كثيرة هي المواقف والأحداث التي يجدر الوقوف عليها ، والتأمل في فصولها ،
والنظر في معطياتها ونتائجها .
وتتجلى أهمية ذلك لدى الداعية إلى الله ؛ إذ هو أحق الناس بهذا ، فلا يدع
الخطوب تمر عليه مر السحاب ، وينزوي بنفسه عنها متعللاً بعلل من أشباه ( لم آمر
بها ولم تسؤني ) أو ( الفتنة نائمة .. لعن الله من أيقظها ) أو بأوهام أخرى
تبرئ ساحته وتلقي بالتبعة على غيره .. فأصحاب هذا الفهم قد قصرت عقولهم عن
التأمل في كتاب الله وحكمة تنزيله منجما ، ولم تسبر أغوار الهدي النبوي على
صاحبه أشرف الصلاة والتسليم الذي كان ينتهز الفرص والمواقف لتربية وتعليم
صحابته رضي الله عنهم وأرضاهم .
وغالباً ما تتجلى زكاة العلم في الأحداث والنوازل وتظهر في أمثالها ، إذ يظهر
فيها صاحب الثوب الخلق ، ولابس الشهرة ، والسفيه الرويبضة ليسوسوا دفة الأحداث
ويبعثوا سراياهم ، فيصبح عوام الناس في بحر لجي تتخطفهم أيدي العابثين ممن
مردوا على التزلف والنفاق والإفساد ... فتراهم غرقى ، فمن ينقذهم ياترى ؟
أتراه من انزوى في حوزته ، أو اعتكف في صومعته ، أو صنع الأوهام لنفسه ، أو نمق
الديباجات والتزكيات ؟
يا مشاعل الهداية ..
إن الناجعة ليست في دفن الرؤوس بالرمال ، أو استجلاب الغلبة بالصياح والعويل ،
أو استنفار الطاقات للبحث في شأن لعبة أو مسلسل ... إنما هي في ( حتى يغيروا
مابأنفسهم ) و ( قل هو من عند أنفسكم ) .
يا ناسف الظلم ثارت هاهنا وهنا *** فظائع أين منها زندك الواري ؟!
ومن خلال الأحداث الأخيرة اختلفت أفهام الناس وعقولهم في توصيف الحدث ، خصوصا
مع هذا الانفتاح الاعلامي الذي غزى عقر دارنا دون مقدمات ؛ فسارت الركبان
بالأخبار والتحليلات مشرقة ومغربة ، وسار معها الكهل والفحل .. كلٌ يردد ماوافق
شـنٌّ طبقه !!
والإشكال لا يكمن هنا , فما ذاك إلا نتيجة لمقدمة سابقة ... وإن كان ثمة خلاف
فهو أمر طبيعي وقع بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أفلا يقع فيمن
دونهم ومن جاؤوا من بعدهم ؟
إنما الإشكال هو إشكال المنهج و الفكر الذي سيطر على عقول فئامٍ جعلت من الخلاف
السائغ معيار ولاء وبراء وقبول ورفض !!
بل زاد الأمر واستشرى إلى تطبيق مغلوط وغالٍ لأقوال من أمثال ( كل يؤخذ من
كلامه ويرد إلا صاحب هذا القبر ) و ( الحق لا يعرف بالرجال ..لكن الرجال يعرفون
بالحق ) و ( لا تقلدني ولا تقلد مالك ولا الشافعي وخذ من حيث ما أخذوا ) ...
وجميعها ذات مفهوم متفق عليه ، لكنها لا تسوغ للمتذرع بها أن تجعله في الطرف
النقيض ، فتمنحه حق تتبع الزلات والفرح باصطيادها ، والفرط في المحبة والكراهية
، والتشكيك في النوايا ، وتضخيم الأخطاء وافتعال الخصومة ، والتهكم والازدراء
...
فننسى بذلك الحسنات ، ونهمش الفضائل .. وننسى ( ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن
لا تعدلوا .. اعدلوا هو أقرب للتقوى ) هذا هو الحال مع من أبغضتهم قلوبنا
وكرهتهم ، فكيف بمن هو محسوب على الدعوة وأهل العلم والفضل ، ومن عترتنا
وخاصتنا ؟
ولله در حاتم الأصم حين سئل :
أنت رجل أعجمي لا تفصح ، وما ناظرك أحد إلا قطعته ؛ فبأي شيء تغلب خصمك ؟
فقال : بثلاث ، أفرح إذا أصاب خصمي ، وأحزن إذا أخطأ ، واحفظ لساني عن أن أقول
له ما يسوءه ... فعندما بلغ الإمام أحمد ماقاله قال : ماأعقله من رجل .
ولطالما كانت الردود المتشفية الغير متعقلة تمثل ردة فعل ، تعبر عن حالة نفسية
كان الهدف منها ذات الرد ليس شيئا آخر ... لذلك نجدها توغل في السطحية ، وتجيير
النصوص واختزالها ، ولييها لياً لما يحقق مآرب كاتبها .
ويقاس على ذلك تعاملنا مع الأحداث واستعجالنا في اتخاذ الأحكام وإطلاقها ،
والتسابق في كتابة التحليلات أيهم يكتب تحليلا أطول من الآخر .. فنجد أن البعض
كتب فوقع في المتناقضات ، والبعض الآخر كتب لأجل تسجيل الموقف والفكاك من لوم
المريدين ... بعكس من صبر حتى اتضحت له الرؤية و زال عنه غموض الحدث فطرح الطرح
الشافي الكافي .
معاشر الدعاة ..
حريٌّ بكم في مثل هذه النوازل وما يكتنفها أن تجعلوا من التأني شعاركم ، وأن
تردوا المتشابه إلى المحكم ، وأن تفرقوا بين المسلمات والمحكمات والأصول وبين
ما يقبل فيه الاجتهاد وله حق من النظر ، وان لا تحملوا كلام المخالف - إن ثبت
خلافه - مالا يحتمل ، وأن تعوا مقامات الرد والإنكار ومقامات الدعوة والإرشاد
..
وتذكروا بأن سوء الفهم آفة .
ولقد كنت ولا أزال متمسكا بمقولة أرددها
على مسامعي كلما تكلمت أو كتبت ... وهي
من نحو ( آن لأبي حنيفة أن يمد رجله ) : كما أن الألسنة مغاريف القلوب ؛ فإن
الأقلام مغاريف العقول .
فمن خلال القلم تعرف عقل حامله ، و نمطية تفكيره .. وعندها تستيقن هل تمد رجلك
أم تكفها ؟!
وأخيرا .. معاشر الدعاة :
يهمس الفاروق عمر رضي الله عنه بينكم ويقول مخاطبا كل واحد منكم ( لا يكن حبك
كلفا ، وبغضك تلفا .. إن أحببت كلفت كلف الصبي ، وإن أبغضت أحببت لصاحبك التلف
) .
والله المستعان وعليه التكلان ولا تنسوا محبكم من دعوة صالحة بأن يحسن الله
خاتمته ، ويغفر ذنبه ، ويعلي درجته .