بيان غلط حاتم العوني أن ابن تيمية كان عنده خلل في التكفير

عبد الرحمن بن صالح السديس

 
 بسم الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم أما بعد:
فقد سمعت كلاما لـ د. حاتم العوني قاله أمس الجمعة 17 ذي القعدة 1435، هذا نصه:
«التكفير بالطريقة العلمية المنضبطة نضوج فكري، (كثير من العلماء) على مر التاريخ بدأوا يكفرون وما انتهى بهم العمر حتى تبرأوا من (كل) التكفير الذي فعلوه، وممن نُص عليه أنه حصل له ذلك: الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية، ينقل عنه الذهبي أنه كان يقول: آخر الأمر من تقي الدين ابن تيمية أنه قال: اشهد عليَّ أني لا أكفر كل من توضأ وصلى».اهـ

فهو هنا يقرر أمورا، منها:

• أن ابن تيمية كان عند أغلاط في التكفير بسبب قلة النضوج العلمي، وعدم الانضباط الفكري.
• أنه تاب وتراجع عن هذه الأغلاط في التكفير في آخر عمره.
وحجته: هذه الرواية (المحرفة) التي نسبها للذهبي.
وكان قد ذكر قبل كلامه هذا بنحو خمس دقائق من اللقاء:
أن ابن تيمية ليس كالذين يرميهم بالغلو في التكفير..، بل هو مختلف عنهم فـ«عنده تحرزات كثيرة من التكفير» ثم ذكر أمثلة لذلك: عدم تكفيره للبكري في رده عليه، وقصة الذي قال: إن مت فاحرقوني..

والجواب عن كلامه وبيان ما فيه من خلل بما يأتي:

• أن ابن تيمية رحمه الله وصف بالإمامة وعظيم العلم قبل موته بأكثر من 35 سنة.

• منهجه في عامة كتبه في هذا القضايا وتقريرها والاستدلال لها متفق.

• ليس في شيء من كتبه أنه تراجع عن منهجه في تقرير التكفير، ولم ينقل عنه عامة أصحابه أن (منهجه) في التكفير اختلف أو أنه تراجع عن شيء، بل هو يقرر ما قرر على أنه مذهب السلف، ولم يأت هو  بشيء من عنده، وليس له أن يفعل ذلك.

• لذلك فزعم أنه بدأ يكفر غلطا ثم تبرأ من كل التكفير الذي فعله لما نضج= كذب عليه.

• نقل د. حاتم عن الذهبي كان لم يكن بالنص بل بالمعنى، وهذا نص كلام الذهبي في «سير أعلام النبلاء» 15/88: «كان شيخنا ابن تيمية في أواخر أيامه يقول: أنا لا أكفر أحدا من الأمة، ويقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن» فمن لازم الصلوات بوضوء فهو مسلم».اهـ.
فلاحظ هنا أن الذهبي لم يقل إن ابن تيمية قال لا أكفر مَن توضأ وصلى؛ بل مَن لازم الصلوات بوضوء..، ولم يقل (قال اشهد علي)! ولم يقل: تراجعت وتبت وتبرأت!
بل هو مجردُ نقلٍ ذَكَرَ أنه كان يقرره حتى آخر أيامه بأنه: لا يكفر أحدا من الأمة ..إلخ.

ولو كان الأمر كما فهمه د. حاتم وبنى عليه وقوع الشيخ في أغلاط في التكفير ثم توبته من ذلك لما نضج وكبر!= لكان ينص على ذلك في رسائله وكتبه ويعلن تراجعه؛ فهو من أتقى الناس وأورعهم، مع علمه بانتشار كتبه وأخذ الناس بها، ولكان ينقله عنه أخص تلاميذه المعتنين بنشر علمه، ولو وقع= فقطعا سينتشر هذا عنه في الآفاق، ولا يكون المصدر لهذه الحادثة العظيمة 3 أسطر جاءت عرضا في كتابِ للسير والتراجم، وسط ترجمة أبي الحسن الأشعري! ولكان الذهبي نفسه يذكره هذه التوبة والتراجع في ترجمة ابن تيمية، وقد ترجم له في تسعة  كتب من كتبه في التاريخ والتراجم ولم يذكر حرفا من هذا، لا هو ولا غيره ممن ترجم له من العلماء!

وابن تيمية سجن في شعبان عام 726هـ، وبقي في السجن إلى أن مات في ذي القعدة 728هـ فهذه سنتان وثلاثة أشهر من آخر حياته، وكان معه في السجن تلميذه ابن القيم، فهذه (أواخر أيامه)، وعاش بعده ابن القيم 23 سنة، ونقل من علم شيخه وعبادته وأخباره وأحواله شيئا كثيرا جدا، فأين ذكَرَ رجوع شيخه وتبرأه من هذه الأخطاء في التكفير؟!

• وأين أعداؤه عن هذا التكفير الغلط، وقد كانوا يتمنون أن يجدوا عليه مخالفة؛ ليقوموا بها عليه، ويسعوا به إلى السلطان، وقد سعوا به وكذبوا عليه وسجنوه مرارا؟!

• وهذا المعنى الذي نقله الذهبي مقرر في كتب ابن تيمية، قال ابن تيمية كما في «مجموع الفتاوى» 18/261: «من داوم على الصلوات؛ فإنه لا يصلي إلا لله عز وجل، بخلاف من لم يحافظ عليها؛ فإنما يصلي حياء أو رياء أو لعلة دنيوية؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد= فاشهدوا له بالإيمان؛ فإن الله تعالى يقول: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله}» الآية.

ومَن لم يصل إلا بوضوء واغتسال= فإنه لا يفعل ذلك إلا لله، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد وابن ماجه من حديث ثوبان عنه أنه قال: «استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن»؛ فإن الوضوء سر بين العبد وبين الله عز وجل، وقد ينتقض ووضوؤه ولا يدري به أحد، فإذا حافظ عليه= لم يحافظ عليه إلا لله سبحانه ومن كان كذلك لا يكون إلا مؤمنا». اهـ.

فهذا مثل الكلام الذي نقله الذهبي، وليس مما ألفه في آخر أيامه، وقد قرر هذا المعنى في مواضع أخر.

قال ابن تيمية كما في «مجموع الفتاوى» 5/254: «كل من أقر بالله= فعنده من الإيمان بحسب ذلك، ثم من لم تقم عليه الحجة بما جاءت به الأخبار= لم يكفر بجحده، وهذا يبين أن عامة أهل الصلاة= مؤمنون بالله ورسوله، وإن اختلفت اعتقاداتهم في معبودهم وصفاته، إلا من كان منافقا يظهر الإيمان بلسانه ويبطن الكفر بالرسول= فهذا ليس بمؤمن؛ وكل من أظهر الإسلام ولم يكن منافقا= فهو مؤمن له من الإيمان بحسب ما أوتيه من ذلك، وهو ممن يخرج من النار ولو كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، ويدخل في هذا جميع المتنازعين في الصفات والقدر على اختلاف عقائدهم».

وهذا من جنس الكلام الذي نقله الذهبي.

وتجد نحوه في شرح حديث الافتراق في «مجموع الفتاوى» 3/352.

• وقال أيضا شيخ الإسلام ابن تيمية كما في «مجموع الفتاوى» 3/229: «هذا مع أني دائما ـ ومن جالسني يعلم ذلك مني ـ : أني من أعظم الناس نهيا عن أن يُنسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا عُلم أنه قد قامت عليه الحجة الرِّسالية التي من خالفها= كان كافرا تارة، وفاسقا أخرى، وعاصيا أخرى، وأني أقرر: أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية، والمسائل العملية، وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ولا بفسق ولا معصية». اهـ

وكلامه هذا كتبه في سنة 706 هـ وهو في السجن. كما في بداية الرسالة في «مجموع الفتاوى» 3/211، أي: قبل وفاته بـ 22 عاما، وفي كلامه تقرير أن هذا هو منهجه ومذهبه يعرف ذلك كل من جالسه يعني: أنه لم يحدث له شيء قبل ذلك يخالفه.
وله نحو هذا التقرير في كثير من كتبه المتقدمة والمتأخرة، فيها مثل الكلام المنقول عنه وما هو من جنسه، الذي ادعى فيه أنه توبة ورجوع بعد النضوج وتقدم العمر! وساقه د. حاتم بصيغة: اشهد عليَّ!

• ويقال أيضا: هذا تراث الشيخ حاضر؛ فكتبه منتشرة في الأقطار، وفيها أوائل كتبه وأواخرها= أين التكفير الغلط فيها، الذي تاب منه الإمام أو يستحق أن يُتاب منه؟!

• تناقض د. حاتم إذ قال في ذلك اللقاء قبل أن يدعي أنه تاب..: إنه ليس كمَن رماهم بالغلو بالتكفير، وذكر أن «عنده تحرزات كثيرة من التكفير» ثم ذكر أمثلة لذلك: عدم تكفيره للبكري في رده عليه، وقصة الذي قال: إن مت فاحرقوني..
فهذه شهادة له بأن منهجه سليم في التكفير، فمن أي شيء تاب إذن؟!
و«الرد على البكري» كتب أوله قبل سنة 714 هـ [مقدمة الرد ص74] أي قبل موته ب14 سنة، فهل هذه آخر أيامه التي تاب فيها؟!  
وقد استدل الشيخ بقصة الذي أمر بنيه بتحريقه بعدم التكفير للعذر.. في أكثر من 10 مواضع من كتبه كـ «منهاج السنة» و«الاستقامة»، و«الصفدية» و«بغية المرتاد» ومواضع من «مجموع الفتاوى»، وكثير منها ألفه قبل سنة 710، أي قبل موته بنحو 20 سنة.

فتقريرات شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الباب مطردة، وهو من أكابر أئمة المسلمين ومنظريهم في هذا الباب وغيره، ونَفَسه فيها واحد، يعرف ذلك من له اطلاع على كتبه، لكن من يلتقط ثلاثة أسطر جاءت عرضا وسط ترجمة عالم آخر في كتاب للتراجم، ثم يرويها محرفة ويبني عليها مثل هذه التهمة على أحد كبار سادت المسلمين؛ فالتحقيق العلمي في واد، وهو في آخر.

وفي اللقاء أمور أخرى عامتها مكرر، لا جديد فيه، وقد كُتب في بحثها والجواب عنها بحوث ومقالات كثيرة منتشرة، وليس من غرضي هنا إلا بيان غلطه على الإمام الكبير شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله وأعلى منزلته.

ظهر السبت 18 من ذي القَعدة من عام 1435 للهجرة النبوية.