ثمـة داء انتشر ، ومرض تفشّى في كثير من الجتمعات ، بل لا يكاد مُجتمع أن
يسلم منه
وهذا الداء كبيرة من كبائر الذنوب
فاعله ملعون على لسان نبي الله صلى الله عليه وسلم
فقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي . كما عند الإمام أحمد
والترمذي .
إن هذا الداء العضال إذا انتشر في مجتمع أُصيب أفراده بالاتكالية والخمول
والتكاسل ، فيُصبح الموظف والعامل لا يؤدّي عملاً أُنيـط به إلا بوجود مقابل
ليس له فيه أدنى حق .
ويُصبح التنافس على أمور الدنيا على أشدِّه
وتعمّ الفوضى
وتؤكل أموال الناس بالباطل
وقد نهى الله عن ذلك فقال : ( وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم
بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا
مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ )
أمَـا لو جلس ذلك الموظف أو المعلم أو المعلمة في بيته لما أُهدي إليه ولما
أُعطي .
وإنما أُعطي وأُهدي إليه لأنه تبوأ ذلك المكان ، أو شغل تلك الوظيفة .
روى البخاري ومسلم عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال : استعمَل رسول الله
صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد على صدقات بني سليم يُدعى ابن اللتبية ،
فلما جاء حاسبه . قال : هذا مالكم ، وهذا هدية ! فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقا ! ثم
خطبنا ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد فإني استعمل الرجل منكم
على العمل مما ولاّني الله ، فيأتي فيقول : هذا مالكم ، وهذا هدية أهديت لي ،
أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته ؟ والله لا يأخذ أحد منكم شيئا
بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة ، فلأعرفن أحداً منكم لقي الله يحمل
بعيراً له رغاء ، أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر ، ثم رفع يده حتى روي بياض
إبطه يقول : اللهم هل بلغت .
من فوائد هذا الحديث :
1 –
استعمال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل على غير قومه حتى لا تقع المحاباة .
2 –
عدم اكتفاء النبي صلى الله عليه وسلم بثقته بالرجل ، بل لما رجع حاسبه على ما
أُرسل إليه .
3 –
وضوح الصحابة رضي الله عنهم ، فلم يُخف الرجل ما أُعطي وما أُهدي له .
4 –
مِنْ مداخل الشيطان تسمية الأشياء
بغير مسمياتها .
5 –
تحريم ما يُهدى إلى من تولّى عملاً ممن لهم علاقة بالعمل ، فإنه لو جلس في
بيته لما أُهدي إليه .
6 –
استعمال النبي صلى الله عليه وسلم لأسلوب التلميح ، وعدم تسمية الرجل ، ويجوز
أن يُسمّى الرجل إذا وُجدت المصلحة .
7 –
مغبّة هذا الأمر ، وخطورة الرشوة ، ولو كان باسم " هدية " ، وأن من أخذ شيئا
من أموال الناس فإنه سوف يأتي يوم القيامة يحمل ما أخذه ، ينوء بحمل ما تمتع
به في الدنيا .
8 –
حرص النبي صلى الله عليه وسلم على البلاغ المبين .
9 -
عدم المجاملة في الأمور المحرمة .
إن الإسلام حرّم الأموال وحفظها وصانها .
فالمال ضرورة من ضرورات الحياة ، والإسلام جاء بحفظ الضرورات والكليّات التي
تقوم عليها حياة الناس .
وحرّم قبول ما في أيدي الناس إذا كان ثمنا لِدِين المسلم .
فـ " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه "
ولا يمكن أن يبذل المسلم العاقل ماله في سبيل مريض نفس – مرتشي – إلا تحت
وطأة الحاجة لاستخلاص حقه ، أو نتيجة مرض قلبي لأخذ ما ليس له ، أو إعطائه ما
ليس له .
إن الإسلام يُربي في أتباعه النـزاهة ونظافة اليد .
ويُربي فيهم الحرص على اتقان العمل
" إن الله عز وجل يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه "
ويحثهم على أداء العمل على الوجه المطلوب دون النظر إلى ما في أيدي الناس
ودون التّطلّع إلى كرائم أموال الناس
ولذا قال عليه الصلاة والسلام : وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس . رواه
الإمام أحمد والترمذي .
وأما آثار ذلك المرض الخطير ، فمنها :
1 –
أكل أموال الناس بالباطل .
2 –
التكاسل والاتكالية .
3 –
دناءة النفس في التطلّع إلى ما في أيدي الآخرين .
4 –
مُحاباة بعض الناس على حساب الآخرين .
5 –
إعطاء بعض الناس ما ليس لهم وجه حق فيه .
6 – تقديم مَن ليس أهلاً للتقديم .
7 –
غشّ الأمة إذا كان قبول الرشوة في مجال التعليم .
والرشوة هي الرشوة ولو غُلّفت بغلاف " الهدية " !
وهي سُحت يأكلها صاحبها .
واستثنى العلماء من ذلك :
1 –
أن يكون للمسلم حق ولا يستطيع استخلاصه وأخذه إلا بالفداء والتضحية ببعضه .
واستدلوا بما عزم عليه النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق من أن يُفادي
المدينة ويحمي الأنصار ببعض ثمر نخلهم .
ومع ذلك إذا اضطر الشخص لمثل هذه الحالة فعليه أن يكره هذا الأمر ، وإذا كان
يُمكنه قطع دابر ذلك العضو الفاسد فليفعل ، بإبلاغ من له أمر ونهي ومن له
سلطة يردع بها مثله .
2 –
أن يكون الشخص الذي أهدى إليه كان له به صِلة قبل أن يصل إلى ذلك المنصب ،
ويكون بينهما ودّ قديم فيُهدي إليه ، وإن تركه تورّعاً فهو أولى وأفضل .
وما انتشرت مثل هذه الظواهر إلا من قبل عجز الثقة ، فيرى المسلم بعض تلك
المظاهر ويكتفي – أحياناً – بهزّ رأسه ، أو زمّ شفتيه ، أو التبرّم ، ونحو
ذلك مما لا يحسر مـدّ مُنكر ، ولا يقطع دابر فساد .