طاعون العصر
(قصتي مع كورونا )

د.عبد الله بن أحمد آل علاف الغامدي
@DrAllaf

بسم الله الرحمن الرحيم

بدأت جائحة كورونا (كوفيد 19) عام 1441هـ في شهر رجب تقريباً واتخذت حكومة المملكة العربية السعودية، ممثلة في ملكنا الحكيم الحازم سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده محمد بن سلمان صاحب الرؤية الثاقبة والخطوات المدروسة الهادفة، ورجال الدولة المخلصين في كافة المجالات وتم الحظر ابتداءً ثم توفير الرعاية الصحية للمواطنين والمقيمين بل حتى المتخلفين ومخالفي نظام الإقامة في بادرة ملكية إنسانية رائدة تسجل في صفحات البر من أعمال ملكنا سلمان الإنسان الأب والراعي والمسؤول وفقه الله وسدده ونفع بعلمه وعمله ، واستمرت الأمور في تعاون بين أجهزة الدولة الأمنية والطبيّة والتعليمية وغيرها في تناغم وانسجام رائع وبديع نال إعجاب العالم أجمع، وأصبح قدوة للأمم. مع قيادة المملكة للمؤتمرات العالمية باقتدار وخبرة وعلم.
ثم توالت المتابعات والحصول على العلاجات والمضادات والتطعيمات ببذل الغالي والنفيس في توفير الرعاية والعناية للجميع بدون استثناء، جعل الله ذلك في ميزان حسناتهم أجمعين.

وأصيب العبد الفقير بطاعون العصر ودخل المشفى في الطائف، وبقي في العناية والعزل والعناء بين الغيبوبة والإفاقة وتحت أجهزة التنفس الاصطناعي لمدة ثلاثة أسابيع هي أشد ما مرّ عليه في حياته بل، قد أشرف على الموت بعمل إنعاش رئوي ثلاثة مرات، أنقذه الله من الوفاة ووهبه حياة جديدة وكأنه بعث من قبره مرّة أخرى!!

(قصتي مع كورونا )
تمثلت قول زهير بن أبي سُلمى (بحر الطويل):
رَأَيْتُ الْمَنايا خَبطَ عشواءَ من تُصب
تُمِتهُ ومَنْ تُخطئ يُعَمَّرْ فَيَهْرَمِ
واستبدلتُ المنايا بـ كورونا: ولكم أن تتموا القراءة والفهم للمعنى.

بدأ التعب والإرهاق والخمول في نهاية شهر ذي القعدة 1441هـ أثناء عودتي من رحلة في جنوب المملكة لمدن :الخميس – أبها – النماص – تنومة – العلايا – بلجرشي – الباحة.
ثم صمت أربعة أيام من عشر ذي الحجة خير أيام الدنيا، وحملني ابناي عبدالرحمن، وعبدالرحيم إلى مستشفى الملك عبدالعزيز التخصصي بالطائف وفي الطواريء تم عمل التحاليل والفحوصات التي أثبتت أن المسحة كانت إيجابية وبقيت هناك أربعة أيام كما أخبرني الأبناء بذلك، ثم تم نقلي إلى غرفة العناية والعزل حيث أفقد الوعي أحياناً وأفيق أخرى. وحضر ابني أحمد قبل ذلك وأخبرني بالإصابة وأراني الإفادة برسالة الجوال والحمد لله ربِّ العالمين.

(تجربة قاسية لا تُنسى)

تم وضعي في العزل وتغيير الملابس الخاصة بالمستشفى، وبدأ العلاج وعمل المغذيات والبراويز الخاصة، ووضع جهاز التنفس وعمل التحليل للسكر والضغط دورياً حسب الحاجة والمتابعة. ولم يسمح لي بمغادرة السرير، فكنت أختلس الذهاب إلى دورة المياه ولكن بعناء شديد ولا أرجع إلى السرير إلاّ بمعاناة وآلام.
بل إنني حاولت الصلاة مستنداً على الجدار وركعت بصعوبة قدر الاستطاعة ثم سجدت على الأرض، ولم أستطع رفع رأسي أو يديّ، بل كنت ممداً على بطني، فصليت على حالي ما استطعت، حتى أتى الممرضون والممرضات وبدأوا يصرخون ويولولون وكأنهم أشباح من الفضاء!! بأقنعة غريبة وكمامات وقفازات وملابس وقائية، وحملوني وأعادوني على السرير، وكأنّي شخص منبوذ غير مرغوب فيه، ربما يصيبهم بالداء الذي حلّ!!

وكان الأكسجين على ثلاثة أنواع:
الأول: كمامة على الفم والأنف أستنشق الهواء النقي من الاسطوانات الموصلة الخاصة بالأكسجين النقي، غالب الوقت.
والثاني: يوضع على الأنف فقط أثناء الأكل والشرب فقط.
والثالث: جهاز على الوجه ويربط في الرأس من الأمام والخلف وبه نوع من البخار المرئي والمشاهد والمحسوس كثيف أحس براحة من استنشاقه ولكني أنزعج من صوت الطنين المرافق له وأدخل في مرحلة من الخيالات والتصورات فأرى صوراً من الحياة مختلفة الزمان والمكان والإنسان !!!، فمرة أرعى الغنم صغيراً ومرة مع الوالدين ومرة مع الزوجتين، ومرة مع الأولاد ومرة مع البنات ومرة في البحر ومرة في الجو ومرة في البر، وتارة مع الملوك والأمراء، وتارة مع العلماء وطلبة العلم، وفجأة مع الفقراء والبسطاء.. شيء عجيب، ومشاعر لا توصف، وكأنها نوع من (الهلوسة) لا أدري هل هي من المرض أو العلاج ولكنها تجربة عجيبة غريبة هذا أقل ما يمكن أن أقوله.
وإذا أفقت عدت للإدراك والوعي ومعرفة ما يحيط بي وأتوضأ أو أتيمم وأصلي على حالي!!

(كنت أنتظر الملائكة لقبض روحي !!!)
من أعجب ما مَرّ بي في أزمتي وما يصلني من أخبار من مات من معارفي وأقربائي من هذه الجائحة وما مسني من ضر وألم من العلاج والوخز بالإبر والضيق في التنفس، والآلام في الصدر والعظام والأوجاع النفسية وزغللة النظر وضعف الحركة ونقص الوزن الشديد، حيث أصبح جسمي جلداً على عظم كما يُقال ففي هذه الحالة، كنت أنتظر الملائكة!!
وأتساءل: يا ربِّ كيف سيكون دخول الملائكة إلى هذا المكان؟ هل هم ملائكة الرحمة كما أتمنى؟ أم ملائكة العذاب، عياذاً بالله؟!!
وأتلو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُون}[فُصِّلَت:30]
فتطمئن نفسي وأشعر براحة وأناجي ربي وأسأله أن يشفيني ويمد في عمري حتى أقضي ديني وأبرئ ذمتي ،
فاستجاب ربي السميع القريب المجيب، سبحانه وتعالى فله الحمد.

(خرجت على مسؤوليتي )
طلبت من الفريق الطبي أن أخرج من المستشفى على مسؤوليتي، فاعتذروا بلطف وقالوا بعد أن نتأكد بأن المسحة سلبية أولاً، ثم لابد أن تستمر على جهاز الأكسجين فترة حتى يعود التنفس طبيعياً، مع استمرار برنامج العلاج بالمضادات والمغذيات والفيتامينات والعناية الطبية حتى خروجك من هذه الأزمة.
والسبب في طلبي الخروج هو خشيةً على والديّ وزوجتيّ وأبنائي وبناتي في حالة وفاتي في المستشفى حيث سيؤثر ذلك عليهم نفسياً، لأن من مات كان يكفن ويدفن دون رؤية أهله له وكان هذا هاجساً مؤلماً لي، فتمنيت أن أموت بينهم على الأقل. هكذا عَنّ لي.
وبعد عشرين يوماً عُملت المسحة والنتيجة مبشرة ولله الحمد والتنفس في تحسن ضعيف. وسمح الأطباء بخروجي بشرط الاستمرار على العلاج والأكسجين في المنزل.
ووقع ابني أحمد على أوراق الخروج وعلى المسؤولية وحضر هو وشقيقي سعيد بعد العصر يوم 23/12/1441هـ وبمجرد خروجي من الغرفة شعرت بالحياة من جديد وأحسست بالهواء البارد المنعش وغادرنا المستشفى إلى المنزل، على عربة حتى الوصول للغرفة المخصصة في الدار وقد وفّرت زوجتي أم أحمد بدرية بنت سعيد العلاّف جزاها الله خيراً جهاز الأكسجين الذي يعمل على الكهرباء، وقامت ابنتي أماني وفقها الله بالمتابعة للعلاج والسهر على راحتي الليالي الطوال ومتابعة مواعيد العلاج وتحليل السكر بالتناوب مع أخواتها نداء ودعاء حفظهن الله.

(شهران على جهاز التنفس)
بعد مضي شهر محرم من عام 1442هـ انتقلت بجهازي وعلاجي إلى بيتي الثاني عند أم عبدالعزيز سلوى بنت محمد سعيد كمال، التي استمرت في متابعة حالتي وقياس الضغط والسكر يومياً مع ابنتي ابتهال وفقها الله وعبدالعزيز وعبدالرحيم أسعدهما الله .
وبدأت الاستغناء عن جهاز الأكسجين تدريجياً مع مداومة المشي والرياضة شيئاً فشيئاً.
ثم راجعت العيادة وتم عمل أشعة مقطعية للصدر وظهر الفرق المُفرح بالتحسن في صحة الرئتين ولله الحمد وأُخبرت أن نسبة النجاة من مثل حالتي 17% وهذا ما زادني حمداً وشكراً للبارئ المصور المحيي المميت سبحانه وتعالى.

(مواقف لا تُنسى)
من المواقف التي لا أنساها ما حييت وقوف إخوتي في الله ودعاءهم بظهر الغيب، وأخص منهم أخي الحبيب الذي لم تلده أمي (محمد بن أحمد آل خير الغامدي) في متابعته لي ولأسرتي مع أخي الشقيق سعيد أسعدهما الله ومتابعة الابن سعيد لحساب تويتر وإشعار المتابعين بحالتي حيث انهالت الدعوات التي اعتقد أن الله استجابها فجزى الله خيراً كل من دعا أو أمّن على ذلك.
وقام الابن محمد وأحبته بعمل مشروع للصدقة والعمل الخيري أثابهم الله على ذلك وجزاهم خير الجزاء.
ولا أنسى الدعاء بالخير لأولئك النسوة الصالحات الداعيات بظهر الغيب فلعلّ الله استجاب لهن، ولي .

( العفو والمسامحة )
بل حتى من آذاني بكلامه أو فعاله طلب العفو مني والمسامحة وقد أخبرتهم أني قد عفوت عمّن ظلمني أو ادّعى عليّ بغير حق أو افترى وفجر في خصومته فإني قد عفوت عنهم جميعاً رجاء ما عند الله للعبد، أسأله سبحانه وتعالى أن يسامحهم جميعاً رجالا ًونساءً كباراً وصغاراً وأن يهدينا وإياهم سبل السلام ويحسن لنا ولهم الختام.

هذا ماجادت به القريحة وسطره القلم ذكرته للتاريخ والزمن وللعبرة والذكرى

والحمدلله أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا كما يحب ربنا ويرضى

والصلاة والسلام على نبينا محمد المصطفى وعلى آله وصحبه ومن اقتفى .
 

وكتب
عبدالله بن أحمد آل علاّف الغامديّ

الطائف المأنوس
١ / ١ / ١٤٤٣ هـ