شرح رسالة فضل علم السلف على الخلف 8

خالد بن سعود البليهد

 
بسم الله الرحمن الرحيم

(وكذلك التوسع في علم الأنساب هو مما لا يحتاج إليه: وقد سبق عن عمر وغيره النهي عنه مع أن طائفة من الصحابة والتابعين كانوا يعرفونه ويعتنون به).

أعاد المصنف الكلام عن علم النسب في سياق بيان العلوم التي يكون لها وجهان وجه مباح يحقق المصلحة في دين العبد ودنياه ووجه مكروه إذا أشغل عن تعلم الكتاب والسنة أو أفضى إلى مفسدة. وقد ذكر المصنف أن طائفة من السلف اشتغلوا به واعتنوا بحفظه وممن اشتهر عمله بالنسب من الصحابة الخليفة أبو بكر الصديق وجبير بن مطعم وحسان بن ثابت وحكيم بن حزام و عمر بن الخطاب وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ومعاوية بن أبي سفيان وحويطب بن عبدالعزى ومخرمة بن نوفل الزهري وعبدالله بن عباس وعقيل بن أبي طالب وكان عالما بالأنساب ومن أنسب قريش وأعلمهم بأيامها ودغفل بن حنظلة وبه يضرب المثل فيقال ( أنسب من دغفل). رضي الله عنهم أجمعين واعتنى به كثير من علماء التابعين وأتباعهم وتتابع الناس على ذلك إلى يومنا وهذا يدل على أهمية علم النسب وأن القول في حكم تعلمه فيه تفصيل كما سبق بيانه ولولا عناية السلف بهذا العلم وضبطه لضاع ولم يحفظ.

(وكذلك التوسع في علم العربية لغة ونحواً هو مما يشغل عن العلم الأهم والوقوف معه يحرم علماً نافعاً. وقد كره القاسم بن مخيمرة علم النحو وقال أوله شغل وآخره بغي. وأراد به التوسع فيه ولذلك كره أحمد التوسع في معرفة اللغة وغريبها وأنكر على أبي عبيدة توسعه في ذلك وقال هو يشغل عما هو أهم منه. ولهذا يقال أن العربية في الكلام كالملح في الطعام يعني أنه يؤخذ منها ما يصلح الكلام كما يؤخذ من الملح ما يصلح الطعام وما زاد على ذلك فإنه يفسده).

وفي نفس السياق ذكر المصنف أن التوسع في تعلم علم العربية مكروه لأنه يشغل عن تعلم الشرع وذكر قول القاسم ين مخيمرة في ذم النحو وهو أبو عروة الكوفي الهمداني الحافظ من سادات التابعين كان زاهدا موفقا للخير ومراد القاسم أن الاشتغال في تعلم النحو أوله شغل عن القرآن والسنة ثم إذا برز فيه المتعلم وترأس صار عنده اختيال وكبر يحمله على بغي الناس وازدرائهم لأنه يرى أنهم لا يعرفون هذا الفن وهذا أمر مشاهد عند كثير من النحاة وكلامه حسن ويحمل على من كانت له همة وعزيمة ونية حسنة في تعلم الشرع فلا يحمد اشتغاله بالنحو أما من كان عاطلا لا رغبة له في تعلم الشرع فاشتغاله بالنحو خير له من اشتغاله بما لا نفع فيه بوجه من الوجوه. وذكر المصنف أن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله كان ينكر على الإمام أبي عبيدة القاسم بن سلام في توسعه في تعلم وتدوين علوم اللغة لئلا يشغل عما أهم منه وكان الإمام أحمد يسلك مسلك الورع والاحتياط في تدوين العلم ويحرص على اتباع الصحابة في هذا الباب ولذلك لم يدون مذهبه وجرد الأحاديث عن رأيه وإنما اشتغل أصحابه بتدوين مسائله ومذهبه وأبو عبيدة كان له اجتهاد آخر فاشتغل بغريب لغة الحديث وتدوين اختلاف الناس ووضع مصنفات حسنة وكان غرضه بيان لغة الشرع وإيضاحها فذاعت ولقيت قبولا واسعا عند العلماء وكانت عمدة في هذا الباب واحتاج الخلق إليها وكلا يحمد ويؤجر على طريقته واجتهاده. وكذلك فعل إبراهيم الحربي من خاصة أصحاب أحمد اشتغل وأفنى عمره في تتبع مفردات القرآن والسنة في اللغة ووضع مصنفات حسنة شكره العلماء على ذلك وأثنوا خيرا على مصنفاته وهذا يدل على أن الاشتغال بعلوم اللغة إذا كان له قصد صحيح ففعل حسن ويمدح فاعله.

(وكذلك علم الحساب يحتاج منه إلى ما يعرف به حساب ما يقع من قسمة الفرائض والوصايا. والأموال التي تقسم بين المستحقين لها والزائد على ذلك مما لا ينتفع به إلا في مجرد رياضة الأذهان وصقالها لا حاجة إليه ويشغل عما هو أهم منه).

وعلم الحساب بين المصنف أن المحمود في تعلمه ما يحقق مصلحة ظاهرة في ضبط الفرائض والوصايا وما زاد على هذا القدر الأولى تركه لأنه لا طائل ورائه وصرف الوقت فيه غبن وخسارة وهذا فيه تأمل وتفصيل قد سبق بيانه.

تنبيه:

ماذكره المصنف من كراهة التوسع في بعض علوم الدنيا التي لا فائدة فيها مسلّم فيه من حيث الأصل والجملة أما من حيث التفصيل فالضابط أن يقال أن هذا يختلف من زمان لآخر والعوامل الداعية لذلك فقد يكون هذا العلم بعينه في زمان لا حاجة فيه ويكون في هذا الزمان من أنفع الأمور، وكذلك قد يحدث علم جديد أو يتجدد من جنس ما ذمه المصنف ويكون له أهمية قصوى في هذا الزمن ويترتب عليه مصالح كبرى كعلم الحساب مثلا قد تطور وقام عليه علم الرياضيات الحديثة الذي لا يخلو مجال أو عمل من الاعتماد عليه وكذلك علم الفلك والفضاء وغيره كثير مما حدث ووجد في زمن التكنولوجيا والصناعات والتقنيات الحديثة ووسائل الإتصال فلا يسوغ إطلاق الذم بل لا بد من التفصيل والتأصيل في الحكم.