اطبع هذه الصفحة


شذوذ القول بتحريم صوم يوم السبت

خالد بن سعود البليهد


الحمد لله رب العالمين  والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين:

فقد أخرج أبو داود والترمذي عن عبد الله بن بسر عن أخته الصماء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصوموا يومَ السبتِ إلَّا فيما افتَرَضَ اللهُ عليكم، فإنْ لم يَجِدْ أحَدُكم إلَّا لِحاءَ عِنَبةٍ أو عودَ شَجرةٍ فلْيَمضُغْه). واستدل بهذا الحديث الألباني على تحريم صوم يوم السبت في النفل مطلقا سواء كان مفردا أو مقرونا بغيره.

وهذا الاستدلال فيه نظر لوجوه:

الأول: أن أئمة أهل الحديث الكبار أعلوا هذا الحديث ولا يعرف لهم مخالف في طبقتهم قال الإمام مالك: (هذا كذب). وﻗﺎﻝ ﺍﻟﻠﻴﺚ ﺑﻦ ﺳﻌﺪ: (ﻛﺎﻥ ﺍﺑﻦ ﺷﻬﺎﺏ ﺇﺫﺍ ذﻛﺮ ﻟﻪ ﺃﻧﻪ (ﻧهي ﻋﻦ ﺻﻴﺎﻡ ﻳﻮﻡ ﺍﻟﺴﺒﺖ) ﻳﻘﻮﻝ: ﻫﺬﺍ ﺣﺪﻳﺚ ﺣﻤﺼﻲ). يعني: أنه حديث غريب لا يعرف في حواضر أهل الحديث وهذا تضعيف منه للحديث وقال الأوزاعي: (ﻣﺎ ﺯلت ﻟﻪ ﻛﺎﺗﻤﺎ ﺣﺘﻰ ﺭﺃﻳﺘﻪ ﺍﻧﺘﺸﺮ). وقال أبو داود: (هذا حديث منسوخ). وقال النسائي: (هذا حديث مضطرب). وقال أحمد بن حنبل: (كان يحيى بن سعيد يتقيه وأبى أن يحدثني به). استنكارا له. وقال أحمد بن حنبل: (قد جاء في صيام يومِ السبت ذاك الحديث مفردا). ولا يعارض قول هؤلاء بحكم الترمذي على الحديث: (هذا حديث حسن). لأن اصطلاح الحسن عند الترمذي في جامعه هو الحديث الذي يروى من طريقين فيهما ضعف ولا يكون فيه متهما بالكذب ولا يكون شاذا فهو حديث فيه ضعف مقارِب يعمل به مالم يخالف ما هو أصح منه أو ينفرد بأصل فالترمذي لم يصححه ويجعله في منزلة المحتج به في الصحاح. ومع ذلك فالأئمة أعلوه لما وجدوه مخالفا للأحاديث الصحيحة.

الثاني: أن متن الحديث شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة المحفوظة قال الأثرم: (وحجة أبي عبد الله (الإمام أحمد) في الرخصة في صوم يوم السبت أن الأحاديث كلها مخالفة لحديث عبد الله بن بسر). وقال الأثرم في ناسخ الحديث ومنسوخه: (فجاء هذا الحديث بما خالف الأحاديث كلها). وقال ابن تيمية: (ظاهر الحديث مخالف للإجماع). والأحاديث الصحيحة الدالة على جواز التطوع بصوم السبت ما يلي:

(1) حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا يَصُمْ أَحَدُكُمْ يَومَ الجُمُعَةِ، إِلّا أَنْ يَصُومَ قَبْلَهُ، أَوْ يَصُومَ بَعْدَهُ). وفيه دليل على صوم السبت مع الجمعة.

(2) حديث جويرية عند البخاري: (أنَّ النبيَّ ﷺ، دَخَلَ عَلَيْها يَومَ الجُمُعَةِ وَهِي صَائِمَةٌ، فَقالَ: أصُمْتِ أمْسِ؟، قالَتْ: لا، قالَ: تُرِيدِينَ أنْ تَصُومِي غَدًا؟ قالَتْ: لا، قالَ: فأفْطِرِي). وفيه دليل على صوم السبت مع الجمعة.

(3) حديث عبد الله بن عمرو المتفق عليه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (صُمْ يومًا وأفْطِرْ يومًا، فَذَلك صِيامُ دَاوُدَ عَلَيهِ السَّلَامُ وَهُو أَفضَلُ الصِيامِ). وفيه دليل على صوم السبت لأنه لا بد أن يوافق صومه يوم السبت.

(4) حديث معاذة العدوية: (أنَّها سَأَلَتْ عائِشَةَ زَوْجَ النبيِّ صَلّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: أَكانَ رَسولُ اللهِ صَلّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يَصُومُ مِن كُلِّ شَهْرٍ ثَلاثَةَ أَيّامٍ؟ قالَتْ: نَعَمْ، فَقُلتُ لَها: مِن أَيِّ أَيّامِ الشَّهْرِ كانَ يَصُومُ؟ قالَتْ: لَمْ يَكُنْ يُبالِي مِن أَيِّ أَيّامِ الشَّهْرِ يَصُومُ). رواه مسلم. وفيه دليل على صوم السبت لأنه لا بد أن يوافق صومه يوم السبت.

(5) حديث أبي هريرة عند مسلم: (أَفْضَلُ الصِّيامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضانَ صِيامُ شَهْرِ اللهِ المُحَرَّمِ). وهذا عام يدخل فيه صوم يوم السبت وغيره.

(6) حديث أبي قتادة عند مسلم: (وَسُئِلَ عن صَوْمِ يَومِ عَرَفَةَ، فَقالَ: يُكَفِّرُ السَّنَةَ المَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ. قالَ: وَسُئِلَ عن صَوْمِ يَومِ عَاشُورَاءَ، فَقالَ: يُكَفِّرُ السَّنَةَ المَاضِيَةَ). وفيه دليل على صوم يوم السبت لأنه لا بد أن يوافق يوم عرفة وعاشوراء يوم السبت.

(7) حديث أبي أيوب عند مسلم: (مَنْ صَامَ رَمَضانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوّالٍ، كَانَ كَصِيامِ الدَّهْرِ). وفيه دليل على صوم السبت لأن اللفظ عام يدخل فيه السبت وغيره.

(8) حديث عائشة عند البخاري: (لَمْ يَكُنِ النبيُّ ﷺ يَصُومُ شَهْرًا أَكْثَرَ مِن شَعْبانَ، فَإِنَّه كَانَ يَصُومُ شَعْبانَ كُلَّهُ). وفيه دليل ظاهر على صوم يوم السبت.

(9) حديث عائشة في الصحيحين: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَصُومُ حتّى نَقُولَ: لَا يُفْطِرُ، ويُفْطِرُ حتّى نَقُولَ: لَا يَصُومُ). وفيه دليل ظاهر على صوم يوم السبت.

فكل هذه الأحاديث تدل دلالة صريحة وظاهرة على جواز التطوع بصوم يوم السبت قال الطحاوي: (ففي هذه الآثار المروية في هذا إباحة صوم يوم السبت تطوعا وهي أشهر وأظهر في أيدي العلماء من هذا الحديث الشاذ الذي قد خالفها).

الثالث: أن الحديث بألفاظه لا يدل على حكم إفراد الصوم وإنما هو نص صريح في النهي عن صوم يوم السبت في النفل ولم يتناول إفراد الصوم لأنه استثنى الفرض فبقي النفل على عمومه سواء كان مفردا أو مقرونا بغيره ولذلك قال ابن تيمية: (واحتج الأثرم بما دل من النصوص المتواترة على صوم يوم السبت. ولا يقال يحمل النهي على إفراده لأن لفظه: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم)، والاستثناء دليل التناول وهذا يقتضي أن الحديث يعم صومه على كل وجه وإلا لو أريد إفراده لما دخل الصوم المفروض ليستثنى فإنه لا إفراد فيه فاستثناؤه دليل على دخول غيره بخلاف يوم الجمعة فإنه بين أنه إنما نهى عن إفراده. وعلى هذا فيكون الحديث إما شاذا غير محفوظ وإما منسوخا وهذه طريقة قدماء أصحاب أحمد الذين صحبوه كالأثرم وأبي داود). وهذا مصادم للأحاديث المجيزة لصومه ولذلك حمله أبو داود على النسخ دفعا لإشكاله الظاهر وحكم عليه الإمام مالك بالكذب لمنافاة معناه للمعنى الثابت بالتواتر.

الرابع: الخلاف المحفوظ عن السلف في هذه المسألة هو القول بالإباحة كما هو مذهب مالك والأوزاعي والزهري وأحمد وغيرهم أو القول بالكراهة كقول بعض التابعين أما القول بتحريم صوم يوم السبت في التطوع فمحدث لا يعرف عن أحد من المتقدمين ولا يعرف عنهم أيضا النهي عن صومه إذا كان مقرونا بغيره وإنما ورد عن بعضهم كراهة إفراد صوم السبت وهذا هو الذي اشتهر عند الفقهاء المتأخرين قال الترمذي: (ومعنى كراهته في هذا أن يخص الرجل يوم السبت بصيام لأن اليهود يعظمون يوم السبت). وإنما هم أخذوا من الحديث الكراهة في الإفراد مع أن الدليل هنا أعم من المدلول لكن لكونه مشكلا لم يعملوا بظاهره لأن عندهم أصل صحيح ثابت في الأحاديث الصحيحة الدالة على جواز صوم السبت: (1) فاستثنوا منه حكم التحريم. (2) واسثنوا أيضا صومه مقرونا بغيره. (3) واستثنوا أيضا جواز صومه لسبب عارض كموافقة يوم فاضل له كعاشوراء وعرفة أو صوم داود. وإنما المنهي عندهم هو تخصيص صومه لاعتقاد تفضيله وتعظيمه كاليهود فتأمل أنهم أهملوا ثلاث معاني وأعملوا معنى واحدا في النص قال ابن قدامة: (قال أصحابنا: يكره إفراد يوم السبت بالصوم والمكروه إفراده فإن صام معه غيره لم يكره لحديث أبي هريرة وجويرية. وإن وافق صوما لإنسان لم يكره). وهذا يدل على أن هذا الحديث مشكل عندهم وليس جاريا على الأصول إذ لو كان عندهم محكما موافقا للأصول لقالوا به وهذا يؤكد شذوذ القول بالتحريم وبعده عن منهج فقهاء أهل الحديث لأنه في الحقيقة مبني على إهمال النصوص المحكمة في هذا الباب وتعطيل لدلالتها. والقائلون بكراهة إفراد صوم السبت إنما قوي هذا المعنى عندهم بالنظر إلى قصد تعظيم هذا اليوم الذي يعظمه اليهود ومع أن الراجح عدم الكراهة مطلقا لكن قولهم حسن في الجملة لأنه لا يخالف الأصول المعتبرة عند أهل العلم والخلاف سائغ. أما من قصد تعظيم السبت تشبها باليهود فيحرم لقصده لا لمجرد أنه صام يوم السبت.

الخامس: من الأصول المتقررة عند فقهاء أهل الحديث أنهم يعملون بالحديث إذا توافر فيه أمران: (1) صحة إسناده بخلوه من الضعف والشذوذ والعلة. (2) عمل الأئمة بمتنه وفقهه. أما الحديث الذي صح إسناده ولم يعمل به السلف فيطرحونه ويهجرون العمل به قال ابن رجب: (فأما الأئمة وفقهاء أهل الحديث فإنهم يتبعون الحديث الصحيح حيث كان، إذا كان معمولا به عند الصحابة ومن بعدهم أو عند طائفة منهم. فأما ما اتفق على تركه فلا يجوز العمل به لأنهم ما تركوه إلا على علم أنه لا يعمل به). وحديث عبد الله بن بسر وإن صح عند بعض أهل العلم إلا أنه متروك من جهة العمل ومن عمل بحديث ظاهره الصحة ولم يتحاكم إلى منهج فقهاء أهل السنة في القرون المفضلة صار مذهبه شاذا خارجا عن جادتهم وقد قال الإمام أحمد: (إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام).

السادس: ليس من الفقه تقديم حديث شاذ مختلف في صحة إسناده وفي دلالة متنه على دلالة أحاديث صحيحة متواترة في المعنى لا يتطرق إليها الشك في ثبوتها ودلالتها فهذا الحديث الفرد لا يقوى على معارضة هذه النصوص الصحيحة لأن دلالتها على الجواز عامة وخاصة صريحة وظاهرة لا يمكن دفعها بحديث مشكل يختلف الناس في تفسيره وثبوته. وهذا هو مقتضى نظر الأئمة المتقدمين الذين عملوا بدلالة النصوص وتركوا حديث النهي وحكموا بشذوذه قال الأثرم في ناسخ الحديث ومنسوخه: (فالأحاديث إذا تظاهرت فكثرت كانت أثبت من الواحد الشاذ كما قال إياس بن معاوية: إياك والشاذ من العلم. وقال إبراهيم بن أدهم: إنك إن حملت شاذ العلماء حملت شرا كثيرا. فالشاذ عندنا هو الذي يجيء بخلاف ما جاء به غيره، وليس الشاذ الذي يجيء وحده بشيء لم يجئ أحد بمثله ولم يخالفه غيره). وقلة منهم أعملوه في حالة خاصة لا تعارض الأحاديث الصحيحة اجتهادا منهم والصواب مع عامة الحفاظ الذين اطرحوا الحديث ولم يعملوا به. وأما الأخذ بحديث النهي وتعطيل أحاديث الجواز فمخالف لمنهج أهل العلم. والتفرد بحكم مستقل لا يكون صحيحا إلا إذا بني على أصل صحيح سالم من النكارة وسالم من المخالفة فإذا تطرق إليه النكارة أو خالف أصلا صحيحا لم يبن عليه عمل.

السابع: على فرض القول بصحة الحديث وهو بعيد فإن غاية ما فيه كراهة تخصيص يوم السبت بصوم التطوع تعظيما له كما تعظمه اليهود فنهي عن ذلك خشية التشبه باليهود وليس المراد النهي المطلق عن صومه قال ابن العربي: (وأما يوم السبت فلم يصح فيه الحديث ولو صح لكان معناه مخالفة أهل الكتاب). أما إذا صامه المسلم لتحصيل فضل عاشوراء أو عرفة أو الست من شوال أو ثلاثة أيام من كل شهر فلا يدخل في النهي لأن استحباب صوم عاشوراء وعرفة في الأحاديث ورد عاما في كل الأيام لم يخصه النبي صلى الله عليه وسلم في أيام معينة فيبقى مستحبا في سائر أيام الأسبوع لا يستثنى منه يوم ولو كان مستثنى منه السبت لنبه الشارع عليه وهذه هي قاعدة الشارع في النهي عن مثله لحديث: (لَا تَقَدَّمُوا رَمَضانَ بصَوْمِ يَومٍ ولا يَومَيْنِ إلَّا رَجُلٌ كانَ يَصُومُ صَوْمًا، فَلْيَصُمْهُ). وقد حمله أهل العلم على هذا المعنى. أما تعطيل الفضائل والسنن لموافقتها ليوم السبت فقول غريب مخالف للأصول.

الثامن: قياس تحريم يوم السبت على العيدين قياس مع الفارق لأن تحريم العيدين أمر متفق عليه مجمع على ثبوت أدلته كما في الصحيحين عن عمر بن الخطاب قال: (إِنَّ هَذَينِ يَوْمَانِ نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صِيَامِهمَا: يَوْمُ فِطرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ، وَالآخرُ يَوْمٌ تَأكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ). وحديث أبي سعيد الخدري في الصحيحين وحديث أبي هريرة في مسلم. وقال ابن قدامة: (أجمع أهل العلم على أن صوم يومي العيدين منهي عنه محرم في التطوع والنذر المطلق والقضاء والكفارة). بخلاف يوم السبت مختلف فيه والأكثر على إعلاله ولا يعرف تحريمه عن أحد من المتقدمين. ووجه ثاني وهو أن العيدين يومان نادران في السنة لا يتكرران الاحتراز منهما سهل ويوم السبت بضع وخمسون يوما يشق الاحتراز منها فلو كان النهي عنه مقصودا كالجمعة لم يهمل الشارع بيانه بيانا واضحا لا لبس فيه. وثمة فرق مهم وهو أن العيد لا يوافق عاشوراء ولا عرفة ولا الست من شوال ولا صوم محرم ولا صوم شعبان أما السبت فيوافق هذه الفضائل كثيرا في السنة فكيف يلحق به.  

والحاصل أن حديث النهي عن صوم السبت لا يثبت ولا يصح العمل به ولا يكره صوم يوم السبت مطلقا. وعلى هذا يكون القول بتحريم صوم يوم السبت تطوعا قول شاذ مهجور عند الأئمة والعمل على خلافه ولا ينبغي الالتفات إليه.

والله الموفق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

 

خالد بن سعود البليهد

15/6/1438


 

 
  • النصيحة
  • فقه المنهج
  • شرح السنة
  • عمدة الأحكام
  • فقه العبادات
  • تزكية النفس
  • فقه الأسرة
  • كشف الشبهات
  • بوح الخاطر
  • شروح الكتب العلمية
  • الفتاوى
  • كتب
  • الصفحة الرئيسية