يعيش المسلمون اليوم في جميع بقاع الدنيا نهضة إسلامية مباركة،وهي بين
الشباب أكثر،وكما أن لهذه النهضة جوانب إيجابيات كثيرة،وأنها في جملتها أحيت
الأمل بين المسلمين،وتحققت بها-وستحقق بها كذلك-مصالح عظيمة للإسلام
والمسلمين بإذن الله.
إلا أنها-مع ذلك-قد يعتريها ما يعتري البشر من النقص والخلل والتقصير،وهذا
طبيعي يصاحب كل موجات التطور في التاريخ،ولا أدل على ذلك من آخر عهد الصحابة
رضي الله عنهم،فقد صاحب موجات الفتح العارمة التي واكبت الفتح الإسلامي الأول
لبلاد العراق والشام ومصر،حيث دخلت الإسلام أمم وشعوب وقبائل كثيرة كلها
حديثة عهد بجاهلية وكفر؛من العرب والفرس والروم والقبط وغيرهم. فقد صاحب هذه
الموجات نزعات كثيرة من الأهواء والبدع والأحداث الجسام،كالفتنة على الخليفة
الراشد عثمان رضي الله عنه وما أعقبها من فتن،وظهور الفرق الأولى: الخوارج
والشيعة(السبئية) وبدع النساك والعباد،وبدع القدرية،وقد واجه الصحابة رضي
الله عنهم والتابعون وأئمة الهدى وولاة الأمر هذه الظواهر بالحكمة والفقه
والعلم والحلم والحزم والقوة،بحسب مقتضيات الحال.
ومع ذلك فإن هذه الظواهر الشاذة والنزعات البدعية لم تحجب الخير عن
البشرية،فقد صاحب ذلك قيام أعظم حضارة في التاريخ قامت على العلم والجهاد.
وكذلك أمر هذه النهضة الحديثة،فإن وجود النزعات الشاذة بين بعض فصائلها لا
يعني فقدان الأمل فيها بل العكس،ولا يعني أنها لن تؤتي ثمارها،بل إن هذه
الثمار الطيبة قد بدأت بوادرها في كل مكان،لكن ظهورها المفاجئ مع قلة
الموجِّه والناصح،وبُعْد كثير من فئاتها عن توجيه العلماء المباشر،جعلها تعيش
مرحلة حرجة هي أشبه بمرحلة الطفولة والمراهقة والتخبط إلى حد ما،ونحن على ثقة
بإذن الله بأنها ستتجاوز هذه المرحلة إلى الرشد والتعقل،والله غالب على
أمره،ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
إذن فـالواجب على العلماء وطلاب العلم في الأمة أن يسددوا الأمة ويرشدوها
ويوجهوها إلى الخير،وأن يعالجوا الأخطاء التي تنشأ،كما فعل الصحابة والتابعون
وتابعوهم.
ومن هذا المنطلق فإني سأذكر هنا شيئا مما ظهر لي من بعض الأخطاء التي تحدث من
فئات وأفراد وجماعات وتوجهات،من نزعات وسمات تحتاج إلى نظر وتصحيح ومناصحة.
مع العلم أن ذكرها هنا لا يعني الحكم على أصحابها بأنهم أهل أهواء،وأبرأ إلى
الله من أن أتهمهم بذلك،لكنها سمات وظواهر ونزعات وصفات وخصال متفرقة قد لا
توجد مجتمعة عند طائفة بعينها.
كما أني أخشى إن لم تعالج هذه الظواهر ويناصح أهلها أن تتجارى بأصحابها
وتتأصل وتتكاثر،حتى تكون بذوراً للأهواء(لا قدر الله). هذا ولا يحسن بل وليس
من الحكمة أن يدعي المسلم أنه في مأمن من الأخطاء والأهواء كيف لا والنبي صلى
الله عليه وسلم المعصوم كان يقول: "يامقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على
دينك" –صححه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع الصغير(4677).
إذا كان الأمر كذلك فمن ذا الذي سيدعي العصمة ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ،
وحسبنا الله ونعم الوكيل ، اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبنا على دينك
.
أما ما تمكنت من استقرائه من نزعات
وظواهر وسمات متفرقة يلزم التنبه عليها والتحذير من الوقوع بالأهواء ، فأمثل
لها بما يلي:
1-
تصدر حدثاء الأسنان ، وسفهاء الأحلام – أحيانا- لأمور الدعوة إلى الله والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر ، بلا علم ولا فقه ولا تجربة ، ولا رجوع إلى
العلماء وأهل الفقه والتجربة.
2-
هيمنة نزعة الخروج على أذهان بعض الناس ، وكثرة الثرثرة بها وإطلاق الأحكام
فيها ، في حين أنهم ليسوا من أهل الحل والعقد ، ولا من الراسخين في العلم
الذين يعنيهم الأمر شرعاً.
3-
شيوع ظاهرة التكفير والتبديع بلا ضوابط شرعية ، ولا فقه ، ولا تثبيت بما في
ذلك الأحكام على الأشخاص والجماعات والهيئات والأنظمة وغيرها والتفكير
باللوازم .
4- التسرع في إصدار الأحكام والمواقف
بمجرد الشائعات ، والقرائن والظنون ، أو اللوازم ، وأغلب ما يحدث بين أبناء
الأمة الآن من نزعات وخصومات هو من هذا الباب.
5-
البراء من المخالفين في الاجتهاديات التي يسوغ فيها الخلاف ويعذر فيها
المخالف ، وأكثر النزاعات الجارية اليوم بين بعض فئات المسلمين ومنسوبي
الدعوات من أهل السنة من هذا النوع.
6-
الحكم على القلوب ، واتهام النيات ، وتصيد الزلات ، وغمط المخالفين حقهم ، أو
جحد الحق الذي معهم.
7-
كثرة الخصومات والجدال والمراء في الدين ، مع قلة العمل الإيجابي المثمر ، مع
والتعالم والتعالي والغرور واحتقار الآخرين من العلماء ومن دونهم.
8-
الخطأ والجهل في منهج الاستدلال بالنصوص على غير ما تدل عليه وعلى غير قواعد
شرعية ، وإنزال النصوص على غير ما تدل عليه ، والجهل بفهم السلف وتفسيرهم
للأدلة ، وعدم مراعاة قواعد الاستدلال من حيث : العموم والخصوص أو الإطلاق
والتقيد والنسخ نحو ذلك ، وعدم اعتبار قواعد المصالح والمفاسد ونحو ذلك.
9-
الجهل بالعلوم الشرعي وقلة الفقه في الدين ، والتقصير في طلب العلم الشرعي .
10-
أخذ العلم الشرعي على أصوله الشرعية ، وبغير نهج سليم.
11-
أخذ العلم عن غير العلماء ، وتلقيه عن الصغار والمثقفين والمفكرين ، الذين هم
في العلم الشرعي من فصيلة العوام.
12-
فرض الرأي والمواقف على الآخرين ، ومصادرة الرأي المخالف ، ومحاصرته بكل
وسيلة ، إلى حد استباحة الوسائل غير الشرعية لمنع الرأي الآخر . مع العلم أن
أكثر الأمور التي يدور عليها الخلاف بين أهل السنة هي من الاجتهاديات.
كما أن من هذا الصنف من لا يطبق سماع الرأي المخالف وإن كان مما يجوز فيه
الخلاف ، حتى ولو قامت الحجة واستبان الدليل.
13-
سوء الأدب مع العلماء والمشايخ وطلاب العلم الشرعي ، ويتمثل ذلك : بلمزهم
واستنقاصهم أحيانا ، وبإشاعة ما يسىء إليهم وينقص اعتبارهم عند الآخرين ،
ويشحن قلوب الناس ، والشباب والعلوم عليهم ، والجرأة على الطعن فيهم والتشهير
بهم.
14-
سوء الأدب والجفاء – تديناً – مع من يجب أو ينبغي احترامهم وتوقيرهم ،
كالوالدين . والأخوة وكبار السن ، والمعلمين ، والجيران ، والزملاء ، وأهل
الاعتبار من الأمراء والولاة وذوي الهيئات والمسؤولين.
15-
سرعة الاستجابة للفتن ، والتصرفات الغوغائية ، والجمهرة والتداعي عند كل صيحة
دون الرجوع لأهل العلم والحلم والفقه والرأي ، إلا من يوافق هواهم.
16-
استباحة البدع والوسائل المريبة في سبيل تحقيق الهدف.
17-
الولاء والبراء على الأهواء والرغبات ، وما يوافق المواقف لا على الدليل
والسنة.
18-
الخوض في المسائل الكبرى والقضايا الخطرة ومصالح الأمة العظمى التي لا بيت
فيها إلا العلماء المعتبرين ، والراسخون ، وأهل الحل والعقد في الأمة ، مثل
تكفير الأعيان والهيئات ، والخوض في البيعة والخروج ونحو ذلك.
19-
غرس الغل ، وشحن قلوب الناس على المخالفين ، ومن ذلك شحن قلوب الصغار والنساء
والعوام والغوغاء الذين ليس لهم حل ولا عقد ، مما يفسد ذات البين ، ويفتح باب
الغوغائية والفتن التي تفسد الدين ، وتهلك الحرث والنسل.
20-
إهمال جانب المناصحة لولاة الأمور والتخدير عن ذلك ، وتخطئة من يفعله .
21-
إدمان الكلام والثرثرة في مالا شأن للعامة فيه من السياسة والمظالم والأثرة ،
نحو ذلك مما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالصبر عليه ، ومما لا يمكن
معالجته إلا مع ذوي الشأن وأهل الحل والعقد في الأمة من العلماء والولاة ،
وأهل الرأي والمشورة.
22-
استحلال الغيبة باسم مصلحة الدعوة ، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،
ومن أعظم ذلك غيبة العلماء والولاة أو المخالفين من أهل الخير والاستقامة.
23-
تصيد زلات العلماء وطلاب العلم والصالحين وإشهارها ، والسكوت عن أخطاء أهل
الفسق والفجور والزندقة وإغفالها.
24-
ضيق العطن وقلة الصبر واستعجال النتائج في أمر الدعوة وغيرها ، مما يبعث روح
اليأس والتشاؤم والتصرفات المشينة.
25-
ضعف الحكمة وقلة التجارب . مما يجعل البعض يقعون في أخطاء وقع فيها السابقون
من أمثالهم ، فلم يستفيدوا من العبر والدروس فإن السعيد من وعظ بغيره.
26-
نزعة العنف واستعمال القوة ، بما في ذلك اللجوء إلى الأعمال غير المشروعة في
سبيل النكاية بالمخالف كالوشاية والاستعداء والبهتان والمقاطعة. وقد يصل
الأمر عند بعضهم إلى الضرب والإضرار المباشر.
27-
ترك الدراسة في المدارس والمعاهد والجامعات ، وتحريمها ، أو تحريم العمل في
الوظائف الرسمية.
28-
تحريم بعض المباحات ، والتشدد في ذلك ومنه التوقف في التعامل مع المسلمين أو
الحكم عليهم.
29-
الإخلال بمفهوم الأمر بالمعرف والنهي عن المنكر وأساليبه ، أو سلوك منهج
المعتزلة والخوارج وأهل الأهواء في ذلك.
وفي الجملة ، فإن هذه الظواهر إنما توجد عند القليل من أبناء الأمة ، وليست
في بلد واحدة ، ولا في طائفة أو جماعة دون أخرى ، لكنها قد تكثر في جماعة أو
طائفة أوبلد ، وتقل في آخر ، بل ربما يكون شيء منها في طوائف تدعى السلفية ،
وأخرى تدعى السنة والجماعة ، وثالثة تنتمي إلى فرق هالكة كالرافضة والخوارج
والمعتزلة ، والصوفية وأهل الكلام ورابعة تنتمي إلى جماعات محدثة وشعارات.
هذا .. وأسأل
الله لي ولجميع المسلمين وأئمتهم وعامتهم وشبابهم التوفيق والهداية والسداد
والرشاد ، وأن يوفق ولاة أمورنا وعلماءنا وشبابنا إلى مافيه صلاح الأمة في
دينها ودنياها وأن يقينا جميعاً الفتن ماضهر منها ومابطن ، وأن يوفق جميع
المسلمين لسلوك طريق السنة ، ويهديهم سواء السبيل ، وأن يجمع كلمتهم على الحق
وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله
وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه.
كتبه/ أ.د. ناصر بن عبدالكريم العقل
المصدر كتاب: "الخوارج..أول الفرق في تاريخ
الإسلام" صفحة: (101-107).
نقله نَاصر الكاتِب