ما هو العلاج لظاهرة الشائعات على
شبكة الإنترنت وما هو موقف المسلم من الأخبار التي يقرؤها هنا وهناك وما
يُكتب في ساحات الحوار وخصوصا أن بعضها بشائر وأنباء سارة للمسلمين لكن
المصدر مجهول.
الجواب:
الحمد لله
نعيش اليوم ، واقع كثير من الإشاعات التي تسوق الأماني على شكل أخبار ،
تنشرها مواقع ومنتديات على شبكة الإنترنت؛ لتبثها للناس على أنها بشائر ،
فتتلقفها قلوب الطيبين على أنها حقائق لا تقبل الشك ، جاءت من مصادر موثوقة ،
ولئن ثبت وقوع شيء من ذلك فقد بقي الكثير منه ركاماً من الشائعات يستطيع من
شاء أن يقول لنا : إن هذا إلا اختلاق !
إن المتأمل يدرك أن كثيراً من وسائل الإعلام العالمية ، وتبعاً لذلك العربية
بالغت في تغطية بعض الأحداث ، وتدخلت في تحليلها بطريقة غير موضوعية تنم عن
انحياز سافر ، وفقدان للموضوعية مكشوف ، وتتشفى بالتزيد والتهويل ، وما هو
عنها بغريب ، فإن المصداقية في هذه الوسائل غير متوفرة ، خصوصاً حين تتدخل
عواطفها ورغباتها .
دع عنك أن الموضوعية الإعلامية أصبحت إحدى ضحايا هذه الحرب القائمة وتنكرت
الدوائر الغربية للدروس المثالية التي كانت تلقنها الآخرين .
لكن هذا لا يعني المجادلة في الحقائق المادية ، ولا نكران الأوضاع الحسية
القائمة ، ولا مقابلة ذلك الانحياز السافر بمبالغات وظنون .
وهنا
نقف أمام حقائق نذكر بها أنفسنا ، والخيرين الذين يتلقفون هذه الأخبار
ويبشرون بها غيرهم بنيات طيبة وقلوب سليمة ، ونعظ بها أولئك الذين اختلقوا
هذه الإشاعات وتولوا ترويجها .
(1)
أن علينا أن نكون يقظين في تلقي هذه الأخبار ، وألا يشفع لقبولها ملاقاتها
لرغباتنا وأمانينا، فلنا منهجية في التثبت ينبغي أن تكون مطردة فيما نحب
ونكره، فليس صحيحاً أن نشكك في الخبر المصور من أرض المعركة ، ونثير تساؤلات
الشك والريبة حوله مع أن منتهاه الحسّ، في حين ينشر خبر عبر رسائل الجوالات
مصدره بعض مواقع الإنترنت ، وإذا كان هناك من يتقبل مثل هذه الأخبار، فليعلم
أن الناس لن يصدقوه ، فليحذر أن يجعل نفسه عرضة للتكذيب، وقديما قيل "من تتبع
غرائب الأخبار كُذِّب".
(2)
علينا أن نَحْذر من جهالة المصدر ، وليس خبر أهم من أخبار السنة النبوية ومع
ذلك فليس من منهج المسلمين قبولها من المجاهيل ، ولذا فلا بد من تلقي الأخبار
من مصدر موثوق ، فإن لم يكن موثوقاً فلا أقل من أن يكون معلوماً ، بحيث ينال
شرف الصدق ، وتلحقه معرة الكذب (وبئس مطية الرجل زعموا ) .
(3)
إذا كان هناك من استجازوا اختلاق هذه الإشاعات بأنواع التأولات فإن علينا أن
نرفض جعل أنفسنا رواحل لنقلها ، نُصَدَّقها ثم نُسَوِّقها، (فمن حدث بحديث
يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين) .
(4)
مما يتأوله هؤلاء الذين يختلقون تلك الإشاعات أنها من الكذب في الحرب وهو
مباح، ويتجاهلون ولا يجهلون أن القدر المباح من الكذب في الحرب هو الذي يضلل
الأعداء وليس الذي يُسَوَّق الوهم ويُغَرِر بالمسلمين .
(5)
إذا كنا خسرنا جوانب من المعركة ، فإن علينا ألا نخسر الصدق الذي هو رأس
مالنا في التعامل مع الناس، وسيطول استغراب الناس وعجبهم إذا اكتشفوا أن هذه
الأخبار الكاذبة كانت تنقل إليهم عبر وسيط صالح ، ومن جُرَّب عليه الكذب ، أو
نَقْل الكذب وتَصديقَه فلن يكون محلاً للثقة بعد.
(6)
وكما سيفجع الطيبون فيرتابوا في الراوي الذي كان الصلاح يظهر عليه، لأنه كان
يحدثهم بهذه الأخبار ويؤكدها لهم ، فكذلك سيشمت آخرون، لهم موقف من هؤلاء
الشباب ليقولوا: هذه أخبارهم ، وهذه مصداقيتهم ! وسيجد كل من شَرِق بالصحوة
فرصة في تعميم هذا الخطأ ، ووصف طلائع الصحوة كلَّها بهذا السلوك ، فاللهَ
اللهَ أن نُفَرِّح شامتاً، أو نضع في فم كاشح حجة .
(7)
لئن كان الصدق فضيلة إسلامية ، ومروءة عربية ، فإن الكذب فاحشة حرمها الإسلام
، وأنف منها مشركو العرب حتى قال أبو سفيان – وهو مشرك - (لولا أن يأثر الناس
عليّ كذبا لكذبت عليه) يعني هرقل، فلم يكن يقبل أن يوجد في تاريخه كذبة ولو
كانت على عدوه محمد صلى الله عليه وسلم عند هرقل (ملك الروم) . وإننا نخشى من
التوسع في رواية هذه الإشاعات أن تنجلي حقيقتها بغير ذلك فَيَأْثِرَ الناس
علينا كذباً كثيراً .
(8)
إن اختلاق الإشاعات وسرعة تصديقها مهرب نفسي أمام واقع لا يرضاه المرء ولا
يستريح إليه، وقديماً قال أبو الطيب:
طَـوَى الجزيرةَ حتى جاءني خبرٌ *** فَزِعْــتُ فيه بآمالــــي إلى
الكَذِب
حتـــى إذا لم يدع لي صدقه أمَلاً *** شَرِقْتُ بالدمع حتى كاد يشرقُ
بي
فتجد النفس سلوتها في تكذيب مالا يروق لها و اختلاق الإشاعات وترويجها ، إلا
أنها - في النهاية - ترضخ لسلطان الحقيقة القاهر، ولكن هذه الحيلة النفسية لا
تصلح أن تكون مهرباً لأتباع محمد – صلى الله عليه وسلم – الذي علمهم فضيلة
الصدق وأمرهم بتحريه فقال : " إن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى
الجنة ، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً ، وإن
الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب
ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً ".
(9)
إن تسويف الإحساس بالواقع، والتقنع بأغطية الوهم ، وأعظمها تصديق الشائعات
وترويجها ، سيضاعف فداحة الخسائر وأعظمها خسارة القيم ، ألا وإنَّ الصدق
أعلاها وأغلاها "فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم".
(10)
إن الاعتراف بالحقيقة أولى الخطوات في معالجة الأزمات وتجاوزها ، كما أن
مغالطتها وسترها أعظم أسباب تكريسها وتجديدها ومعاودتها.
(11)
وكما نتواصى بعدم نقل هذه الأخبار ، فإن علينا تبصير من ينقلونها بطيبةٍ وحسن
قصد ، ومواجهتهم بالحقيقة ، وعدم مجاملة المشاعر على حساب العقل والنقل ،
وانتشالهم من قلق المغالطة ، إلى وضوح الحقيقة ، فإن الصدق طمأنينة ، والكذب
ريبة.
(12)
يقول سيد قطب – رحمه الله – (الحقيقة في كل شيء تغلب المظهر في كل شيء حتى لو
كانت حقيقة الكفر).
وبعد
فكم تمنيت ألا يكون الحديث على هذا النحو ، ولكن القذاة في عيني ، وقد آثرت
الصدق في الحديث عن الصدق ، فإن أحب الحديث إلى الله أصدقه ( يا أيها الذين
آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) .
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه
، واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
الشيخ عبد الوهاب بن ناصر الطريري.
(www.islam-qa.com)