الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد :
فقد وقفت على كلام نفيس حول هذه المسألة ، وهو لابن عاشور – رحمه الله – في
تفسيره " التحرير والتنوير "
قال – رحمه الله – في تفسير آية النساء ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ
فَتِيلاً )
قال – رحمه الله – :
تعجّب من حال اليهود إذ يقولون : ( نحن أبناء الله وأحباؤه ) ، ( وَقَالُواْ
لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً ) ونحو ذلك من إدلالهم
الكاذب .
وقوله ( بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء ) إبطال لمعتقدهم بإثبات ضدّه ، وهو
أن التزكية شهادة من الله ، ولا ينفع أحداً أن يُزكّي نفسه . وفي تصدير
الجملة بـ " بل " تصريح بإبطال تزكيتهم ، وأن الذين زكّـوا أنفسهم لاحـظّ لهم
في تزكية الله ، وأنهم ليسوا ممن يشاء الله تزكيته ، ولو لم يذكر " بل " فقيل
: و ( الله يُزكي من يشاء ) لكان لهم مَطمع أن يكونوا ممن زكاه الله تعالى .
وقال – رحمه الله – في تفسير آية النجم ( فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ
أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ) :
( فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ ) تحذير للمؤمنين من العُجب بأعمالهم الحسنة
عُجباً يُحدثه المرء في نفسه أو يُدخله أحد على غيره بالثاء عليه بعمله ...
فقوله ( أَنفُسَكُمْ ) صادق بتزكية المرء نفسه في سرّه أو علانيته ...
والمعنى : لا تحسبوا أنفسكم أزكياء ، وابتغوا زيادة التقرب إلى الله أوْ لا
تثقوا بأنكم أزكياء فيدخلكم العُجب بأعمالكم ، ويشمل ذلك ذكر المرء أعماله
الصالحة للتفاخر بها ، أو إظهارها للناس ، ولا يجوز ذلك إلا إذا كان فيه جلب
مصلحة عامة كما قال يوسف : ( اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي
حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) . وعن الكلبي ومقاتل : كان ناس يعملون أعمالاً حسنة ثم
يقولون : صلاتنا وصيامنا وحجنا وجهادنا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
ويشمل تزكية المرء غيره فيرجع ( أَنفُسَكُمْ ) إلى معنى قومكم أو جماعتكم ،
مثل قوله تعالى : ( فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى
أَنفُسِكُمْ ) أي ليُسلّم بعضكم على بعض .
والمعنى : فلا يُثني بعضكم على بعض بالصلاح والطاعة لئلا يُغيّره ذلك .
وقد ورد النهي في أحاديث عن تزكية الناس بأعمالهم ، ومنه حديث أم عطية حين
مات عثمان بن مظعون في بيتها ، ودخل عليه رسول الله صلى الله عليه على آله
وسلم فقالت أم عطية : رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله
، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وما يدريك أن الله أكرمه ؟ فقلت : بأبي
أنت يا رسول الله ! فمن يكرمه الله ؟ فقال : أما هو فقد جاءه اليقين ، والله
إني لأرجو له الخير ، والله ما أدري - وأنا رسول الله - ما يُفعل بي . قالت :
فو الله لا أزكي أحدا بعده أبدا . [ رواه البخاري ]
وقد شاع من آداب عصر النبوة بين الصحابة التّـحرّز من التزكية ، وكانوا
يقولون إذا أثنوا على أحد : لا أعلم عليه إلا خيراً ، ولا أُزكّـي على الله
أحدا ....
وقد ظهر أن النهي متوجِّـه إلى أن يقول أحد ما يُفيد زكاء النفس ، أي طهارتها
وصلاحها ، تفويضا بذلك إلى الله ؛ لأن للناس بواطن مختلفة المُوافقة لظواهرهم
...
فلا يدخل في هذا النهي الإخبار عن أحوال الناس بما يُعلم منهم وجُرّبوا فيه
من ثقة وعدالة في الشهادة والرواية ، وقد يُعبّر عنها بـ " التزكية " وهو لفظ
لا يُراد به مثل ما أُريد من قوله تعالى : ( فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ ) بل
هو لفظ اصطلح عليه الناس بعد نزول القرآن ، ومُرادهم منه واضح .
انتهى كلام ابن عاشور – رحمه الله – .
قال عبد الرحمن – عفا الله عنه – :
وقد أثنى الله على من زكّـى نفسه ، فقال سبحانه : ( قَدْ أَفْلَحَ مَن
زَكَّاهَا )
قد أفلح من زكى نفسه ، أي بطاعة الله كما قال قتادة ، وطهرها من الأخلاق
الدنيئة والرذائل .
وليس كل اسم تضمّن معنى تزكية يُنهى عنه ، وإنما يُنهى عن الأسماء التي
تتضمّن كمال تزكية المرء لنفسه .
وقد جاء النهي عن التّسمّي ببعض الأسماء التي فيها تزكية أو محذور شرعي .
ولم يأتِ النهي – فيما أعلم – عن التّسمّي باسم نبي الله ( صالح )
مع أن هذا الاسم يضمّن معنى تزكية ، وهو الصلاح .
واشتهر هذا الاسم عند السلف من غير نكير .
ومثله الأسماء التي جاء الحث على التّسمّي بها مع تضمنها معنى نوع تزكية ،
كما في قوله صلى الله عليه على آله وسلم : أحب أسمائكم إلى الله عبد الله
وعبد الرحمن . رواه مسلم .
ومع ذلك لا يُعـدّ هذا من التزكية في شيء .
والله أعلم .