وهذا دأب كثير من الناس سواء في أحاديثهم ومنتدياتهم ، أو في مطالباتهم
وخصوماتهم ، فتراه يتجادلون ويتمارون عند كل صغيرة وكبيرة .
لا لجلب مصلحة ، ولا لدرء مفسدة ، ولا لهدف الوصول إلى الحق والأخذ به ،
وإنما رغبةً في اللدد والخصومة ، وحبَّاً في التشَّفي من الطرف الآخر .
ولهذا تجد الواحد من هؤلاء يُسَفِّه صاحبه ، ويرذل رأيه ، ويرد قوله .
فلا يمكن – والحالة هذه – أن يصل المتجادلون إلى نتيجة طالما أن الحق ليس
رائدَهم ومقصودَهم .
وإذا الخصمان لم يهتديا *** سُنَّةَ البحثِ عن الحق غبر
فالجدال والمراء على هذا النحو مجلبة للعداوة ، ومدعاة للتعصب ، ومطية لاتباع
الهوى .
بل هو ذريعة للكذب , والقولِ على الله بغير علم خصوصاً إذا كان ذلك في مسائل
الدين , وهذا أقبح شيء في هذا الباب .
قال الإمام النووي – رحمه الله - :
( مما يذم من الألفاظ المراء , والجدال , والخصومة ).
قال الإمام أبو حامد الغزالي :
المراء طعنك في كلام الغير لإظهار خلل فيه , لغير غرض سوى تحقير قائله وإظهار
مزيتك عليه .
قال :
وأما الجدال فعبارة عن أمر يتعلق بإظهار المذاهب وتقريرها .
قال وأما الخصومة فلجاج في الكلام , ليستوفي به مقصوده من مال أو غيره .
وتارة يكون ابتداء ً, وتارة يكون اعتراضاً , والمراء لا يكون إلا اعتراضاً
هذا كلام الغزالي )
ثم قال الإمام النووي :
( واعلم أن الجدال قد يكون بحق , وقد يكون بباطل , قال الله تعالى : ( وَلَا
تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وقال تعالى :
( مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا )
فإن كان الجدالُ الوقوفَ على الحق وتقريره كان محموداً , وإن كان في مدافعة
الحق , أو كان جدالاً بغير علم كان مذموماً .
وعلى هذا التفصيل تنزيل النصوص الواردة في إباحته وذمه )
ثم قال – رحمه الله- :
( قال بعضهم : ما رأيت شيئاً أذهب للدين , ولا أنقصَ للمروءة , ولا أضيع
لِلَّذة , ولا أثقل للقلب من الخصومة .
فإن قلت لابد للإنسان من الخصومة , لاستبقاء حقوقه – فالجواب ما أجاب به
الإمام الغزالي أن الذم المتأكد إنما هو لمن خاصم بالباطل أو بغير علم ,
كوكيل القاضي , فإنه يتوكل في الخصومة قبل أن يعرف أن الحق في أي جانب هو
فيخاصم بغير علم .
ويدخل في الذم –أيضاً- من يطلب حقه , لكنه لا يقتصر على قدر الحاجة , بل يظهر
اللدد والكذب , للإيذاء والتسليط على خصمه .
وكذلك من خلط بالخصومة كلمات تؤذي , وليس إليها حاجة في تحصيل حقه .
وكذلك من يحمله على الخصومة محض العناد , لقهر الخصم وكسره , فهذا هو المذموم
.
وأما المظلوم الذي ينصر حجته بطريق الشرع من غير لدد أو إسراف , أو زيادة
لجاج على الحاجة من غير قصد عناد ولا إيذاء – ففعله هذا ليس حراماً .
ولكن الأولى تركه ما وجد إليه سبيلاً, لأن ضبط اللسان في الخصومة على حد
الاعتدال متعذر .
والخصومة تُوْغِرُ الصدر , وتهيج الغضب , وإذا هاج الغضب حصل الحقد بينهما
حتى يفرح كل واحد منهما بمساءة الآخر , ويحزن بمسرته , ويطلق العنان بعرضه .
فمن خاصم فقد تعرض لهذه الآفات , وأقل ما فيه اشتغال القلب حتى يكون في
صلاتِه , وخاطره معلق بالمحاجة والخصومة , فلا يبقى حاله على الاستقامة .
والخصومة مبدأ الشر , وكذلك الجدال والمراء فينبغي ألا يفتح عليه باب الخصومة
إلا لضرورة لابد منها , وعند ذلك يحفظ لسانه وقلبه من آفات الخصومات )
ولما كان هذا هو شأن الجدال والمراء والخصومة تجنب السلف ذلك , وحذروا منه ,
وورد عنهم آثار هل كثيرة فيه .
قال ابن عباس – رضي الله عنهما - :
( كفى بك ظلماً ألا تزال مخاصماً, وكفى بك إثماً ألا تزال ممارياً )
وقال ابن عباس لمعاوية –رضي الله
عنهما - : هل لك في المناظرة فيما
زعمت أنك خاصمت فيه أصحابي ؟
قال :
وما تصنع بذلك ؟ أَشْغَبُ بك وتشغب بي , فيبقى في قلبك ما لا ينفعك , ويبقى
في قلبي ما يضرك )
وقال ابن أبي الزناد :
( ما أقام الجدلُ شيئاً إلا كسره جدلٌ مثله )
وقال الأوزاعي :
( إذا أراد الله بقوم شراً ألزمهم
الجدل ، ومنعهم العمل )
وقال الصمعي :
( سمعت أعرابياً يقول : من لاحى الرجال وماراهم قلَّتْ كرامته ، ومن أكثر من
شيء عُرِف به )
وأخرج الآجُرِيُّ بسنده عن مسلم بن
يسار – رحمه الله – أنه قال : ( إياكم
والمراءَ ، فإنه ساعةُ جهلٍ العالم ، وبها يبتغي الشيطان زلته )
وأخرج أن عمر بن عبدالعزيز – رحمه
الله – قال : ( من جعل دينه غرضاً
للخصومات أكثر التنقل )
وقال عبدالله بن حسين بن علي – رضي
الله عنهم - : ( المراء رائد الغضب ،
فأخزى الله عقلاً يأتيك بالغضب )
وقال محمد بن علي بن حسين – رضي الله
عنهم - : ( الخصومة تمحق الدين ،
وتنبت الشحناء في صدور الرجال )
وقيل لعبدالله بن حسن بن حسين :
( ما تقول في المراء ؟ قال : يفسد
الصداقة القديمة ، ويحل العقدة الوثيقة . وأقل ما فيه أن يكون دريئة للمغالبة
، والمغالبة أمتن أسباب القطيعة )
وقال جعفر بن محمد – رحمه الله - :
( إياكم وهذه الخصومات ، فإنها تحبط الأعمال )
وقيل للحكم بن عتيبة الكوفي – رحمه
الله - : ( ما اضطر الناس إلى هذه
الأهواء ؟ قال : الخصومات )
وما أجمل قول الشافعي – رحمه الله –
حين قال :
قالوا سكتَّ وقد خوصمتَ قلتُ لهم ***
إن الجوابَ لِبَابِ الشَّرِّ مفتاحُ
والصمت عن جاهلٍ أو أحمقٍ شرفٌ *** وفيه أيضاً لصون العرض إصلاحُ
أما ترى الُأسْدَ تُخشى وهي صامتةٌ *** والكلب يُخسى لعمري وهو نباحُ
من كتاب ( أخطاء في أدب
المحادثة والمجالسة )
الشيخ محمد بن إبراهيم الحمد