اطبع هذه الصفحة


إصلاح اقتصادي أم سياسي؟!!

محمد حسن يوسف
مدير عام بنك الاستثمار القومي


حينما تسير في إحدى المناطق العشوائية، مثل منطقة الكيلو 4.5 المتاخمة لمدينة نصر، وترى الناس وهم يتكدسون في عشش من الصفيح أو يعيشون في بيوت لا ترقى حتى لتربية الدجاج أو الأرانب، لابد أن يتبادر إلى ذهنك التساؤل: هل هذه الناس تهتم بضرورة المشاركة السياسية في الانتخابات أم أنها لا تولي اهتماما إلا للإصلاح الاقتصادي الذي يعود عليها بتحسين نظام معيشتها اليومية؟ وبمعنى آخر: أيهما يهم هؤلاء المواطنين أولا: القضاء على البؤس والفقر الذي يرزخون فيه ويكتوون بناره؟ أم كفالة الحقوق السياسية التي لا تؤدي لأي تغيير مادي في مستوى حياتهم ( من وجهة نظرهم )؟
وفقا للبروفيسور أمارتيا صنAmartya Sen ، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد في عام 1998، في كتابه الهام ( التنمية حرية Development is Freedom )، فقد ظل هذا السؤال مطروحا وبقوة في المناقشات الدولية. وتفاوتت ردود فعل الدول النامية تجاه الإجابة عليه. ففي حين دافعت الصين وسنغافورة، وبشدة، عن أهمية النهج الاقتصادي على الإصلاح السياسي، وأن الإصلاح الاقتصادي لكي يتم فإنه بحاجة لمزيد من القمع والشدة مع المواطنين لتوجيه البلاد والموارد نحو الوجهة الاقتصادية التي تراها الدولة. وكان هذا هو السبب في نجاح هذه الدول في تحقيق نموها الاقتصادي. على أن هناك دولا مثل الهند وغيرها من جنوب وغرب آسيا عارضت هذا التوجه، ونادت بضرورة تبني الإصلاح السياسي أولا واعتباره مدخلا لتحقيق الإصلاح الاقتصادي. وهذا هو سبب نجاح الهند في تحقيق الإصلاحات السياسية على مدى العقود الأخيرة، واتجاهها لكي تصبح إحدى القلاع الاقتصادية الكبرى في المستقبل المنظور.

في مصر، ظل النظام السابق يولي جل اهتمامه لتحقيق الإصلاح الاقتصادي، واعتباره الأساس لجميع الإصلاحات التي يجب أن تقوم بها البلاد. وفي الوقت الذي كرست فيه مصر جميع جهودها لتحقيق الإصلاح الاقتصادي خلال الثلاثين عاما الأخيرة، لم تولِ أي اهتمام للإصلاح السياسي، حتى ليمكن القول أن البلاد تحولت إلى ما يشبه المسخ الذي يقوم على ساق طويلة وقوية اقتصاديا يقابلها ساق أخرى قصيرة وعاجزة على الحركة سياسيا، مما أدى في نهاية المطاف لتعثر النظام ككل وسقوطه تماما.

وفي واقع الأمر، لا يمكن الحديث عن تنمية مجتمعية شاملة بمعزل عن حرية المشاركة السياسية أو فرص الحصول على التعليم الأساسي أو على الرعاية الصحية. ففي هذه الحالة، سوف يظل الحديث قاصرا على تحقيق معدلات مرتفعة للأداء الاقتصادي، بغض النظر عن كيفية توزيعه، دون أن ينعكس ذلك على طبيعة ونمط الحياة في المجتمع، بحيث تظل متخلفة وبدائية بالرغم من النجاح في رفع المؤشرات الاقتصادية للبلد. وهذا الأمر هو ما حدث خلال السنوات الثلاث الماضية في مصر. فقد استطاعت مصر تحقيق معدلات نمو اقتصادي مرتفعة للغاية، تراوحت حول 7.1%، في حين ظلت معدلات التنمية البشرية متدنية للغاية، كما ظلت المشاركة السياسية لأفراد المجتمع في أدني مستوياتها. وبالتالي فلم يستطع ارتفاع معدلات الأداء الاقتصادي في نقل المجتمع نحو تحقيق التنمية الشاملة ( اقتصادية وسياسية واجتماعية )، بل ظلت قاصرة على الجانب الاقتصادي وحسب.

ولتقريب الصورة بشكل أكبر، فهل يكون من الضروري التركيز على رفع الحد الأدنى للأجور وزيادة الراتب المادي الذي يتقاضاه العمال نظير تقديم خدمة " العمل "؟ أم أن من الأفضل تكريس مفاهيم " حرية " المناقشات بين أرباب الأعمال والعمال، وحق العمال في الاعتراض على أوامر روسائهم – إذا كان ذلك في صالح العمل، وحق العمال في الإضراب – بما لا يضر صالح العمل، وحق العمال في التعبير عن آرائهم دون التعرض لهم بحرمانهم من بعض المزايا أو كلها؟ فالتركيز على الأمر الأول يصب في مصلحة الاعتبارات " الاقتصادية " للعمال، بينما العمل على إصلاح الجانب الثاني يندرج تحت مسمى الإصلاحات السياسية والاجتماعية لبيئة العمل، والتي تقود حتما في نهاية الأمر لتحقيق الإصلاحات الاقتصادية المرجوة.

ولعل الحجة القوية التي تُساق في هذا الشأن هي عدم نجاح الأموال العربية التي تراكمت بسبب الثروات النفطية منذ منتصف السبعينات في القرن الماضي في تحقيق نفس الآثار التي تحققت لمشروع مارشال لإعادة تعمير أوربا ما بعد الحرب العالمية الثانية. والسبب في ذلك أن الأطر الثقافية والنسق القيمية لم تكن موجودة لدى الدول العربية في حين توافرت في الدول الأوربية، وهذا ما أدى لنجاح الثانية لأنها كانت مجرد عملية إعادة إعمار لنظم كانت موجودة بالفعل، وفشل الأولى لأنها كانت تفترض إتمام عملية تنمية شاملة في جميع المجالات ولكنها لم تتطرق إلا للجانب الاقتصادي وحسب.

كل هذا ينقلنا لاستخلاص أن العمل على تحسين الوضع الاقتصادي يمكن التركيز عليه في الأجل القصير، نظرا لتدهوره الشديد في ظل النظام السابق، على ألا يكون ذلك بمثابة نهاية المطاف وغاية الأماني، بل يجب العمل على تحقيق التنمية المجتمعية الشاملة في الأجل الطويل، التي تضمن توافر الحريات السياسية والاجتماعية بالإضافة إلى النمو الاقتصادي، وهو ما يضمن استدامة النمو الاقتصادي وارتفاع مؤشراته. وفي ظل التنمية المجتمعية الشاملة نضمن إلغاء نظم العمل القائمة على السخرة والعمل القسري، وإحلال نظام العمل التعاقدي الحر وحرية التنقل بدون قيد. وفي ظل التنمية المجتمعية الشاملة، فإن تحقيق الإصلاح الاقتصادي يجب أن يُستكمل بإصلاح المؤسسات، ثم الإصلاح الإداري، ثم الإصلاح السياسي وتطبيق الديمقراطية، وألا يظل مقصورا على إصلاح المؤسسات وحسب.

mohd_youssef@aucegypt.edu
mohd.youssef@nib.gov.eg
12 من جمادى الآخرة عام 1432 من الهجرة ( الموافق 15 من مايو عام 2011 )


 

محمد حسن يوسف
  • كتب وبحوث
  • مقالات دعوية
  • مقالات اقتصادية
  • كيف تترجم
  • دورة في الترجمة
  • قرأت لك
  • لطائف الكتاب العزيز
  • الصفحة الرئيسية