أشهر، بيتٌ لم يشبعَ أهلُه من خبزِ الشعير، ولم يشبع من دقل التمر ورديء التمرِ، بيتُ يأتي السائلُ يسأل فلا يوجد يوم من الأيام في بيته إلا عنبة، وفي يوم من الأيام لا يوجد في بيته (صلى الله عليه وسلم) سوى تمرة واحدة، لكنه خيرُ بيتٍ وجدَ على ظهرِ الأرضِ بأبي وأمي صاحبُ ذاك البيت (صلى الله عليه وسلم).
ما ملك الأعرابيُ إلا أن قال: أحسنتَ وجزاك الله من أهلٍ وعشيرةٍ خيرا.
قال عليه الصلاة والسلام:
إن أصحابي قد وجدوا عليك أو كما قال (صلى الله عليه وسلم)، فأخرج إليهم وقل لهم ما قلتَ لي الآن، فخرجَ وجاء إليهم فقال (صلى الله عليه وسلم) هل أحسنتُ إليكَ يا أعرابي؟ قال نعم وجزاك الله من أهلٍ وعشيرةٍ خيرا، أشهدُ أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم).
فقال (صلى الله عليه وسلم):
إنما مثلي ومثلكم و مثل هذا الأعرابي كرجل كانت له دابة، فنفرت منه فذهب يطاردها، فجاء الناس كلهم وراءه يطاردون فما ازدادت الدابة إلا نفارا وشراد، فقال دعوني ودابتي أنا أعلم بدابتي، فأخذ من خشاش الأرض ولوح به لهذه الدابة فما كانت منها إلا أن انساقت إليه وجاءت إليه فأمسك بها، أما إني لو تركتكم على هذا الأعرابي لضربتموه فأوجعتموه فذهب من عندِكم على كفرهِ فماتَ فدخل النار.
أريتم إلى الكلمةِ الطيبةُ يا أيها الأحبة، فلا إله إلا الله لا أفضلَ من دفعِ السيئةِ بالحسنة، إنها آسرةُ القلوبِ والأرواح، إنها مستلةُ الأضغانِ والأحقاد والسخائم من القلوب.
)وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ). المؤمنُ الحق يا أيها الأحبة كالشجرةِ المثمرةِ كلما رُجِمت بالحجارةِ أسقطت ثمراً طيبا.
فيا له من قمة ويا لها من مُثل.
هاهوَ يهوديُ معه كلبُ، واليهود لطالما استفزوا المسلمين يريدون أن يوقعوهم في شركهم، يمرُ على إبراهيمَ ابن أدهم – عليه حمة الله - ذلكم المؤمنُ فيقولُ لهُ:
ألحيتُك يا إبراهيم أطهرُ من ذنبِ هذا الكلب، أم ذنبُ الكلبِ أطهرُ من لحيتِك ؟
فما كان منه إلا أن قال بهدوءِ المؤمنِ الواثقِ بموعود الله عز وجل:
إن كانت في الجنةِ لهيِ أطهرُ من ذنبِ كلبك، وإن كانت في النارِ لذنبُ كلبيكَ أطهرُ منها.
فما ملك هذا اليهوديُ إلا أن قال:
أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، والله ما هذه إلا أخلاقُ الأنبياء.
) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ* وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ). أقولُ هذا لعموم الناس، أما نحن الدعاة ونحن طلبة العلم والمفترض في الحاضرين أن يكونوا طلبة علم، ليس لنا أن ننـزل عن مستوى دعوتنا إلى التراشقِ برديءِ الكلام.
ليس لنا أن ننزل إلى سفاسف الأمور ولو حاول غيرنا جرنا إلى هذه الأمور.
يكن تحركنا ذاتيا، فلا يحركنا غيرنا لأن لا نستجر إلى معارك وهمية خاسرة ولا شك، ثم علينا أن لا نغضبَ لأنفسِنا بل علينا أن نسموَ بأنفسِنا عن كلِ بذيءٍ وعن كلِ ساقط.
لو كل كلب عوى ألقمته حجرا.......لأصبح الصخر مثقالا بدينار
ومن عاتب الجهال أتعب نفسه....... ومن لام من لا يعرف اللوم أفسد
ليس معنى ذلك أن نستسلم فلا ندافع، لكن المدافعة أحيانا يا أيها الأحبة تكون بالسكوت.
والمدافعة أحيانا تكون بالاختفاء.
والمدافعة أحيانا تكون بالإعراض عن الجاهلين.
في يوم أحُد وما أدراكم ما يوم أحُد، يوم أصاب المسلمين ما أصابهم، نادى أبو سفيان، ولا زال مشركا رضي الله عنه وأرضاه، قال:
هل فيكم محمد ؟
فلم يرد عليه (صلى الله عليه وسلم) ولم يأمر أحدا بالرد.
هل فيكم أبو بكر، هل فيكم عمر؟
فلم يجبه أحد مع أن الجواب قد كان أغيظ له، لكن الموقف كان يستلزم السكوت من باب قول القائل:
إذا نطق السفيه فلا تجبه........ فخير من إجابته السكوت
فإن كلمته فرجت عنه......... وإن خليته كمدا يموت
ومن باب قول الآخر:
والصمتُ عن جاهلٍ أو أحمقٍ شرفُ....... وفيه أيضاً لصونِ العرض إصلاحُ
أما ترى الأسدَ تخشى وهي صامتةٌ ........ والكلبُ يخزى لعمرُ اللهِ نباحُ
وهاهوَ الإمامُ أحمد عليه رحمةُ الله في مجلسه وبين تلاميذه، ويأتي سفيهُ من السفهاء، فيسبُه ويشتُمه ويقذعه بالسب والشتم، فيقولُ له طلابُه وتلاميذُه:
يا أبا عبد الله رد على هذا السفيه، قال لا والله فأينَ القرآنُ إذاً:
)وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً). إذ سبني نذلٌ تزايدتُ رفعةً .......... وما العيبُ إلا أن أكونَ مساببُه
ولو لم تكن نفسي عليَ عزيزةً ....... لمكنتُها من كـلِ نذلٍ تحاربُه
هاهوَ مصعبُ ابنُ عميرٍ رضي اللهُ عنه سفيرُ الدعوةِ الأولُ إلى المدينةِ النبوية، يأتيهِ أسيدُ أبنُ حضيرٍ بحربته وهو لا يزالُ مشركاً، فيقول لمصعبُ :
ما الذي جاءَ بك إلينا تسفهُ أحلامنَا وتشتمُ آلهتَنا وتضيعَ ضعفائَنا ؟
اعتزلنا إن كنتَ في حاجةٍ إلى نفسِك و إلا فاعتبر نفسَك مقتولاَ.
فما كان من مصعب بهدوءِ المؤمنِ الواثقِ بموعودِ الله وبنصر الله لهذه الدعوة إلا أن قال له في كلماتٍ هادئة:ٍ أو تجلسُ فتسمع، فإن رضيتَ أمرَنا قبِلته، وإن كرهتَهُ كففنا عنكَ ما تكره.
قال: لقد أنصفت.
وكانَ عاقلاً لبيبا، فكلمه مصعبُ رضي الله عنه عن الإسلام وقرأ عليه القرآن فتهللَ وجهُه وبرقت أساريرُه وجهه واستهل وجهه ثم قال:
كيفَ تصنعونَ إذا أردتم الدخولَ في هذا الدين ؟
جاءَ ليقتلَه والآن يريدُ أن ينهلَ من ما نهلَ مه مصعب.
قال اغتسل وتطهر وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسوله (صلى الله عليه وسلم).
أسلم الرجل وفي نفس الوقت أصبح داعية، قول:
إن ورائي رجلا إن اتبعكم لم يتخلف عنه أحد من قومه هو سعد أبن معاذ.
وذهب إلى هذا الرجل واستفزه بكلمات معينة فجاء هذا يركض إلى مصعب ويقول:
إما أن تكف عنا وإما أن نقتلك.
قال أو تجلس فتسمع فإن رضيت أمرنا قبلته وإن لم ترضه كففنا عنك ما تكره، فجلس.
فقام يخبره عن الإسلام ويبين له هذا الدين فما كان منه إلا أن استهل وجهه وبرقت أسارير وجهه وقال: كيف يفعل من يريد الدخول في هذا الدين؟
قالوا اغتسل وتطهر وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
ففعل، ثم خرج من توه داعية إلى قومه، فذهب إلى بني عبد الأشهل وقال:
كيف تعلمون أمري فيكم ؟ قالوا سيدنا وأفضلنا رأي وخيرنا وأيمننا.
قال فإن كلامكم علي حرام رجالكم والنساء حتى تأمنوا بالله الذي لا إله إلا هو وتصدقوا برسالة محمدا (صلى الله عليه وسلم).
يقول فلم يبقى رجل ولا امرأة في تلك الليلة إلا مسلم أو مسلمة.
فلا إله إلا الله الكلمةَ الطيبةَ، الإحسانَ الإحسان والله يحبُ المحسنين.
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ........ لطالما ما ملك الإنسان إحسان
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن الاجتماع والمحبةَ بين المؤمنين قوةً، وأن التفرُقَ والتشتتَ ضعفٌ، فإن الإنسانَ قليلٌ بنفسهِ كثيرٌ بإخوانه.
وما المرء إلا بإخوانه............. كما تقبض الكف بالمعصم
ولا خير في الكف مقطوعة...... ولا خير في الساعد الأجذم
يقولُ عمرُ رضي اللهُ عنه وأرضاه:
ما أعطيَ عبدُ بعد الإسلامِ خيرٌ من أخٍ صالحٍ يذكرُه بالله، فإذا رأى أحدُكم من أخيه وداً فليتمسك به.
تمسك به مسك البخيل بماله....... وعض عليه بالنواجذ تغنم
ويقولُ الحسنُ عليه رحمةُ الله:
إخوانُنا أحبُ إلينا من أهلِنا و أولادِنا، لآن أهلُنا يذكروننا بالدنيا وإخوانُنا يذكرُننا بالآخرة، ويعنوننا على الشدائد في العاجلة.
إن يختلف نسبٌ يؤلفُ بيننا ...... .ديننا أقمناه مقامَ الوالدِ
أو يختلف ماء الوصالِ فماؤنا....... عذبُ تحدر من غمامٍ واحدِ
يقولُ عمرُ رضي الله عنه:
واللهِ لو لا أن أجالس اخوةً لي ينتقونَ أطايبَ القول كما يلتقط أطايبُ الثمر لأحببتُ أن ألحق بالله الآن.
وها هي جماعة من النمل تصادف بعيرا فيقول بعضها:
تفرقنا عنه لا يحطمكن بخفه، فقالت حكيمة منهن اجتمعن عليه تقتلنه.
تأبى الرماح إذا اجتمعنا تكسرا...... وإذا انفردنا تكسرت أحاد
بنيانُ واحد، جسدُ واحد، أمةٌ واحدة.
لو كبرت في جموعِ الصينِ مإذنةٌ ......... سمعتَ في الغربِ تهليلُ المصلينَ
)وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا).
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن لا تضيعَ فرصةً في طاعة:
فإن لكل متحركٍ سكونَ، ولكلِ إقبالٍ أدبار، ورحم اللهُ أبا بكرٍ رضي الله عنه وأرضاه يوم يقول (صلى الله عليه وسلم) كما في صحيح مسلم:
( من أصبحَ منكم اليومَ صائما، قال أبو بكرٍ أنا، من تبعَ منكم اليومَ جنازةً، قال أبو بكرٍ أنا، من عاد منكم اليومَ مريضاً، قال أبو بكرٍ أنا، من تصدقَ اليومَ على مسكين، قال أبو بكرٍ أنا، قال (صلى الله عليه وسلم) ما اجتمعنا في رجلٍ إلا ودخل الجنة).
من لي بمثل مشيك المعتدل....تمشي الهوين وتجي في الأول
خرجَ أبو بكرٍ من عندِ رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم) ولم يكن عمرُه في الإسلامِ بضعة أيامٍ، وعاد وهو يقود الكتيبةَ الأولى من كتائبِ هذه الأمة، عاد وقد أدخل في الإسلام ستةً من العشرةِ المبشرين بالجنة يأتي يومَ القيامةِ وهم في صحيفةِ حسناته، وبعضُنا يعيشُ عشرين عاما وثلاثين عاما وستين عاما ومائة عاما وما هدى الله على يديه رجلاً واحد، إلى اللهِ نشكو ضعفنا وتقصيرَنا.
ليسَ هذا فحسب بل يمرُ يوماً من الأيامِ على بلالَ رضي الله عنه وهو يعذبُ في رمضاءِ مكةَ وبه من الجهدِ ما به وهو يقول أحدُ أحد فيقول ينجيك الواحد الأحد.
ويذهب ويرى أنها فرصةٌ لا تتعوضَ لإنقاذِ هؤلاء الضعفاء لآن لا يفتنوا في دينِهم فيصفي تجارتِه ويصفي أموالَه ويأتي إلى أميةَ ابنَ خلف ويقولُ:
أتبيعُني بلالاً؟ قال أبيعُك إياهُ لا خيرَ فيه، فيعطيهِ فيه خمسَ أواقيً ذهبا.
فيأخذَ أمية الخمسَ ويقول:
واللهِ لو أبيت إلا أوقيةً واحدةً لبعتُك بلالا.
قالَ أبو بكر: و واللهِ لو أبـيت يا أمية إلا مائة أوقيةً لأخذته منك.
لأن لأبي بكرٍ موازينَ ومقاييسَ ليست لهذا ولا لغيره من البشر فرضي اللهُ عنه وأرضاه.
يقولُ أبوه: إن كنتَ ولا بدَ منفقُ أموالَك فأنفقها على رجالٍ أشداء ينفعونك في وقتِ الشدائد.
فيقولُ أبتاه إنما أريدُ ما أريد.
ماذا يريدُ أبو بكرٍ رضي الله عنه وأرضاه؟
إنه يريدُ ما عندَ الله ويريدُ وجه الله والدار الآخرة0.
يقولُ الناسَ ما أعتقَ بلالاً إلا ليدٍ كانت له عند بلال، يعني لمعروفٍ أسداه بلال إليه فأراد أن يكافئَه بذلك، فيتولى اللهُ سبحانه وتعالى الردَ من فوقِ سبعِ سماوات:
)وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى).
رضي اللهُ عنه وأرضاه قد كان سباقاً إلى كل فرصة يغتنمها.
وها هو خيثمة أبن الحارث كان له أبن يسمى سعد، ولما أراد المسلمون النفور إلى بدر، أرادوا الجهاد في سبيل الله، فما كان من هذا الرجل إلا أن قال لأبنه:
يا بني تعلم أنه ليس مع النساء من يحميهن، وأريد أن تبقى معهن.
وراء هذا الشاب أن هذه فرصة لا تتعوض، جهاد في سبيل الله، قال:
والله يا أبتاه لا أجلس مع هؤلاء النساء، للنساء رب يحميهن، والله ما في الدنيا شيء تطمع به نفسي دونك، والله لو كان غير الجنة يا أبتاه لآثرتك به، ولكنها الجنة، ووالله لا آثر بها أحدا.
ثم ذهب الشاب وترك الشيخ الكبير مع هؤلاء النساء، ذهب يطلب ما عند الله، فأستشهد في سبيل الله، بأذن الله نحسبه شهيدا ولا نزكي على الله أحدا.
يقول أبوه بعد ذلك:
والله لقد كان سعد أعقل مني، أواهُ أواه لقد فاز بها دوني، والله لقد رأيته البارحة في المنام يسرح في أنهار الجنة، وثمارها ويقول أبتاه، الحق بنا فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا.
وهاهو أبو خيثمة يتخلف عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في غزوة تبوك، وكانت له زوجتان، جاءهما يوما فوجد كل واحدة منهما قد رشت عريشها بالماء، وبردت له الماء ووضعت له الطعام.
فلما رأى ذلك بكى وقال: أواهُ أواه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في الحر والريح، وأبو خيثمة في الظل والماء البارد، والله ما هذا بالنصف.
ورأى أنها فرصة لو فاتته لعد من المنافقين، قال:
والله لا أذوق شيئا حتى ألحق برسول الله (صلى الله عليه وسلم).
فهيئ زاده وهيئ راحلته وأنطلق وحيدا في صحاري يبيد فيه البيد، ويضيع فيها الذكي والبليد.
ولحق بالنبي (صلى الله عليه وسلم) فأدركه قرب تبوك، وراءه الناس فقالوا:
ركب مقبل يا رسول الله.
فقال (صلى الله عليه وسلم) كن أبا خيثمة، كن أبا خيثمة، قال الصحابة هو أبو خيثمة.
فدعاء له (صلى الله عليه وسلم) ففاز بدعوة النبي (صلى الله عليه وسلم) وياله من فوز.
)لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى).
كانوا سباقين إلى فعل الخير، لا يضيعون فرصة في طاعة الله عز وجل.
والي من الولاة في عهده بنى له بناء في واسط وزخرفه وأكثر فيه من الزخرفة ثم دعا الناس للفرجة عليه والدعاء له، فما كان من الحسن البصري رحمه الله يوم اجتمع الناس كلهم إلا أن رآها فرصة لا تعوض أن يعض الناس ويذكرهم بالله ويزهدهم في الدنيا ويرغبهم في ما عند الله جل وعلا، فما كان منه إلا أن انطلق ثم وقف بجانبهم هناك فحمد الله وأثناء عليه فاتجهت إليه القلوب والأبصار ثم قال:
لقد نظرتم إلى ما ابتنى أخبث الأخبثين فوجدنا أن فرعون بنى أعلا من ما بنى وشيد أعلا مما شيد، أليس هو القائل: ) أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي)، فأجرى الله الأنهار من فوق رأسه، ليته يعلم أن أهل السماء مقتوه، وأن أهل الأرض قد غروه، وأندفع يتدفق في موعظته حتى أشفق عليه أحد السامعين من هذا الوالي فقالوا حسبك يا أبا سعيد حسبك.
قال لا والله، لقد أخذ الله الميثاق على أهل العلم ليبيننه للناس ولا يكتمونه.
من كتم علما ألجمه الله بلجام من نار.
ويسمع ذلك الوالي، ويأتي لجلسائه يتميز من الغيظ ويدخل عليه ويقول:
تبا لكم وسحقا وهلاكا وبعدا، يقوم عبد من عبيد أهل البصرة فيقول فينا ما شاء أن يقول، ثم لا يجد من يرده أو ينكر عليه، والله لأسقينكم من دمه يا معشر الجبناء.
ثم أمر بالسيف والجلاد والنطع، وما كان منه إلا أن استدعى الحسن عليه رحمة الله، فتقدم ودخل، فلما رأى السيف والجلاد تمتم بكلمات ولم يعرف الحجاب والحراس ماذا يقول.
ويوم دخل وقد خاف الله، فخوف الله منه كل شيء، دخل على هذا الوالي، فما كان منه إلا أن قال:
أهلا بك أيها الإمام، وقام يرحب به ويقول هاهنا يا أبا سعيد، حتى أجلسه على مجلسه وعلى كرسيه بجانبه، ويسأله بعض الأسئلة ثم يقول له أنت أعلم العلماء يا أبا سعيد، انصرف راشدا بعد أن طيب لحيته.
فخرج من عنده فلحق به أحد الحجاب وقال:
والله لقد دعاك لغير ما فعل بك، فماذا كنت تقول ؟
قال دعني ونفسي، قال أسألك بالله ماذا كنت تقول وأنت داخل؟
قال كنت أقول: يا ولي نعمتي وملاذي عند كربتي أجعل نقمته علي بردا وسلاما كما جعلت النار بردا وسلاما على إبراهيم.
اتصل بالله عز وجل ولم يضيع هذه الفرصة، وعلم الله صدقه فأنجه وأنقذه وحفظه.
والله خير حافظا وهو أرحم الراحمين.
فالحياة أيها الأحبةُ فرص، من اغتنمها فاز ومن ضيعها خسر: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ).
إذا هبت رياحك فاغتنمها........ فإن لكل خافقة سكون
ولا تغفل عن الإحسان فيها....... فلا تدري السكون متى يكون
وإن درت نياقك فاحتلبها..........فلا تدري الفصيل لم يكون
أترجُ أن تكونَ وأنت شيخٌ ......كما قد كنتَ أيامَ الشبابِ
لقد خدعتك نفسُك ليسَ ثوبٌ.... دريس كالجديدِ من الثيابِ
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن لا أعيبَ أحداً ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.
وأن أشتغلَ بإصلاحِ عيوبي، وإنها لكبيرة جد كبيرة، آما يستحي من يعيبَ الناس وهو معيب.
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها........ كفى المرء نبلا أن تعد معايبه
من ذا الذي ما ساء قط....... ومن له الحسنى فقط.
تريد مبرأ لا عيب فيه......... وهل نار تفوح بلا دخان.
هاهو عمر أبنُ عبد العزيز عليه رحمة الله ورضوانه يختار جلاسه أختيارا، ويشترطُ عليهم شروطا، فكان من شروطه أن لا تغتابوا ولا تعيبوا أحدا في مجلسي حتى تنصرفوا.
السهلًُ أهونُ مسلكا........ فدع الطرق الأوعرَ
واحفظ لسانك تسترح......فلقد كفى ما قد جرى
هاهوَ ابنُ سيرين عليه رحمةُ الله كان إذا ذُكرَ في مجلسه رجل بسيئةٍ بادر فذكرَه بأحسنِ ما يعلمُ من أمره، فيذبُ عن عرضه فيذبُ اللهُ عن عرضه.
سمع يوما أحد جلاسه يسبُ الحجاجَ بعد وفاته، فأقبل مغضباً وقال:
صه يا أبن أخي فقد مضى الحجاج إلى ربِه، وإنك حين تقدُمُ على اللهِ ستجدُ أن أحقرَ ذنبٍ ارتكبتَه في الدنيا أشدَ على نفسِك من أعظمِ ذنبٍ اقترفَه الحجاج و )لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ).
واعلم يا أبن أخي أن اللهَ عز وجل سوف يقتصُ من الحجاجِ لمن ظلمَهم، كما سيقتصُ للحجاجِ ممن ظلموه، فلا تشغلنا نفسك بعد اليومِ بعيبِ أحد ولا تتبعَ عثراتِ أحد.
ومن يتتبع جاهدا كل عثرة يجدها..........ولا يسلم له الدهر صاحب
يا عائبَ الناسِ وهو معيب اتقِ الله، أعراضُ المسلمينَ حفرةٌ من حُفرِ النار.
وخواص المسلمين هم العلماء والوقيعة فيهم عظيمة جد عظيمة، لحومهم مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصهم معلومة، ومن أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب.
وكم من عائب قولا صحيحا..........وآفته من الفهم السقيم
ومن يكو ذا فم مر مريض............. يجد مرا به الماء الزلال
فإن عبت قوما بالذي فيك مثلُه..........فكيف يعيبُ من الناسَ من هو أعورُ
وإن عبتَ قوما بالذي ليسَ فيهمُ....... فذلك عند اللهِ والناسِ أكبرُ
من طلبَ أخا بلا عيبٍ صار بلا أخ، ألا فانظر لإخوانك بعين الرضى:
فعينُ الرضى عن كل عيبٍ كليلةُ.........ولكن عين السخطِ تبدي المساوي.
فكيف ترى في عينِ صاحبك القذى..... ويخفى قذى عينيك وهو عظيمُ
بعض الأخوة ظلمة، بعضُ الأخوة غيرُ منصفين، يرون القذاةَ في أعين غيرهم ولا يرونَ الجذعَ في أعينِهم.
فحالُهم كقولُ القائل:
إن يسمعوا ُسبةً طاروا بها فرحا...... مني وما يسمعوا من صالحٍ دفنوا
صمُ إذا سمعوا خيرا ذكرت به........ وإن ذكرتُ بسوءٍ عندهم أذنوا
إن يعلموا الخيرَ أخفوه......وإن علموا شرا أذاعوا... وإن لم يعلموا كذبوا.
طوبى لمن شغلته عيوبُه عن عيوبِ غيره. وكان حالُه:
لنفسي أبكي لستُ أبكي لغيرها..... لنفسيَ عن نفس من الناسِ شاغلُ
والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن الصاحبَ ساحب وأن القرينَ بالقرين يقتدي:
وأن الناسَ أشكالٌ كأشكالُ الطير، الحمامُ مع الحمام، والغراب مع الغراب والدجاجُ مع الدجاج، والنسور مع النسور والصقورُ مع الصقور، وكلاً مع شكلِه، والطيورُ على أشكالها تقعُ، والخليلُ على دينِ خليله، ففرَ من خليلِ السوء فِرارك من الأسد، فهو أجربُ معدٍ، يقودُك إلى جهنَم إن أجبتهُ قذفَك فيها وسيكون لك عدواً بين يدي الله الواحد الأحد: )الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ).
هاهوَ عقبةُ ابن أبي مُعيط كان يجلسُ مع النبيِ (صلى الله عليه وسلم) بمكة ولا يؤذيه، وكانَ كافرا، وقد كان بقيةُ قريشُ إذا جلسواُ معه (صلى الله عليه وسلم) يؤذونَه.
كانَ لأبنِ أبي معيط صديقٌ كافرٌ غائبٌ في الشام وقد ظنت قريش أن عقبةَ قد أسلم لما يعامل النبي (صلى الله عليه وسلم) من معاملة حسنة.
فلم قدِمَ خليله من الشام قالت قريش هاهو خليلك ابنَ أبي معيطٍ قد أسلم.
فغضب خليله وقرينه غضبا شديداً وأبى يكلِمَ عقبةَ وأبى أن يسلمَ عليه حتى يؤذي النبي (صلى الله عليه وسلم)، فاستجاب عقبةَ له، وأذى النبي (صلى الله عليه وسلم)، حتى أنه خنقه بتلابـيبه ذات مرة، وحتى أنه بصق في وجهه الشريف مرة أخرى فأستأثرَ بكلِ حقارةٍ ولؤم على وجه الأرض في تلك الساعة.
وكان عاقبته أن مات يومَ بدرٍ كافرا، فأنزل ال فيه وفي أمثاله قرأناً يتلى إلى يومِ القيامة:
)وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً). فإياك وصديق السوء فإنه يعدي كما يعدي الصحيحَ الأجربُ.
إذا كنتَ في قومٍ فصاحب خيارَهم......ولا تصحبِ لأردى فتردى مع الرديء
عن المرءِ لا تسأل واسأل عن قرينهِ......فكلُ قرين بالمقارنِ يقتديِ
من جالس الجرب يوما في أماكنها......لو كان ذا صحة لا يأمن الجرب
أنت في الناس تقاس....... بالذي اخترت خليلا
فأصحب الأخيار تعلو.... وتنل ذكرا جميلا
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن أعمل بما أقول ما استطعت إلى ذلك سبيلا:
ومن لم يعمل بما يقول وبما يدعو له فإنما يسخر من نفسه أولا:
كالعيس في البيداء يقتلها الضما...........والماء فوق ظهورها محمول
كحامل لثياب الناس يغسلها.............وثوب غارق في الرجس والنجس
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها........ إن السفينة لا تجري على اليبس
ركوبك النعش ينسيك الركوب على.....ما كنت تركب من بعل ومن فرس
يوم القيامة لا مال ولا ولد...............وضمت القبر تنسي ليلة العرس
ابدأ بنفسك فأنهها عن غيها..............فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك ينفع ما تقول ويحتفى..............بالوعظ منك وينفع التعليم
لا تنهى عن خلق وتأتي مثله..............عار عليك إذا فعلت عظيم
فأحرص على ما ينفعك واعمل بما تقول ما استطعت: )كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ).
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن إرضاء الناس غاية لا تدرك:
نعم إرضاء البشر ليس في الإمكان أبدا، لأن علمهم قاصر، ولأن عقولهم محدودة، يعتورهم الهوى ويعتورهم النقص، ويتفاوتون في الفهم والإدراك فلا يمكن إرضاءهم، فمن ترضي إذا ؟
أرضي الله جل وعلا وكفى.
هاهو رجل يبني له بيتا فيضع بابه جهة الشرق، فيمر عليه قوم فقالوا:
هلا وضعت بابه جهة الغرب لكان أنسب.
فيمر آخرون ويقولون هلا وضعت بابه جهة الشمال لكان أجمل.
ويمر آخرون ويقولون لولا وضعته جهة الجنوب لكان أنسب.
وكل له نظر ولن ترضيهم جميعا فأرضي الله وكفى.
هاهو رجل وأبنه ومعهما حمار، ركب الأب وترك الابن ومشيا، فمروا على قوم فقالوا:
يا له من أب ليس فيه شفقة ولا رحمة يركب ويترك هذا الابن المسكين يمشي وراءه.
فما كان منه إلا أن نزل وأركب هذا الطفل، فمروا على قوم آخرين فقالوا:
ياله من ابن عاق يترك أباه يمشي وراء الدابة وهو يركب الدابة.
فركب الاثنان على الدابة ومروا على قوم آخرين فقالوا:
يا لهم من فجرة حملوها فوق طاقتها.
فنزل الاثنان ومشيا وراء الدابة فمروا على قوم فقالوا:
حمقى مغفلون يسخر الله لهم هذه الدابة ثم يتركونها تمشي ويمشون ورائها.
)وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ َ). من ترضي أخي في الله ؟ أرضي الله وكفى. من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس.
لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، أما إرضاء رب الناس فهو الممكن سبحانه وبحمده، بل هو الواجب، لأن سبيل الله واحد، ولأن دينه واحد:
)وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ). يذكر الشيخ عمر الأشقر في كتابه (مواقف) حدثا يناسب هذه النقطة.
يذكر أن طفلة صغيرة من بيت محافظ تعود لأمها من المدرسة ذات يوم وعليها سحابة حزن وكآبه وهم وغم، فتسألها أمها عن سبب ذلك فتقول:
إن مدرستي هددتني إن جئت مرة أخرى بمثل هذه الملابس الطويلة.
فتقول الأم ولكنها الملابس التي يريدها الله جل وعلا.
فتقول الطفلة، لكن المدرسة لا تريدها.
قالت الأم، المدرسة لا تريد والله يريد فمن تطيعين إذا؟ الذي خلقك وصورك وأنعم عليك أم مخلوقا لا يملك ضرا ولا نفعا.
فقالت الطفلة بفطرتها السليمة، لا.. بل أطيع الله وليكن ما يكون.
وفي اليوم الثاني تلبس تلك الملابس وتذهب بها إلى المدرسة، فلما رأتها المعلمة انفجرت غاضبة، تؤنب تلك الفتاة التي تتحدى إرادتها، ولا تستجيب لطلبها، ولا تخاف من تهديدها ووعيدها، أكثرت عليها من الكلام، ولما زادت المعلمة في التأنيب والتبكيت ثقل الأمر على الطفلة البريئة المسكينة فانفجرت في بكاء عظيم شديد مرير أليم أذهل المعلمة، ثم كفكفت دموعها وقالت كلمة حق تخرج من فمها كالقذيفة، تقول:
والله لا أدري من أطيع أنتي أم هو!
قالت المعلمة ومن هو ؟
قالت الله رب العلمين الذي خلقني وخلقك وصورني وصورك، أأطيعك فألبس ما تريدين وأغضبه هو، أم أطيعه وأعصيك أنتي، لا، لا سأطيعه وليكن ما يكون.
إذا لم يكن إلا الأسنة مركبا........ فما حيلة المضطر إلا ركوبها
ذهلت المعلمة وشدهت وسكنت، وهل هي تتكلم مع طفلة أم مع راشدة، ووقت منها الكلمات موقعا عظيما، وسكتت عنها المعلمة، وفي اليوم التالي تستدعي المعلمة أم البنت وتقول:
لقد وعظتني أبنتك أعظم موعظة سمعتها في حياتي، لقد تبت إلى الله وأبت إلى الله، فقد جعلت نفسي ندا لله حتى عرفتني ابنتك من أنا، فجزاك الله من أم مربية خيرا.
وهنا أقول – أيها الأحبة- إلى أن نرضي الله جل وعلا، وأن نعرف أن الحق إنما يصل إلى القلوب إذا خرج من القلوب التي تؤمن به، وتعمل بمقتضاه، أما الكلمات الباردة فلن تأثر في السامعين أبدا.
ألا فأرضي الله جل وعلا وكفى.
فلست بناجي من مقالة طاعن......... ولو كنت في غار على جبل وعر
ومن ذا الذي ينجو من الناس سالما..... ولو غاب عنهم بين خافيتي نسر
)وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ).
(وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ).
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن أحبَ الحقَ وفلاناً ما اجتمعا:
فإذا افترقا كان الحقَ أحبَ من فلانٍ ونفسي ومالي وأهلي ولدي والناسِ أجمعين.
لأنني مولع بالحق لست إلى سواه..........أنحو ولا في نصره أهن
دعهم يعضوا على صم الحصى كمدا.....من مات من غيظه منهم له كفن
هاهوَ سعد ابنَ أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه، يستجيبُ لدعوةِ الهدى والحق فيكونَ ثالثُ ثلاثةٍ أسلموا، لكن إسلامه لم يمرَ هيناً سهلا، وإنما تعرضَ الفتى إلى تجربةٍ من أقسى التجارب أنزل الله في شأنها قرأناً يتلى، فلما سمِعت أمهُ بخبرِ إسلامِه ثارت ثائرتُها، يقول:
وكنت فتى براً محباً لها، قال فأقبلت تقول يا سعد ما هذا الدينُ الذي اعتنقته فصرفَك عن دينِ آبائِك وأجدادِك، لتتركنَ هذا الدين أو لامتنعنَ عن الطعامِ والشراب حتى أموتَ فيتفطرُ قلبُك حزنٌ علي ويأكلَك الندمُ بفعلتك التي فعلت ويعيرَك الناس بها أبد الدهر.
قال قلت يا أماه لا تفعلي فأنا لا أدعو ديني لشي.
لكنها نفذَت وعيدها وامتنعت عن الطعامِ والشراب أياما، كان يأتيها ويسألَها أن تتبلغ بقليل من طعام أو شراب فترفضُ ذلك، فما كان منه ذلك اليومَ إلا أن جاءها وقال:
يا أماه إني لعلى شديدِ حبي لكي لأشدُ حباً لله ورسولِه، واللهِ لو كانت لكِ آلفُ نفسٍ فخرجت منكِ نفساً بعد نفسٍ ما ارتددت عن ديني فكلي أو دعي.
فلما وضعها أمام هذا الأمرَ ما كان منها إلا أن أكلَت على كُره منها فأنزل اللهُ فيه وفيها: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
وهاهو الإمام مالك يأتيه رجل يستفتيه وهو في حلقة العلم في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، يدخل هذا الرجل إليه ويقول:
يا إمام قد قلت لزوجتي أنت طالق إن لم تكوني أحلى من قمر.
ففكر الإمام قليلا ثم قال: ليس هناك أحلى من القمر، هذه طلقة ولا تعد لذلك.
كان تلميذه الشافعي يجلس إلى سارية من السواري، ولم يدري ما الذي حدث بينهما، وكان حريصا على طلب العلم، فلحق بهذا الأعرابي وقال: ما السؤال وما الإجابة، يريد أن يستفيد فائدة.
قال: قلت للإمام كذا وكذا، فقال القمر أحلى من زوجتك فزوجتك قد طلقت طلقة.
فقال: الإمام الشافعي لا، بل زوجتك أحلى من قمر.
قال أو قد رأيتها، وكانوا ذا غيرة، اغتاظ منه، قال لا، ألم تسمع قول الله جل وعلا:
)وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ *لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ). فخلق الإنسان أحسن خلق، وأقوم خلق وأعدل خلق.
قال إذا نرجع إلى الإمام مالك، قال نرجع إليه.
فرجعوا إلى الإمام مالك فأخبروه الخبر فقال، الحق أحق أن يتبع أخطأ مالك وأصاب الشافعي.
فما أحوجنا إلى معرفة الرجال بالحق لا العكس.
والحق يعلو والأباطيل تسفل.... والحق عن أحكامه لا يُسأل
وإذا استحالة حالة وتبدلت..... فالله عز وجل لا يتبدل.
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن لا نفرح في صفوفنا بالهازلين:
المضيعين لأوقاتهم المفرطين في المزاح المنغمسين في الملهيات.
نريد رجالا أشداء لا ينثنون للريح، يشقون الطريق بعزم وجد، لا تلهيهم كرة، ولا يضيعهم تلفاز ولا هراء، وقتهم أعظم وأثمن من أن يضيع في مثل هذه الترهات.
نريد من يأخذ الحياة بجد، فالحياة الحقيقية للشجعان الأقوياء العاملين، ولا مكان فيها للكسالى والتنابلة والبطالين والمتخاذلين.
نريد من يشق طريقه معتمدا على الله بعيدا عن التفكير الهامشي السافل، التفكير في الشهوات، التفكير في الملهيات، والركض ورائها والتفكير المادي المنحط.
نريد شباب يتربى على معالي الأمور، ويترفع عن سفاسف الأمور ليكونوا ممن قيل فيهم:
شباب ذللوا سبل المعالي........ وما عرفوا سوى الإسلام دين
إذا شهدوا الوغى كانوا حماة.... يدكون المعاقل والحصون
وإن جن المساء فلا تراهم........ من الإشفاق إلا ساجدين
شباب لم تحطمه الليالي......... ولم يسلم إلى الخصم العرين
وما عرفوا الأغاني مائعات...... ولكن العلا صيغة لحون
ولم يتشدقوا بقشور علم....... ولم يتقلبوا في الملحدين
ولم يتبجحوا في كل أمر....... خطير كي يقال مثـقفون
كذلك أخر الإسلام قومي...... شبابا مخلصا حرا أمين
وعلمه الكرامة كيف تبنى........ فيأب أن يذل وأن يهون
أين نجد هؤلاء الشباب ؟
نجد هؤلاء في المسارح، أعلى المدرجات، أعلى الأرصفة ؟
لا... إنما نجدهم في حلقات العلم والتعلم، في بيوت الله، في الأمر والنهي.
فلتأخذ الحياة بجد، ولتعد الأنفس ليوم الشدائد، فما ندري ما المرحلة القادمة.
يا رقد الليل مسرورا بأوله...... إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
كيف يرجو من به كسل....... نيل ما قد ناله الرجل
من يريد العز يطلبه............. في دروب ما به سهل
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن النفس البشرية كالطفل تماما:
إن هذبتها وأدبتها صلحت واستقامت، وإن أهملتها وتركتها خابت وخسرت، بل هي كالبعير إن علفتها وغذيتها بالمفيد سكنت وثبتت واطمأنت وخدمت، وإن تركتها صدت وندت وشردت.
النفس بطبيعتها تميل إلى الشهوات والملذات والهوى، وتأمر بالسوء والفحشاء، وإذا لم يقيدها وازع دين عظيم تنقاد إلى السقوط والهلاك.
والنفس كالطفل إن تهمله شب على .......حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
فخالف النفس والشيطان واعصهما........ وإن هما محضاك النصح فاتهمي
وإصلاح نفسك بما يكون أيها الحبيب ؟
بالمجاهدة: )وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ). يقول ثابت البناني عليه رحمة الله:
تعذبت في الصلاة عشرين سنة، يجاهد نفسه عشرين سنة ليصلي لله في بيوت الله، قال ثم تنعمت بها عشرين سنة أخرى، والله إني لأدخل في الصلاة فأحمل هم خروجي منها.
وأعظم المجاهدة مجاهدة النيات، فإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا.
يقول أحد السلف، ما من شيء فعلته صغر أو كبر إلا وينشر له ديوانان، لما وكيف.
لما فعلت ؟، ما علت الفعل وما باعث هذا الفعل؟ هل هو لحظ دنيوي، لجلب نفع لدفع ضر، أم لتحقيق العبودية لله وابتغاء الوسيلة إليه سبحانه وبحمده.
هل فعلت هذا الفعل لمولاك أم لحظك وهواك.
وكيف فعلت هذا الفعل؟ هل الفعل وفق ما شرعه الله ورسوله، أم ليس عليه أمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) القائل: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد).
فأعظم ما يربي النفس مجاهدة النية.
يقول سفيان الثوري : ما عالجت شيئا أشد علي من نيتي.
يا نفس أخلصي تتخلصي، إخلاص ساعة نجاة الأبد ولكن الإخلاص عزيز، وطوبى لمن صحة له خطوة يراد بها وجه الله.
هاهو أبن الجوزي عليه رحمة الله الذي لطالما جاهد نيته، تحل به سكرات الموت فيشتد بكائه ونحيبه، فيقول جلاسه: يا إمام أحسن الظن بالله، ألست من فعلت ومن فعلت.
قال والله ما أخشى إلا قول الله: ) وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ).
)وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ).
أخشى أن أكون فرطت وخلطت ونافقت فيبدو لي الآن ما لم أكن أحتسب، وتبدو لي سيئات ما كسبت.
وهو الذي يقول عن نفسه كما في صيد الخاطر:
قد تاب على يدي في مجالس الذكر أكثر من مائتي ألف، وأسلم على يدي أكثر من مائتي نفس، وكم سالت عيني متجبر بوعظي لم تكن تسيل، ويحق لمن تلمح هذا الإنعام أن يرجو التمام، ولكم اشتد خوفي إلى تقصيري وزللي، لقد جلست يوما واعظا فنظرت حوالي أكثر من عشرة آلاف ما منهم من أحد إلا رق قلبه أو دمعت عينه، قال فقلت في نفسي:
كيف بك يا بن الجوزي إن نجى هؤلاء وهلكت، كيف بك يا ابن الجوزي إن نجى هؤلاء وهلكت، ثم صاح إلهي ومولاي وسيدي إن عذبتني غدا فلا تخبرهم بعذابي لأن لا يقال عذب الله من دعا إليه، عذب الله من دل عليه.
إلهي وأنت أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين لا تخيب من علق أمله ورجائه بك، وخضع لسلطانك، دعا عبدك إلى دينك ولم يكن أهلا لولوج باب رحمتك، لكنه طامع في سعة جودك ورحمتك أنت أهل الجود والكرم.
فأخلصوا تتخلصوا، طوبى لم صحت له خطوة يراد بها وجه الله تعالى.
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن كثيرا من الناس محاضن خالدة لتربية الأجيال:
ولبعضهن مواقف مشرفة تصلح نبراسا وأنموذجا لفتياتنا وأمهاتنا وأخواتنا في وقت أصبحت مصممة الأزياء والممثلة والراقصة والفنانة العاهرة الفاجرة هي القدوة وهي الأسوة إلا عند من رحمهن الله سبحانه.
فإليكم بعض النماذج:
هاهي صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها، يتوفى عنها زوجها ويترك له أبنا هو الزبير رضي الله عنه، فنشأته نشأة الخشونة وربته على الفروسية والحرب، وجعلت لعبه في بري السهام وإصلاح القسي، ودأبت على قذفه في كل مخوفة، وتقحمه في كل حط، فإذا أحجم ضربته ضربا حتى أنها عوتبت من بعض أعمامه حيث قال لها إنك تضربينه ضرب مبغضة لا ضرب أم، قالت مرتجزة:
من قال قد أبغضته فقد كذب.... وإنما أضربه لكي يلب .....ويهزم الجيش ويأتي بالسلب.
آمنت بالله جل وعلا، وصدقت برسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وهاجرت مع من هاجر وهي تخطو إلى الستين من عمرها، وفي أحُد جاهدت مع أبن أخيها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وجاهدت مع أخيها حمزة رضي الله عنه، ومع ابنها الزبير رضي الله عنه، ذرية بعضها من بعض.
فلم انكشف المسلمون في أحد كما تعلمون هبت هذه المرأة كاللبؤة وانتزعت رمحا من أحد المنهزمين وانقضت تشق الصفوف وتزأر في المسلمين كالأسد وتقول ويحكم أتفرون عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
ويراها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فيقول لأبنها الزبير :
ردها فإن أخاها حمزة قد مثل به المشركون.
فقال لها ابنها إليك يا أماه، قالت تنحى عني لا أم لك، أتفر عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
قال إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يأمرك أن ترجعي.
وقد كانوا وقافين عند أمر الله وأمر رسوله- قالت الأمر أمر الله وأمر رسوله (صلى الله عليه وسلم).
توقفت وقالت ولما يردني رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، إنه قد بلغني أنه قد مثل بأخي وذلك قي ذات الله، وذلك في سبيل الله، والحمد لله.
فقال (صلى الله عليه وسلم) لأبنها خلي سبيلها، فخاضت المعركة حتى انتهت.
ولما وضعت الحرب أوزارها، وقفت على حمزة أخيها وقفت العظماء، وقد بقر بطنه وأخرجت كبده، وجدع أنفه، وقطعت أذناه، وشوه وجهه، فاستغفرت له وجعلت تقول:
إن ذلك في ذات الله، إن ذلك لفي ذات الله وقد رضيت بقضاء الله، دموعها تذرف وقلبها يلتهب:
وليس الذي يجري من العين مائها....... ولكنها روح تسيل فتقطر
تقول الأصبرن واحتسبن إن شاء الله، الأصبرن واحتسبن إن شاء الله.
هذا موقف من مواقف صفية، وموقف آخر لا يقل عن هذا الموقف، في يوم الخندق تركها النبي (صلى الله عليه وسلم) مع نساء المسلمين في حصن حسان وهو من أمنع الحصون هناك، وجاء اليهود فأرسلوا واحدا ليرى هل أبقى الرسول (صلى الله عليه وسلم) حماة للنساء والذراري في هذا الحصن أم لم يبقي أحدا، فرأت ذلك اليهودي يتسلل إلى الحصن، فما كان منها إلا أن نزلت عليه بعامود فضربته أولى وثانية وثالثة حتى قتلته، ثم احتزت رأسه ثم طلعت به إلى أعلى الحصن ثم رمت برأسه فإذا هو يتدحرج بين أيد اليهود، فقال قائل اليهود قد علمنا أن محمدا لم يترك النساء من غير حماة.
فرحم الله صفية رحمة واسعة فقد كانت مثلا فذا للأم المربية المسلمة، ربت وحيدها وصبرت على أخيها، وكانت أول امرأة قتلت مشركا في الإسلام فرحمها الله رحمة واسعة، وأخرج من أصلاب هذه الأمة نساء كتلك المرأة، بل رجالا كصفية.
وهاهي ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، تلكم المرأة التي حظيت بموقف لم تحظى به امرأة قبلها ولا بعدها وهي خدمة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في طريق الهجرة في الغار.
ثم أنظر إلى تلك المرأة في أواخر سني عمرها، في أحلك المواقف وقد بلغت السابعة والتسعين، أبنها يحاصر في الحرم، ويصبح في موقف حرج، فيذهب مباشرة إلى أمه يستشيرها في الموقف وماذا يفعل.
فقالت تلكم المؤمنة الصابرة:
أنت أعلم بنفسك إن كنت تعلم أنك على حق وتدعو إلى الحق فأصبر عليه حتى تموت في سبيله، وإن كنت تريد الدنيا فلبأس العبد أنت أهلكت نفسك ومن معك.
قال يا أماه والله ما أردت الدنيا، وما جرت في حكم وما ظلمت وما غدرت والله يعلم سريرتي، وما في قلبي، فقالت الحمد لله وإني لأرجو الله أن يكون عزائي فيك حسنا إن سبقتني إلى الله.
تعانقا عناق الوداع، ثم قالت:
يا بني اقترب حتى أشم رائحتك، وأضم جسدك، فقد يكون هذا آخر العهد بك0.
فأكب على يديها ورجليها ووجهها يلثمها ويقبلها دموع تشتبك في دموع، وهي تتلمس أبنها وهي عمياء لا ترى، ثم ترفع يدها وهي تقول ما هذا الذي تلبسه؟
قال درعي، قالت يا بني ما هذا لباس من يريد الشهادة في سبيل الله، انزعه عنك فهو أقوى لوثبتك وأخف لحركتك، وألبس بدلا منه سراويل مضاعفة حتى إذا صرعت لم تنكشف عورتك.
فنزع درعه وشد سراويله ومضى إلى الحرم لمواصلة القتال وهو يقول لا تفتري عن الدعاء يا أماه.
فرفعت كفها قائلة اللهم أرحم طول قيامه، وشدت نحيبه في سواد الليل والناس نيام، اللهم أرحم جوعه وظمئه في هواجر مكة والمدينة، اللهم إني قد أسلمته لك ورضيت بما قضيت فيه، فأثبني فيه ثواب الصابرين.
ويذهب أبنها وبعد ساعة من الزمن انقضت في قتال مرير غير متكافئ تلقى أبنها عبد الله ضربة الموت ليلقى الله عز وجل، ليس هذا فحسب بل يصلب جثمانه كالطود الشامخ في الحجون.
علو في الحياة وفي الممات...... بحق أنت إحدى المكرمات
كأنك واقف فيهم خطيبا...... وهم وقفوا قياما للصلاة.
وتسمع الأم الصابرة ذات السبع والتسعين سنة العمياء البصيرة، وتذهب إلى ولدها المصلوب تتلمس حتى تصل، فتأتي فإذا هو الطود الشامخ، تقترب منه وتدعو له، وإذ بقاتله يأتي إليها في هوان وذلة ويقول:
يا أماه إن الخليفة أوصاني بك خيرا.
فتصيح به لست لك بأم، أنا أم هذا المصلوب وعند الله تجتمع الخصوم.
ويتقدم أبن عمر رضي الله عنه معزيا لها ومواسيا لها، فيقول اتقي الله واصبري، فتقول له بلسان المؤمنة الواثقة بموعود الله:
يا ابن عمر ماذا يمنعني أن أصبر وقد أهدي رأس يحي ابن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل.
أريتم ما أعظم الأم وما أعظم الابن وما أعظم الأب.
سلام على ذات النطاقين، وسلام على ابن الزبير، وسلام على الزبير، وسلام على أبي بكر، وسلام على صحابة رسول الله، وسلام على أمهات المؤمنين.
النساء محاضن الرجال، بصلاحهن يصلح الجيل، وبفسادهن يفسد الجيل، ولو استطردنا في الأمثلة لوجدنا أمثلة كثيرة يعجز الرجال أن يقفوا تلك المواقف ناهيك عن النساء.
فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وسلم) تتزوج علي رضي الله عنه، تجر بالرحى حتى تأثر الرحى في يدها، وتستقي في القربة حتى أثرت في نحرها، وتقم البيت، وتوقد النار، وتربي أبنائها فيكون من أبنائها الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، هي بنت من ؟ هي أم من؟ هي زوج من؟
من ذا يساوي في الأنام علاها ؟
أما أبوها فهو أكرم مرسل........ جبريل بالتوحيد قد رباها
وعلي زوج لا تسل عنه سوى..... سيف غدا بيمينه تياها
فلو كان النساء كمن ذكرنا....... لفضلت النساء على الرجال
وما التأنيث لأسم الشمس عيب... وما التذكير فخر للهلال
آن للنساء أن يقتدين بالطهر والعفة والفضيلة، بصفية وأسماء وعائشة وفاطمة.
فالأم مدرسة إذا أعددتها..... أعددت شعبا طيب الأعراق
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن الدهر دول والأيام قلب لا تدوم على حال:
) وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ).
الدنياً غرارةُ خداعةُ إذا حلت أوحلت، وإذا كست أوكست، وإذا جلت أوجلت، وكم من ملك رفعت له علامات فلما علا مات.
هي الأقدارُ لا تبقي عزيزا ........ وساعاتُ السرورِ بها قليلة
إذا نشر الضياءَ عليك نجمُ ........ وأشرقَ فأرتقب يوما أفوله
فيومُ علينا ويومُ لنا ......... ويومُ نساءُ ويومُ نسر
الأمرُ جدُ وهو غيرُ مزاح.............. فأعمل لنفسك صالحا ياصاح
كيف البقاءُ مع اختلافِ طبائعٍ......... وكرورُ ليلٍ دائمٍ وصباح
تجري بنا الدنيا على خطرٍ كما.......... تجري عليه سفينةُ الملاح
تجري بنا في لجِ بحرٍ ماله................ من ساحلٍ أبدا ولا ضحضاح
فاقضوا مئارَبكم عجالا إنما..............أعمارُكم سفرُ من الأسفار
وتراكضوا خيل الشباب وبادروا..........أن تسترد فإنهن عوار
الدهر يومان ذا أمن وذا خطر........ والعيش عيشان ذا صفو وذا كدر
أما ترى البحر يعلو فوقه جيف.......وتستقر بأقصى قاعه الدرر
وفي السماء نجوما لا عداد لها....... وليس يكسف إلا الشمس والقمر.
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن ميت الأحياء من لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن منكر:
)لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ). ويقول (صلى الله عليه وسلم): (لتأمرن بالمعروف ولتنهأن عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه وتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم يلعنكم كما لعنهم).
(لتأمر بالمعروف ولتنهأن عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لكم).
(لتأمرن بالمعروف ولتنهأن عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم من لا يرحم صغيركم ولا يوقر كبيركم).
كم من ميت هو حي بأعماله، بأمره ونهيه بعلمه وعمله، وكم حي ميت يرى المنكر فلا يهزه:
يا رب حي رخام القبر مسكنه....... ورب ميت على أقدامه انتصب
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن العصا أداة للتقويم والتربية والإصلاح:
إذا صاحبتها يد حانية ولسان هادئ وقلب رحيم، العصا أداة نافعة متى ما وجدت من يستخدمها بحكمة ولطف، متى ما وضعت في موضعا أفادت كالدواء تماما.
إننا نريد العصا حين نستنفذ كل سبيل للعلاج وعنده آخر الدواء الكي، ومن الكير يخرج الذهب.
وقسا ليزدجروا ومن يكو حازما...... فليقس أحيانا على من يرحم
وهي كذلك أداة لتوكأ والهش على الغنم وفيها مآرب أخرى، وإن للخير سبل، وكم من مريد للخير لا يدركه، وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن لكل بداية في الدنيا نهاية:
ولكل شمل مجتمع فرقة، ولكل نعيم انقطاع:
إذا تم شيء بدأ نقصه............ ترقب زوالا إذا قيل تم
بينما المولود يولد ويفرح به ويؤذن في أذنه، إذ به بعد وقت ليس بالطويل يحمل ليصلى عليه ما كأنه ضحك مع من ضحك، ولا كأنه فرح مع من فرح، ولا كأنه استبشر مع من استبشر، فكأن حياته ما بين آذان وصلاة، ولا إله إلا الله ما أقصرها من حياة.
آذان المرء حين الطفل يأتي......... وتأخير الصلاة إلى الممات
دليل أن محياه يسير ............... كما بين الآذان إلى الصلاة
بينما الإنسان في أهله في ليلة آمنا مطمأنا فرحا يخبر عن غيره، إذ به في ليلة أخرى وحيدا فريدا لا مال ولا ولد ولا أنيس ولا صاحب سوى العمل، وإذا به خبر يخبر به.
بينا يرى الإنسان فيها مخبرا........فإذا به خير من الأخبار
بينما الطبيب يعالج من مرض إ به يصاب بنفس المرض، فلا طبه ينفعه، ولا دواءه يرفعه، وإذ به يلقى ما لقي غيره على يديه وحال الناس:
مال الطبيب يموت في الداء الذي..........قد كان يبرأ مثله في ما مضى
مات المداوي والمداوى والذي............جلب الدواء وباعه ومن اشترى
ما أنت والله إلا كقطعة ثلج تذوب ثم تذوب حتى تتلاشى وكأن لم تكن:
سيصير المرء يوما.....جسدا ما فيه روح
نح على نفسك يا.....مسكين إن كنت تنوح
لست بالباقي ولو.....عمرت ما عمر نوح
فأنتبه من رقدت..........الغفلة فالعمر قصير
واطّرح سوف وحتى.....فهما داء دخيل
واتقي الله وقصر أملا...ليس في الدنيا خلود للملأ
الموت لنا بالمرض ...... إن لم يفاجئ اليوم فاجئ في غد
الموت باب وكل الناس سيدخلون من هذا الباب، ومن باب إلا وبعده دار.
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها....... إلا الذي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه.......... وإن بناها بشر خاب بانيها
كتب الموت على الخلق فكم......... فل من جيش وأفنى من دول
أين نمرود وكنعان ومن ............. ملك الأرض وولى وعزل
أين من سادوا وشادوا وبنوا......... هلك الكل ولم تغني الحيل
أين أرباب الحجى أهل التقى......... أين أهل العلم والقوم الأول
سيعيد الله كل منهم................. وسيجزي فاعلا ما قد فعل
هل شاهدت محتضرا في شدة سكراته ونزعاته ؟، هل تأملت صورته بعد مماته ؟، هل تذكرت أنك صائر إلى ما صار إليه، وذائق ما ذاقه من آلام الموت وكرباته ؟
هل تذكرت ذلك فاستعديت لتلك اللحظات العصيبة فزدت في عملك وزدت في اجهاد نفسك واجتهادك.
هاهو الحسن عليه رحمة الله يدخل على يعوده فيجده في سكرات الموت، فينظر إلى كربه وإلى شدة ما نزل به فيرجع إلى أهله حزينا كئيبا بغير اللون الذي خرج به من عندهم، فقالوا له:
يا إمام الطعام يحرمك الله، قال يا أهلاه عليكم بطعامكم وشرابكم فو الذي نفسي بيده لقد لقيت مصرعا لا أزال أعمل له حتى ألقاه.
فمثل لنفسك يا عبد الله وقد حلت بك السكرات، ونزلت بك الغمرات، وابنتك تبكيك الأسيرة وتتضرع وتقول من ليتمي بعدك ؟
وابنك ينظر ما يتعجل من اليتم بعدك ويقول من لحاجتي أبتاه ؟، وأنت تسمع فلا ترد الجواب.
هل رأيت جنازة محمولة على الأكتاف لتوارى في التراب، ثم تسألت عن حالها ما حالها.
في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد قالَ قال (صلى الله عليه وسلم):
(إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقها، إن كانت صالحت قالت قدموني قدموني، وإن كانت غير ذلك قالت يا ويلها أين تذهبون بها، يا ويلها أين تذهبون بها، يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعه لصعق).
تصرخ صرخات تقض المضاجع، فهل مثلت لنفسك أنك المحمول، ما حالنا لو احتملنا جنازة ثم صرخت تلك الصرخات، يا ويلها أين تذهبون بها، والله لصعقنا ولما حملنا جنازة أبدا، وهذا ما خشيه علينا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم قال كما في صحيح مسلم:
(لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع).
فخيل لنفسك يا ابن آدم إذا أخذت من فراشك إلى لوح مغتسلك فغسلك الغاسل
وألبست الأكفان وأوحش منك الأهل والجيران، وبكى عليك الأصحاب والأخوان، فما ينفع البكاء وما ينفع العويل وما ينفع إلا ما قدمت من صالح الأعمال.
هاهو يزيد الرقاشي عليه رحمة الله يحضر عابدا قد حضرته الوفاة وحوله أهله يبكون فقال لوالده أيها الشيخ ما الذي يبكيك ؟
قال أبكي فقدك وما أرى من جهدك.
فبكت أمه فقال أيتها الوالدة الشفيقة الرفيقة ما الذي يبكيك؟
قالت فراقك وما أتعجل من الوحشة بعدك.
فبكى صبيانه وأهله وزوجه قال يا معشر اليتامى ما الذي يبكيكم؟
قالوا نبكي ما نتعجله من اليتم بعدك.
فما كان منه إلا أن صرخ وقال كلكم يبكي لدنياي، أما فيكم من يبكي لآ لا ةخرتي، أما فيكم من يبكي لملاقاة التراب وجهي، أما فيكم من يبكي لسؤال منكر ونكير إياي، أما فيكم من يبكي لوقوفي بين يدي الله ربي، ثم صرخ صرخة عظيمة شهد بعدها أن لا إله إلا الله ليلحق بالله عز وجل.
أيها المسلم هل نظرت إلى القبور؟
ما نظر عبد لها إلا انكسر قلبه، وكان أبرأ ما يكون من القسوة والغرور، ما حافظ عبد على زيارة المقابر مع التفكر والتدبر إلا رق قلبه وذرفت عيناه إذ يرى فيها الأباء والأمهات والأصحاب والأخوان والأخوات، يرى منازلهم ويتذكر أنه قريبا سيكون بينهم، وأنهم جيران لبعضهم قد انقطع التزاور بينهم مع الجيرة وحيل بينهم وبين ما يشتهون.
قد يتدانى القبران وبينهما ما بين السماء والأرض نعيما وجحيما.
ما تذكر عبد هذه المنازل إلا رق قلبه من خشية الله، ولا وقف على شفير قبر فرآه محفورا فهيأ نفسه أن لو كان صاحبه إلا رق قلبه، ولا وقف على شفير قبر فرأى صاحبه يدلى فيه فسأل نفسه على ماذا أغلق؟
على نعيم أم على جحيم، على مطيع أم على عاص إلا رق قلبه.
فلا إله إلا الله، هو العالم بأحوالهم، هو الحكم العدل الذي يفصل بينهم، ألا فتذكر هادم اللذات، وتذكر القبر والعظام النخرات ليهتز قلبك خشية من الله فتنيب إليه إنابة الصادق الخاشع الذليل.
هاهو أبن عوف رضي الله عنه يقول: خرجت مع عمر رضي الله عنه فلما وقفنا على مقبرة البقيع وكنت قابضا على يده فأختلس يده من يدي، ثم وضع نفسه على قبر فبكى بكاء طويل.
فقلت ما لك يا أمير المؤمنين ؟
قال يا ليت أم عمر لم تلد عمر، يا ليتني كنت شجرة، أنسيت يا ابن عوف هذه الحفرة، قال فأبكاني والله.
فالله المستعان على تلك اللحود الضيقات، والله المستعان على تلك اللحظات الحرجات.
هاهو (صلى الله عليه وسلم) كما في المسند من حديث البراء، أنه رأى أناسا مجتمعين فسأل عن سبب اجتماعهم، فقيل على قبر يحفرونه ففزع (صلى الله عليه وسلم) وذهب مسرعا حتى انتهى إلى القبر، ثم جثا على ركبته وبكى طويلا ثم أقبل على الناس وهو يقول:
يا إخواني لمثل هذا فأعدوا، يا إخواني لمثل هذا فأعدوا.
فهلا أعددنا أنفسنا لتلك اللحود الضيقات، إنه القائل (صلى الله عليه وسلم) كما في حديث أبي ذر:
(إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تأط ما فيها موضع أربع أصابع إلا ومالك واضع جبهته ساجد أو راكع، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله، (وفي رواية المنذر)، ولحثوتم على رؤوسكم التراب).
والله لو علمن حق العلم لقام أحدنا حتى ينكسر صلبه، ولصاح حتى ينقطع صوته،الأمر خطير جد خطير:
يا نفس قد أزف الرحيل وأظلك الخطب الجليل..... فتأهبي يا نفس لا يلعب بك الأمل الطويل
فلتنزلن بموضع ينسى الخليل به الخليل.............. وليركبن عليك من الثرى حمل ثقيل
قرن الفناء بنا فلا يبقى العزيز ولا الذليل
خالف هواك إذا دعاك لريبة.......... فلرب خير في مخالفة الهوى
حتى متى لا ترعوي يا صاحبي........ حتى متى ولا ترعوي و إلى متى
علمتني الحياة في ظل العقيدة :
أن من خدم المحابر خدمته المنابر، وكم من سراج أطفأته الريح وكم من عبادة أفسدها العجب.
وأن وضع الندى في موضع السيف في العلا... مضر كوضع السيف في موضع الندى.
وأن من أراد أمير كأبي بكر فليكن كخالد وسعد.
وأن سوف جندي من جنود إبليس.
وأن معظم النار من مستصغر الشرر
وأن الحق لا بد أن تحرسه قوة.
وأنه بالشكر تدوم النعم
وأن من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل.
وأن النار من بري العودين تذكى... وأن الحرب مبدأها كلام
وأن ثمن العزة قد يكون قطرة دم.
وأن الجواد قد يكبو، وأن الصارم قد ينبو.
وأن النار قد تخبو.
وأن الإنسان محل النسيان.
وأن الحسنات يذهبن السيئات، ذلك ذكرى للذاكرين.
وأخيرا علمتني الحياة في ظل العقيدة أن أعظم سلاح بأيدي المؤمنين هو الدعاء:
سهام الليل لا تخطئ ولكن...... لها أمد و للأمد انقضاء
لا تسألن بُني آدم حاجة........ واسأل الذي أبوابه لا تحجب
الله يغضب إن تركت سؤاله.... وبني آدم حين يسأل يغضب
سلاح عظيم غفل عنه المؤمنون، لن يهلك معه أحد بأذن الله، إنه الدعاء، الالتجاء إلى رب الأرض والسماء: )وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ).
)وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ).
يقول ابن كثير عليه رحمة الله:
كان بقي ابن مخلد أحد الصالحين الأخيار عابدا قانتا خاشعا أتته امرأة صالحة فقالت:
يا بقي إن ابني أسره الأعداء في أرض الأندلس وليس لي من معين بعد الله إلا ابني هذا فسأل الله أن يرد علي ابني وأن يطلقه من أسره.
فقام وتوضأ ورفع يديه إلى الحيي الكريم الذي يستحي أن يرد يد العبدين صفرا خائبتين سبحانه وبحمده، دعا الله عز وجل أن يفك أسر ابنها، وأن يجمع شملها بابنها، وأن يفك قيده.
وبعد أيام وإذ بابنها يأتي من أرض الأندلس، فتسأله أمه ما الذي حدث ؟
قال في يوم كذا في ساعة كذا، وهي ساعة دعاء بقي، سقط قيدي من رجلي فأعادوه فسقط، الحموه فسقط فذعروا ودهشوا وخافوا وقالوا أطلقوه، قالت فعلمت أن ذلك بدعاء صالح من عبد صالح.
)أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ).
الدعاء الدعاءَ هو العبادة.
هاهو صلة ابن أشيم كان في غزوة فمات فرسه، فتلفت يمينا وشمالا ثم قال:
اللهم لا تجعل لمخلوق علي منة فأني استحي من سؤال غيرك.
وعلم الله صدقه في سرائه وضرائه فأحي الله عز وجل له فرسه.
فركبه حتى إذا وصل أهله قال لغلامه فك السرج فإن الفرس عارية، فنزع السرج فهبط الفرس ميتا.
ولا عجب فمن توكل على الله ومن التجأ إلى الله أجاب دعائه وحفظه ولو كادته السماوات والأرض لجعل الله له من ذلك فرجا ومخرجا.
فمرة أخرى إذا ادلهمت الخطوب.
وضاقت عليك الأرض، وقل الناصر.
وزمجر الفساد، ودعم الباطل، وكبت الحق.
وعير البخيل الكريم، وعير العيي الفصيح، وعير الظلام الشمس.
وطاولت الأرض السماء سفاهة...... وفاخرت الشهب الحصى والجنادل
وتمنط كل جبان، وتخلى الأمناء، ورفع السفهاء، وتظاهر بالوفاء كل خوان.
ونطق الرويبضة، وغدى القرد ليثا وأفلتت الغنم فأرفع يديك إلى من يقول:
)وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ).
يا من أجبت دعاء نوح فأنتصر...... وحملته في فلكك المشحون
يا من أحال النار حول خليله........ روحا وريحانا بقولك كون
يا من أمرت الحوت يلفظ يونسا..... وسترته بشجيرة اليقطين
يا رب إنا مثلهم في كربة........... فأرحم عبادا كلهم ذي النون
اللهم إنا نسألك في هذه الساعة المبارك باسمك الأعظم الذي إذا سألت به أعطيت، وإذا استرحمت به رحمت، وإذا استفرجت به فرجت، أن تجيرنا من النار، وأن ترزقنا اللسنة ذاكرة، وقلوبا خاشعة، وأعينا مدرارة، وإيمانا نجد حلاوته يوم أن نلقاك.
رباه إن حالنا لا يخفى عليك، وذلنا ظاهر بين يديك، والمسلمون عبيدك وبنو عبيدك وحملة كتابك وأتباع رسولك يرجون رحمتك ويخشون عذابك.
اللهم الطف بنا، اللهم الطف بنا، اللهم ارحمنا.
رباه لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
يا مغيثا لمن لاذ بحماه، يا قريبا لمن دعاه، يا معيذا من استعاذ به أجرنا من النار، ومن دار الخزئ والبوار.
اللهم إن أردت بعبادك فتنة فأقبضنا إليك غير مفرطين ولا مفتونين.
نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يتوفنا مسلمين وأن يلحقنا بالصالحين، وأن يجعلنا من عباده المتقين الفائزين.
اللهم وأجعل ما قلناه خالصا لوجهك الكريم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
تم الكلام وربنا محمود....... وله المكارم والعلا والجود
وعلى النبي محمد صلواته..... ما ناح قمري وأورق عودفضيلة الشيخ / علي عبد الخالق القرني