قال ابن خلكان في وفيات الأعيان :
رأيت بدمشق في أواخر سنة ثمان وستين وستمائة ( 668 ) جزءاً بخط الشيخ تاج
الدين عبد الله بن حمويه شيخ الشيوخ كان بـها وكان قد سافر إلى مراكش وأقام
بـها مدة وكتب فصولا تتعلق بتلك الدولة فمن ذلك فصل يتعلق بـهذه الوقعة
فينبغي ذكره ها هنا فقال لما انقضت الهدنة بين الأمير أبي يوسف يعقوب بن يوسف
بن عبد المؤمن صاحب المملكة الغربية وبين ( الأذفونش ) الفرنجي صاحب غرب
جزيرة الأندلس وقاعدة مملكته يومئذ طليطلة وذلك في أواخر سنة تسعين وخمسمائة
عزم الأمير يعقوب وهو حينئذ بمراكش على التوجه إلى جزيرة الأندلس لمحاربة
الفرنج وكتب إلى ولاة الأطراف وقواد الجيوش بالحضور وخرج إلى مدينة ( سلا )
ليكون اجتماع العساكر بظاهرها فاتفق أنه مرض مرضا شديدا حتى أيس منه أطباؤه
فتوقف الحال عن تدبير ذلك الجيش فحُمل الأمير يعقوب إلى مراكش فطمع المجاورون
له من العرب وغيرهم في البلاد وعاثوا فيها وأغاروا على النواحي والأطراف
وكذلك فعل الأذفونش فيما يليه من بلاد المسلمين بالأندلس ، واقتضى الحال
تفرقة جيوش الأمير يعقوب شرقا وغربا واشتغلوا بالمدافعة والممانعة فكثر طمع
الأذفونش في البلاد وبعث رسولا إلى الأمير يعقوب يتهدد ويتوعد ويطلب بعض
الحصون المتاخمة لـه من بلاد الأندلس وكتب الأذفونش إليه رسالة من إنشاء وزير
لـه يعرف بابن الفخار ، وهي :
باسمك اللهم فاطر السموات والأرض وصلى الله على السيد المسيح روح الله وكلمته
الرسول الفصيح أما بعد :
فإنه لا يخفى على ذي ذهن ثاقب ولا ذي عقل لازب أنك أمير الملة الحنيفية كما
أني أمير الملة النصرانية، وقد علمت الآن ما عليه رؤساء أهل الأندلس من
التخاذل والتواكل وإهمال الرعية وإخلادهم إلى الراحة وأنا أسومهم بحكم القهر
وجلاء الديار ، وأسبي الذراري وأُمثّل بالرجال ولا عذر لك في التخلف عن نصرهم
إذا أمكنتك يد القدرة ، وأنتم تزعمون أن الله تعالى فرض عليكم قتال عشرة منا
بواحد منكم ، فالآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ، ونحن الآن نقاتل عشرة
منكم بواحد منا لا تستطيعون دفاعا ، ولا تملكون امتناعا ، وقد حُكيَ لي عنك
أنك أخذت في الاحتفال وأشرفت على ربوة القتال ، وتماطل نفسك عاما بعد عام
تـُـقدم رجلا وتؤخر أخرى ، فلا أدري أكان الجبن أبطأ بك أم التكذيب بما وعد
ربك ؟ ثم قيل لي : إنك لا تجد إلى جواز البحر سبيلا لِعلّةٍ لا يسوغ لك
التقحم معها ، وها أنا أقول لك ما فيه الراحة لك وأعتذر لك وعنك على أن تفي
بالعهود والمواثيق والاستكثار من الرهان وترسل إلى جملة من عبيدك بالمراكب
والشواني والطرائد والمسطحات وأجوز بجملتي إليك وأقاتلك في أعز الأماكن لديك
فإن كانت لك فغنيمة كبيرة جلبت إليك وهدية عظيمة مثلت بين يديك وإن كانت لي
كانت يدي العليا عليك واستحقيت إمارة الملتين والحكم على البـرّين والله
تعالى يوفق للسعادة ويسهل الإرادة لا رب غيره ولا خير إلا خيره إن شاء الله
تعالى ، فلما وصل كتابه إلى الأمير يعقوب مزقه وكتب على ظهر قطعة منه : (
ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بـها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون
) الجواب ما ترى لا ما تسمع
ولا كتب إلا المشرفية عنده ***** ولا رسل إلا الخميس العرمرم
- قلت وهذا البيت للمتنبي –
ثم أمر بكتب الاستنفار واستدعى الجيوش من الأمصار وضرب السرادقات بظاهر البلد
من يومه وجمع العساكر وسار إلى البحر المعروف بـزقاق سبتة ، فعبر فيه إلى
الأندلس وسار إلى أن دخل بلاد الفرنج وقد أعتدّوا واحتشدوا وتأهبوا فكسرهم
كسرة شنيعة وذلك في سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة ( 592 ) انتهى ما نقلته من
الجزء المذكور .
قلت ( القائل ابن خلكان ) : ثم وجدت في كتاب تذكير العاقل وتنبيه الغافل
تأليف أبي الحجاج يوسف بن محمد بن إبراهيم الأنصاري البياسي هذه المكاتبة
وجوابـها قد كتبـها الأذفونش بن فرذلند إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين
الآتي ذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى وجواب يوسف على هذه الصورة أيضا ،
والله أعلم .
قلت وذكر البياسي بعد هذا ما يدل على أنه نقلها من خط ابن الصيرفي الكاتب
المصري فإن كان كذلك فما يمكن أن تكون هذه الرسالة إلى يعقوب بن يوسف لأن ابن
الصيرفي متقدم التاريخ على زمان يعقوب بكثير ، والله أعلم .
انتهى كلامه – رحمه الله – .
تلك العِـزّة المفقـودة ...
وتلك نخوة أهل الإسلام ...
وتلك نصرتهم لدين الله ...
وتلك نصرتهم لدين النبي محمدٍ صلى
الله عليه وسلم .