يقول بعض الناس - جدلاً - : التقوى ها هنا ، ويُشير إلى صدره
وهذه كلمة حق أُريد بها باطل
وقد سمعتها في جوار بيت الله الحرام
إذا تجادل رجلان : مغربيّ ومشرقيّ
وكان الكلام حول
" زينة الرجال "
، وكان المشرقيّ يُـنكر على المغربي
أنه " لا شارب ولا لحية " !!
فردّ المغربيّ : التقوى ها هنا ، وأشار إلى صدره .
وهذه – لا شكّ – أنها كلمة حق أُريد بها باطل .
نعم .
النبي صلى الله عليه وسلم قال :
التقوى ها هنا ، وأشار إلى صدره .
ولكن التقوى لها أثـر على الجوارح إذا استقرّت في القلب .
الإيمان له حقيقة ، وله ثمار ، وحقيقته ما وَقَرَ في القلبِ ، وصدّقه العمل ،
وما عدا ذلك فدعاوى لا مستند لها .
وقد قيل :
وإذا بحثت عن التـّـقـيّ وجدتـه ***
رجلاً يُصدّق قوله بـِـفِـعـالِ
وإذا اتّــقـى اللهَ امـرؤٌ وأطاعـه *** فـيَـداه بين مكـارمٍ ومَعـالِ
وعلى التَّقـيِّ إذا ترسّـخ في التُّـقى *** تاجـان : تاج سكينة وجمـال
وإذا تناسبت الرجــال فمـــا أرى *** نسباً يكون كصالح الأعمــال
وقد حصل ما يُشبه ذلك الفَهْم في زمنِ عمرَ بنِ الخطاب – رضي الله عنه – .
فقد روى عبد الرزاق في المصنف أن عمر بن الخطاب استعمل قُدامةَ بنَ مظعون على
البحرين – وهو خالُ حفصة وعبد الله بن عمر – فقدم الجارود سيد عبد القيس على
عمر من البحرين ، فقال : يا أمير المؤمنين إن قدامةَ شَرِبَ فسَـكِرَ ، ولقد
رأيت حـدّاً من حدود الله حقّـاً عليّ أن أرفعَه إليك .
فقال عمر : من يشهدُ معك ؟
قال : أبو هريرة ، فدعا أبا هريرة فقال : بِمَ تشهد ؟
قال : لم أرَهُ يشرب ، ولكني رأيتُهُ سكران .
فقال عمر : لقد تنطّعتَ في الشهادة .
قال : ثم كتب إلى قدامة أن يَقْدُم إليه من البحرين ، فقال الجارودُ لعمر :
أقم على هذا كتابَ الله عز وجل ، فقال عمر : أخصمٌ أنت أم شهيد ؟ قال : بل
شهيد . قال : فقد أديتَ شهادتَكَ .
قال : فقد صمت الجارود حتى غدا على عمر ، فقال : أقم على هذا حدَّ الله .
فقال عمر : ما أراك إلا خصما ! ، وما شهد معك إلا رجل .
فقال الجارود : إني أنْشُدُكَ الله .
فقال عمر : لتُمسكنَّ لسانَك أو لأسوأنّك .
فقال الجارود : أما والله ما ذاك بالحق . أنْ شَرِبَ ابنُ عمك وتسوءني .
فقال أبو هريرة : إن كنت تشكُّ في شهادتنا فأرسل إلى ابنة الوليد فَسَلْها –
وهي امرأة قدامة – فأرسل عمر إلى هند ابنةِ الوليد ينشُدُها ، فأقامت الشهادة
على زوجها .
فقال عمر لقدامة : إني حادُّك .
فقال : لو شربت كما يقولون ما كان لكم أن تجلدوني !
فقال عمر : لِـمَ ؟
قال قدامة : قال الله تعالى : ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ
الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ
وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ
وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )
فقال عمر : أخطأتَ التأويل .
إنك إذا اتقيتَ اجتنبتَ ما حرّمَ
اللهُ عليك
.
قال : ثم أقبل عمر على الناس ، فقال : ماذا تَرون في جَلْدِ قدامة ؟
قالوا : لا نرى أن تجلده ما كان مريضا .
فَسَكَتَ عن ذلك أياماً ، وأصبح يوماً وقد عَزَمَ على جَـلْـدِهِ ، فقال
لأصحابه : ماذا ترون في جَلْدِ قدامة ؟
قالوا : لا نرى أن تجلده ما كان ضعيفا .
فقال عمر : لأن يلقى اللهَ تحتَ السياطِ أحبُّ إلي من أن يلقاه وهو في عنقي .
ائتوني بسوطٍ تامّ فأمر بقدامة فجُـلد .
والشاهد قول المُحَدَّث الملهمِ عمر – رضي الله عنه – : أخطأتَ التأويل .
إنك إذا اتقيتَ اجتنبتَ ما حرّمَ
اللهُ عليك .
كما أن قدامةُ – رضي الله عنه – لم يَحتجَّ على عمر – رضي الله عنه – بأن
التقوى ها هنا ، ولم يُشِرْ إلى صدره .
قال ابنُ حبان في روضة العقلاء : أولُ شُعبِ العقل لزوم تقوى الله ، فإن مَنْ
اصلَحَ جُـوّانِيّه أصلَحَ اللهُ بَرّانيَّـه ، ومن فَسَـدَ جُوّانيّه أفسـد
اللهُ بَرّانيّـه .
قال أبو محمد الأندلسي في نونيته :
إن التّـقيَّ لـربِّـه مُتنـزِّهٌ *** عن صوتِ أوتارٍ وسمـعِ أغانِ
وتلاوةُ القرآن من أهل التُّقى*** سيما بحُسن شجا وحُسنِ بيان
أشهى وأوفى للنفوس حلاوةً *** مِن صوت مزمارٍ ونقـرِ مَثَانِ
هذا ما فهمه سلف هذه الأمة .
(((
إنك إذا اتقيتَ اجتنبتَ ما حرّمَ
اللهُ عليك )))
و
ليس الإيمان بالتّمني ولا بالتّـحـلِّي ، ولكنه ما وَقَـرَ في القلوب ،
وصدقته الأعمال . كما قال الحسن – رحمه الله – .
ويُقال مثل هذا القول بالنسبة للمرأة ، فإن الإيمان إذا وقر في قلبها حملها
ذلك على التمسّك بدينها ، ولو طالتها ألسنة السوء ، أو نالها الأذى ، وما خبر
سُميّة عنا ببعيد .
ورحم الله عبداً ترك المِراء ، وأقبل على نفسه فأصلحها .