اطبع هذه الصفحة


«هَلَّا أذكَرتَنيها؟!»
رَدُ عِلميٌ، موثق، على عادية د. أحمد العيسى على الأمة

بقلم: عبدالرحمن بن عبدالله الصبيح
«معلم تربية إسلامية»
@asbeeh

 
بسم الله الرحمن الرحيم

تَمَّ إرسال المقال لصحيفة الحياة إتباعاً للتقليد الصحفي المتبع: أن الرد يكون في نفس الوسيلة الإعلامية، وكانت وسائل الإعلام تزعم أن حق الرد مكفول للجميع، وأن فرص الجميع متساوية، ولكنها تعللت –ربما لأول مرة تُخل صحيفة عربية بهذا العرف الإعلامي!- عن نشره بعدة أسباب!!

الحمد لله رب العالمين، وبعد،،
فقد كتب د. أحمد العيسى في صحيفتكم الموقرة؛ الحياة، [الأحد، 2 ذو القعدة ١٤٣٦هـ] مقالة بعنوان بـِ (قراءة هادئة في قرار فتح فصول لتحفيظ القرآن الكريم)، والمقالة اعتراض على قرار وزير التعليم د.عزام الدخيل فتح فصول تحفيظ القرآن في المدارس، لأن هذا –كما يزعم!- لم تعرفه الأمة سابقاً، وأن الاهتمام بالحفظ بدعة مررها الأعاجم على الأمة زمن انحطاط، فالحفظ –ويعني حفظ القرآن!!- (نتاج عصور انحطاط الحضارة الإسلامية)، كذا يقول والله!
وحفزني للرد على مقالته أنها من أكاديمي، وحين يكون (أكاديمياً) فإن هذا يعني حزمة كبيرة من أساليب وطرائق البحث العلمي وطرق الاستدلال يجرها في آخر المقال، عارف -كما يصف نفسه-، وله كتاب في (إصلاح التعليم في السعودية) وآخر عن (التعليم العالي في السعودية)، ومدير سابق لأحد الجامعات في السعودية، مما يعني أن لمقالته وزناً أكاديمياً وتربوياً معتبراً.
ورَغم ما حفلت به المقالة من مغالطات وتناقضات، وأخطاء منهجية تُسيل لُعاب الرَّاد، وتفتح شهية المتتبع بلا عناء؛ إلا أن كل هذا لم يحفزني للرد؛ كما حفزني قوله: أن حفظ القرآن نتاج زمن الانحطاط، وأن الأمة في أصلها غير مهتمة بحفظه!!
وستكون مناقشة الدكتور تارة في المنهج العلمي المتبع، وتارة في المعلومة، وأخرى في الفهم والتحليل، ومن الله استمد الإعانة والتوفيق.

(ملكات التفكير النقدي)

عاب الدكتور طلاب القرآن، وحذر من تعطيل ملكات التفكير النقدي، فطلاب القرآن ومعلموهم –كما يراهم الدكتور- يؤثرون (مبدأ السلامة)، و يخشون «إطلاق ملكات التفكير النقدي والاستنتاج والتحليل العقلي عند دراسة العلوم الشرعية»، والظن بالعارف –كما وصف نفسه- أن يكون أنموذجاً يحتذى به في النقد و التحليل.
يقول الدكتور: «ومما يؤكد هذا –أي عدم عناية الأمة بحفظ القرآن- ما جاء في حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه قال: (مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد) (رواه البخاري)».
هل يعي الدكتور ما قاله حقاً ؟ وهل يعلم النتائج الوخيمة والفضائح العلمية التي ترتبت على قوله هذا؟ الظن به: نعم، فأنت أستاذ أكاديمي تعيب على الآخرين تعطيلهم (ملكات التفكير النقدي والتحليل العقلي)، والظن أنك مارست نقداً عالياً للنص، وحللته قبل كتابته، و النتيجة التي خرجتَ بها: أنه لم يحفظ القرآن على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أربعة ، وسأغض الطرف –مؤقتاً-، و أرجئ تناقضك قبل هذا بسطر واحد حين قلت: (بعد استشهاد جمع من الحفاظ!) وليس واحداً!
قبل النظر في النص، لنسأل أي طالب صغير من طلاب القرآن: من أقرأ هذه الأمة؟ فسيقول أبي بن كعب رضي الله عنه. ولنسأل طالباً آخر: من الصحابي الذي أوتي مزماراً من مزامير آل داود؟ فسيقول: أبو موسى الأشعري رضي الله عنه. أين هؤلاء في هذا الحديث؟
لو أن الدكتور –وفقه الله- قَلَّب صفحات المصحف جيداً بدلاً من كتابة مقالته (الهادئة)؛ لا سِيَّما وقد فارقنا شهر القرآن من أيام معدودات، لوجد في الصفحة التي تلي سورة الناس هذا النص: «كُتب هذا المصحفُ وضُبط على ما يوافق رواية حفص بن سليمان... عن أبي عبدالرحمن عبدالله بن حبيب السُلمي عن عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم»، لم يحفظ من هؤلاء إلا زيد بن ثابت حسب قول الدكتور!
هل تعلمون -أيها السادة!- من الذي يعنيه هذا؟
يعني أن القرآن الذي بين أيدينا، والذي طبعه مجمع الملك فهد منقطع الإسناد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم!! فمن أين أتانا؟!! ومن الذي رواه؟!
لست على يقين إن كان د.أحمد يدرك هذا المعنى الخطير حين كتب ما كتب، وإن كان المنطق يقول إنه يعي ذلك جيداً، فهو من العارفين كما يصف نفسه، يقول: «والواجب يحتم أن يصدح العارفون بالحق مهما كانت النتائج والتبعات»، مهما كانت النتائج والتبعات!! كما له كتاب في (إصلاح التعليم في السعودية)، ودعوته للمنهج المتكامل، واستخدامه أدوات التفكير النقدي، والتحليل، وحل المشكلات ...الخ، فإن لم يكن يدرك أبعاد كلامه ومراميه، فمن الذي يدركه؟!
لكلام الدكتور مقدمتين ونتيجة لا يصح حمله على غيرهما، المقدمة الأولى: لم يحفظ القرآن إلا هؤلاء الأربعة. والثانية: نُقِل إلينا القرآن من غير هؤلاء الأربعة. النتيجة: إسناد القرآن منقطع!!
والأربعة الذين ذكرهم أنس، في حقيقتهم ثلاثة، لأن أبا زيد –وهو أحد أبناء عمومة أنس كما في الحديث- مختلف في اسمه وتعيينه، فهو من المبهمين، كما أنه تقدمت وفاته، ولا عَقِبَ له. فعلى رأي د. أحمد العيسى لم يأخذ القرآن من الرسول إلا ثلاثة نفر على وجه يستطيعون تأديته إلينا!
فهل يقول بهذا القول أحد من المسلمين؟ فإن قال لم أقصد هذا المعنى، أو: لم أعلم أن القرآن منقول بالإسناد، أو بهذا الإسناد، فأقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}. ولو قلنا بقصور (ملكات التفكير النقدي والتحليل العقلي) لديك لغضبتَ، وعددت ذلك تجاوزاً.
وجواباً على ما تقدم: فحديث أنس لا سبيل للطعن فيه، لأنه في صحيح البخاري، فكيف نتعامل معه؟ نستطيع التعامل مع الحديث عبر عدة تقنيات وأدوات نقدية قررها أهل العلم، أولها: هل الحديث من قبيل الأخبار أم الأحكام؟ بمعنى هل يمتنع أن يوجد غير هؤلاء الأربعة حفظ القرآن ولم يعلم به أنس؟ أم أن هذا متعذر للحديث؟ الجواب: أنه من الأخبار فيعامل معاملة الأخبار، وأنس يخبر بما عَلِم، ومثله قول عائشة عند الترمذي وأبو داود وابن ماجه : «من حدثكم أن الرسول يبول قائما فلا تصدقوه»، فهي أخبرت بما علمت، وغيرها أخبر بما علم ورأى، فهذا أول فرز للنص.
ثانياً: بعد ذلك ننظر في الروايات ونجمعها، حتى نفهم مراد أنس رضي الله عنه كما أراده، لا كما أراده د. أحمد، ففي الصحيحين [البخاري 3810/مسلم 2465] نص أنهم (من الأنصار)، وفي طريق آخر خص أنهم من الخزرج، وللحديث سياق: أن الأوس والخزرج تنافسا، فقال أنس حفظ منا القرآن أربعة، وفي المتفق عليه –وهو أعلى رتبة من انفراد أحد الصحيحين- ذكر أبي بن كعب بدل أبي الدرداء، أي لم يجمع القرآن من الخزرج على حياة النبي صلى الله عليه وسلم سِوى هؤلاء الأربعة أو الخمسة بالنظر لمجموع الطرق.
ثالثا: عند التعارض وتعذر الجمع، ننظر معارضة الحديث وموافقته لغيره، وعندنا ما هو أرجح منه؛ لأن الأول من باب الأخبار بخلاف حديث عبدالله بن عمرو، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «استقرئوا القرآن من أربعة: من عبدالله بن أبي بن مسعود –فبدأ به- وسالم مولى أبي حذيفة، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل» [البخاري 3758/ مسلم 2464]، وليس بين الحديثين تعارض ولله الحمد.
والمقصود أن ما فهمه أ. أحمد من قول أنس رضي الله عنه، لم يُرده أنس، وإنما هو فهم ابتكرته مَلَكات الدكتور –مدير الجامعة السابق- النقدية، وهذه المَلَكات المغامرة هي التي نبه عليها طالب العلم المشهور الذي لَمَزه الدكتور في مقالته. كان قصد طالب العلم المشهور ألا يخرج أحد بمثل هذا الفهم فينسبه لكتاب الله أو سنة رسوله. وتصحيح هذه الدعوى التي تفضي للقول بانقطاع أسانيد القرآن أولى بالدفع من دعوى المقال الرئيسة.
استسذج الدكتور الأكاديمي –مدير الجامعة السابق!- علوم الشريعة وطلاب القرآن، فوقع في أمر بديهي، ساذج، لا يقع فيه صغار الطلبة، وعَظَّم من شأن العقل والفهم والنقد، وذَمَّ التلقين، ثم هو يعجز عن إدراك المُدرَكات البديهية. هل هذا هو المنهج المتكامل، وهل هذه هي ملكات التفكير النقدي التي يدعو إليها الدكتور؟ هل هذا هو الفهم الذي يدعو إليه؟ يا أستاذ، خفف الوَطء على الأرض، فإنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا، طلاب القرآن لا يقعون فيما وقعت فيه، ولو خالطتهم، وأتيت البيوت من أبوابها وقصدت علوم الشريعة من مسالكها لتبين لك أنها أعمق مما تظن، ما الذي كان يمنعك أن تراجع أي شرح لحديث أنس رضي الله عنه؟

(ذِكر المَقْرَأة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام)

قال: «ولم تذكر أدبيات السيرة النبوية أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وخلفاءه من بعده أنهم قد أقاموا حلقات لتحفيظ القرآن».
تمحيص هذه الدعوى سيكشف لنا زيف ما قبلها.
رغم تسارع الزمان وتزاحم الأحداث، وانشغال النبي عليه السلام بأمر الأمة، وتقطع نزول الوحي، وضيق سِنِيَّ النبي صلى الله عليه وسلم الأخيرة، التي شهدت توافد الوفود، وفتح مكة، وحجة الوداع، ومؤتة و العسرة، فضلاً عن حياة الرسول الخاصة، وإدارته شؤون العامة، ثم مرضه عليه الصلاة والسلام، رغم هذا كله، فقد جلس صلى الله عليه وسلم لإقراء القرآن، وعَلَّم أصحابه، فمنهم من قرأ عليه جزءا، ومنهم من أتَمَّ القرآن عليه.
تأخرُ إسلام بعض الصحابة، وانشغالهم، وتقطع الوحي، وتأخر نزول بعض السور، وقِصَر المدة؛ لأن القرآن لم يستتم كاملا إلا قبل وفاة النبي عليه السلام بمدة وجيزة، وعدم تدوين المصحف، فمن رام أخذه؛ لا بد أن يأخذه مشافهة، رغم كل هذه التحديات و العوائق إلا أن هناك نفراً أخذوا القرآن من فِيِّ النبي صلى الله عليه وسلم، ومن تعذر أن يأخذه من النبي، أخذه ممن أخذه منه، فكان الصحابي يأخذ الآية ثم يذهب يعلمها جيرانه وأهله وأصحابه، وكان بعض الصحابة، كما كان عمر وصاحبه الأنصاري يتناوبان، يوم لعمر يحضر عند الرسول، ويوم للأنصاري، ثم يعلم كل منهما صاحبه.
وتعلمُ القرآن على حياة النبي صلى الله عليه وسلم أصعب بكثير من التعلم بعد وفاته، لأمور: تقطيع السور، عدم تدوين المصحف بالشكل الحالي، فكانت الآية تنزل، فيجمع الرسول الناس، فيلقي عليهم الآيات، ثم يقول ضعوها في مكان كذا، فلو لم يكونوا يحفظون القرآن حفظا متقنا ما استطاعوا ضبط ما يمليه عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانوا يستعينون على ذلك ببعض الكتابة، وبعضهم كان يدون لنفسه. ولا يكتفون بهذا، بل كانوا بعد ووفاة النبي صلى الله عليه وسلم يراجعون ويعرض بعضهم على بعض، وسيأتي بعض ذلك. والمقصود ذكر مقرأة النبي صلى الله عليه وسلم.
عُنيَ عليه السلام بإقراء القرآن، فقال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»، ولا يحث الرسول على أمر إلا ويكون الأسبق إليه، فممن قرأ القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم:
عثمان بن عفان رضي الله عنه. وبِه بدأ الذهبي في كتابه (معرفة القراء الكبار على الطبقات و الأعصار). «قال الداني: عرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم، وعرض عليه أبو عبد الرحمن السلمي، والمغيرة بن أبي شهاب، وأبو الأسود، وزر بن حبيش». [تاريخ الإسلام للذهبي 257/2]، ولو اكتفيت بهذا لرد كلام الدكتور: «ولم تذكر أدبيات السيرة النبوية أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وخلفاءه من بعده أنهم قد أقاموا حلقات لتحفيظ القرآن»، لكفى، فهذا الرسول وهذا أحد الخلفاء، كلاهما جلس للإقراء.
وأقرأ النبي عليه السلام: علي بن أبي طالب، وأبي بن كعب، وعبدالله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبا موسى الأشعري، وأبا الدرداء. واختُلِفَ في أبي بكر، فذهب السيوطي، و أقره ابن كثير: أن أبا بكر أقرأ الصحابة لتقديم الرسول إياه في الصلاة، وانتصر له الكتاني في (تراتيبه)، وعزاه لجماعة منهم النووي، ولم يذكره الذهبي في طبقاته، وليس هنا محل بحث المسألة.
قال الكتاني: «وفي الرياض المستطابة: جمع القرآن حفظا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة: علي، وعثمان، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وزيد بن ثابت، وأبو زيد الأنصاري، وتميم الداري، وعبادة بن الصامت، وأبو أيوب اهـ. » [التراتيب الإدارية، ت: عبدالله الخالدي: 1/107].
وقال: «ورأيت في ترجمة (مَجْمَع بن حارثة) من طبقات ابن سعد: روى الكوفيون أنه جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلّا سورة أو سورتين منه. وفي ترجمته من الاستبصار قال ابن إسحاق: كان مَجْمَع غلاما حدثا قد جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ا.هـ». قلتُ: كان هذا حال غِلمان الصحابة أحداثهم، فما الظن برجالهم؟
هل يكفي هذا للرد على كلام الدكتور: (لم تذكر أدبيات السيرة أن النبي جلس للإقراء)، وهل يكفي هذا لدحض دعواه الغريبة: أن «ظاهرة «حفظ» القرآن هي نتاج عصور انحطاط الحضارة الإسلامية»، فهل ذلك العصر عصر انحطاط؟
وأقرأ الرسول صلى الله عليه وسلم (شهاب القرشي) القرآن كله، فكان عامة أهل حمص يقرءون بقراءته.
وللنساء نصيب، فقد جمعت القرآن في العهد النبوي أم ورقة (الشهيدة) بنت عبد الله بن الحارث الأنصاري، وقد كان رسول الله يزورها، ذكرها ابن سعد في طبقاته. ويراجع كتاب (التراتيب الإدارية)، فقد عقد فصلا طويلا لهذا الموضوع.
يقول أ. أحمد: «والواجب يحتم أن يصدح العارفون بالحق مهما كانت النتائج والتبعات»، فهل كان من العارفين حين أطلق دعواه؟
وممن حفظ بعض القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم عبدالله بن عباس، مات رسول الله وله من العمر أقل من ثلاث عشرة سنة، وكان يحفظ المفصل، ثم أتمه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولم تقتصر المقرأة النبوية على الإقراء التقليدي، فقد كان صلى الله عليه وسلم دائم التحفيز، من ذلك تقديمه أن الأقرأ هو الأحق بالإمامة ولو كان صبياً كما كان عمرو بن مسلمة يؤم قومه، وقصته في حفظ القرآن عجيبة، وكان يزوج الرجل بما معه من كتاب الله، ولا يقتصر تقديم الحافظ في حياته فقط، بل حتى بعد مماته، فعند تزاحم الجنائز يقدم الأحفظ، وفي شهداء أحد، قدَّم الأكثر قرآنا. فإن تساووا أحياء و أمواتاً أقرعوا بينهم.
ومن طرقه عليه السلام في الإقراء وحرصه عليه أنه يطلب من بعض أصحابه أن يقرؤوا عليه، ويثني على قراءتهم، طلب ذلك من عمر بن الخطاب وصاحبه وابن مسعود وأبي بن كعب وغيرهم، بل كان صلى الله عليه وسلم يفعل شيئا عجيباً، كان يسير في الليل، فإذا استمع لقارئ يقرأ القرآن جلس ينصت لقراءته، فإذا أصبح أثنى عليه، ووجهه إن لَحِظَ عليه شيئا، فعل ذلك مع عدد من الصحابة، منهم أبو بكر وعمر وأبو موسى الأشعري وغيرهم كثير، وفي بعض الأحيان كانت الملائكة هي من تخبر الرسول بقراءة أصحابه.
وأعجب ما وقفت عليه من تحفيز الرسول أصحابه وحثه إياهم على الحفظ أنه كان يطلب منهم الفتح عليه في الصلاة ويشجعهم على ذلك، روى أبو داود بسنده عن المُسوَّر بن يزيد المالكي: قال: شهِدتُ رسولَ الله- صلى الله عليه وسلم -يقرأ في الصلاة، فترك شيئًا لم يقرأه، فقال له رجلٌ: يا رسول الله، آيةُ كذا وكذا، فقال رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم -: «هَلَّا أذكَرتَنيها». وقول المُسوَّر (رجل) يعني أنه غير معروف، ولو كان معروفا لسماه، وهذا يدل على شيوع الحفظ بين الصحابة رضي الله عنهم.
وعند أبي داود عن عبد الله بن عمر: أن النبي- صلى الله عليه وسلم -صلّى صلاةً فقرأ فيها فلُبِسَ عليه، فلمَّا انصَرَفَ قال لأُبي: «أصليتَ معنا؟» قال: نعم، قال: «فما منعك؟»
وعن ابن عباس قال: «تردد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القراءة في صلاة الصبح، فلم يفتحوا عليه، فلما قضى الصلاة نظر في وجوه القوم، فقال: أما شهد الصلاة معكم أبي بن كعب؟ قالوا: لا» فرأى القوم أنه إنما تفقده ليفتح عليه. [المغني لابن قدامة 42/2]
قارن ما سبق بما قاله الدكتور غفر الله له: «ولم تذكر أدبيات السيرة النبوية أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وخلفاءه من بعده أنهم قد أقاموا حلقات لتحفيظ القرآن»، «ولو كان الحفظ والتحفيظ شائعاً في ذلك الوقت لما خشي خليفة المسلمين أن يضيع القرآن بسبب تلك الحروب»، «ظاهرة «حفظ» القرآن هي نتاج عصور انحطاط الحضارة الإسلامية».
وللقارئ الكريم أن يخرج بالنتيجة التي يراها.
وأما من حفظ القرآن بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فكثير جداً، ولكن لعدم تميزه؛ لتساوي الناس -الصحابة وغير الصحابة- في هذه المنقبة، فإن التراجم قد تغفل شيئا منها، ولا تذكر إلا من تميز بإقراء أو إمامة ونحو ذلك، إذ لا يُساوَى من قرأ القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن قرأه على غيره، إلا أن البصير سيلوح له شيء من ذلك عند جرده للتراجم، كما لاح لصاحب (الإتقان) عند حديثه عن أم ورقة الشهيدة.
(المنهج المتكامل)
الظن بابن البيئة الأكاديمية أن يكون أكثر الناس التزاماً بمنهجها، فإنَّ له كتابا في (إصلاح التعليم في السعودية) دعا فيه للمنهج التكامل، وأول أولويات الأكاديمي؛ لا سِيَّما إن كان مؤلفا، التزامه طرائق البحث، فكما هو معلوم؛ فإن الباحث قد يَقْصُرُ عن النقد والتحليل وحل المشكلات لعدم اكتمال أدواتها عنده، أو لنقص في قدراته، والناس تتفاوت، أما الالتزام بمنهج البحث فهذا لا يعذر فيه الباحث، من هنا لابد من استنطاق (المنهج المتكامل) الذي يدعو إليه الكاتب، فلست أشك أنه –وهو من العارفين كما يقول- النموذج الذي يدعو إليه، ويرغب إلى الوزارة والبيئات الأكاديمية تطبيقه، وسيلاحظ القارئ أنني لن أناقش دِقة المعلومات الواردة، وإنما الطريقة التي اختارها الكاتب منهجاً له.
يرى الكاتب أن مبدأ الحفظ أدخله العَجم على العرب في عصر انحطاط الأمة، قال: «فقد جاءت فيما يبدو من تأثير الشعوب غير الناطقة بالعربية»، ويستدل لهذا بقصة منحولة للإمام عبدالله بن المبارك؛ صَرف فيها طالباً عن الحفظ، وأُذكِّر أنني لست بصدد مناقشة جدية هذه الدعوى.
هل يعلم الدكتور أن ابن المبارك لم يكن عربياً؟ فكيف يستدل به؟ كيف يستدل بأعجمي على أن العرب لم يكونوا يُعنون بالحفظ؟ ولا يضر ابن المبارك أنه ليس عربياً، فقد كان أمير المؤمنين في الحديث، وكان مالك يُجله، وما أفسح مالك لأحد؛ إلا لابن المبارك، وكان يسأله ويصغي إليه، ويحيل إليه أسئلة الفتوى، وكان إمام زمانه وفريد عصره، رحمه الله.
كيف يستدل للعرب بالعجم؟ وكيف يقول إن الحفظ أتى من العجم، ويستدل بأعجمي يزهد في الحفظ؟ أما القصة فإنني لم أجدها في ترجمة ابن المبارك، وأشك في ثبوتها؛ لأنها تخالف ما عُرف من سيرته، فقد عُرِف بدقة الحفظ، وسرعته، وكثرته، فكيف يقال عنه ما قيل. والدكتور لم يَعزُ القصة حين ذكرها، فليس منهجه المتكامل الذي يدعو إليه الإحالة إلى المصادر، فضلاً عن أن تكون مصادر أصلية.
وحين أراد أن يحيل؛ أحال بهذه الطريقة العجيبة، ذكر قصة الشيخ محمد يوسف سيتي رحمه الله ليستدل بها على أن الحفظ أعجمي، وأحال لستفيان لاكروا في كتابه (زمن الصحوة) –من دون رقم الصفحة طبعاً!- الذي أحال بدوره للتقرير السنوي للجمعية الخيرية بمكة المكرمة!! فالطريق إلى مكة عنده يمر عبر باريس!! أين وجدت هذه الطريقة المبتكرة في التعامل مع المصادر؟ تصح الإحالة لستيفان حين تكون المعلومة لا يمكن الحصول عليها إلا من خلال الكتاب أو لو كانت رأياً للمؤلف، أما معلومة وردت في تقريرٍ سنوي بمكة وأذهب لباريس لآتي بها...! ما هذا الكسل البحثي العجيب، أم ما هذه الطريقة الأعجب، حين يخلو الجو للعارفين بيضي واسرحي!
لم ينقضِ العجب بعد..
لما أراد توثيق الإحالة قال: «وقد استنبط هذه المعلومة»، استنبط أم أخذ؟ أم لا فرق بين الكلمتين عندك؟ مرة أخرى: هل وردت هذه المعلومة في التقرير السنوي أم أن هذا فهم ستيفان استنبطه من التقرير.
قال الزمخشري في [كشافه 1/541] في معنى (استنبط): «يستخرجه الرجل بفضل ذهنه من المعاني والتدابير فيما يعضل ويهم»، وفي [معجم اللغة العربية المعاصرة]: «استنبط الشَّيءَ: توصّل إليه من مبدأ عامّ أو عن طريق انتقال الذِّهن من قضيّة، أو عدّة قضايا هي المقدِّمات إلى قضيّة أخرى هي النتيجة وفق قواعد المنطق»، وهذا يجعلنا نشكك في صحة المعلومة؛ لأنها قد تكون فهماً فهمه لاكروا من التقرير، وذهبت لهذا الاحتمال لأننا أمام مقالة لباحث أكاديمي له كتاب في إصلاح التعليم، ويدعو للمنهج المتكامل ... الخ، فلا يمكن أن يقع في هذه الأخطاء البدائية في العزو والإحالة.
إلا أن هذه المعلومة لا تحتاج لمن يوثقها، لأن توثيقها من كتاب ستيفان إبهام لها؛ لشهرتها واستفاضتها، وما زال بعض شخوصها وشهودها أحياء، و الشيخ أشهر من نار على علم، جزاه الله خيرا ورفع درجته. ولكن قد يكون من المنهج المتكامل الذي يدعوا إليه الدكتور توثيق الأخبار المستفيضة بمصادر غير أصلية، وغير مشهورة، يا للكسل البحثي!

(ذِكرُ حفظهم للقرآن)

قال: «والواجب يحتم أن يصدح العارفون بالحق مهما كانت النتائج والتبعات»، وقال: «ظاهرة «حفظ» القرآن هي نتاج عصور انحطاط الحضارة الإسلامية». ويقول: «ولم تذكر أدبيات السيرة النبوية أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وخلفاءه من بعده أنهم قد أقاموا حلقات لتحفيظ القرآن»
أول من سَنَّ لنا حفظ الكتاب وأشعرنا بأهميته محمد صلى الله عليه وسلم، حيث كان يحرك لسانه وقت تنزل الوحي ليحفظ، فنهاه الله عن ذلك، قال تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} ، وضَمِنَ له أن يحفظ القرآن بقوله: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة].
قال الذهبي: «وصح من وجوه، أن عثمان قرأ القرآن كله في ركعة» [تاريخ الإسلام 2/265]. واقتدى بعثمان جمع من السلف كعطاء وسعيد بن جبير وغيرهم. ويصفون صلاته: أنه قام ليلة في حجر إسماعيل فقرأ القرآن كاملاً في ركعة. ولا يقدر على قراءته إلا إذا كان حافظاً، فلم تكن الإنارة متوفرة في الكعبة بالشكل الذي يتيح للقارئ أن يقرأ عليها ليلة كاملة، ولم تكن المصاحف خفيفة، بَيِّنة، فيقدر على حمله ليلة كاملة.
ومن شدة حفظ وإتقان ابن مسعود أنه كان يُملي القرآن عن ظهر قلب في الكوفة، وسيأتي ذكره في مجالس الإقراء بحول الله.
و في صحيح مسلم [817]، لقي نافع بن عبدالحارث عمرَ بعسفان، وكان عمر يستعمله على مكة، فسأله: من استعملت على الناس؟ قال: ابن أبزى. قال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا. قال: واستعملت على أهل مكة مولى؟ قال: إنه قارئ لكتاب الله وعالم بالفرائض. قال عمر: أمَا إن نبيكم قد قال: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين»، ومعنى (قارئ) أو (قرأ القرآن) حافظ، لأن التلاوة لا مزية فيها، والأصل أن كل مسلم تالٍ للقرآن.
وفي ترجمة يحيى بن وَثَّاب: كان إذا قرأ لا تسمع حركة في المسجد لحسن صوته، قال الذهبي: قرأ القرآن على عُبيد بن نُضيلة صاحب علقمة فتحفظ عليه كل يوم آية. [سير أعلام النبلاء 4/379]
وهذا قتادة –وكان كفيف البصر- يقول لسعيد بن المسيب: يا أبا النضر: خُذِ المصحف، قال: فعَرَض عليه سورة البقرة فلم يُخطِ فيها حرفاً. فقال: يا أبا النضر أحكمتُ؟ قال: نعم. قال: لأنا لصحيفة جابر بن عبدالله أحفظ مني لسورة البقرة. [سير أعلام النبلاء 5/269]، وفي ترجمة مجاهد أنه أخذ القرآن عن ابن عباس. [سير أعلام النبلاء 4/449]، وأخذه يعني: حفظه وتعلمه.
يقول شعبة بن الحجاج عن الإمام مِسعر بن كِدام الهلالي:«كنا نُسمي مِسعراً: المصحف، يعني من إتقانه» [سير أعلام النبلاء 7/163]. قلتُ: كان مِسعر أحول العينين، وكان –كما يصفه خالد بن عمرو-: إذا نظر إليك حسبت أنه ينظر إلى الحائط كم شدة حؤولته. ومع هذا حفظ القرآن وأتقنه، حتى أصبح مضرب المثل في الحفظ، فمثل هذا كيف يحفظ ونظره لا يثبت على المصحف؟!
وما كان الحفظ مختصاً بالكبار، بل حتى صبيانهم وغلمانهم كانوا يتحفظون القرآن، يَقصُّ ضِمام بن إسماعيل عن أبي قبيل كائنةً العجيبة، يقول: بكى عمر بن عبدالعزيز وهو غلام صغير، فأرسلت إليه أمه، وقالت: ما يبكيك؟ قال: ذَكرتُ الموت. قال ضِمام معللاً هذه الحالة الغريبة: وكان يومئذ قد جمع القرآن. [سير أعلام النبلاء 5/114]. وحفظت أم هذيل الأنصاري، حفصة بنت سيرين القرآن وعمرها اثنا عشر سنة [سير أعلام النبلاء 4/507]، وتقدم خبر ابن عباس.
ويُخبر إسحاق السلولي ما أخبرته به أم سعيد، فيقول: «حدثتني أم سعيد، قالت: كان بيننا وداود الطائي (ت: 126) جدار قصير، فكنت أسمع حنينه عامة الليل، لا يهدأ، وربما ترنم في السحر بالقرآن، فأرى أن النعيم قد جمع في تَرَنُمه، وكان لا يُسرج عليه» [سير أعلام النبلاء 7/422]، ودقَق النظر في قوله: (وكان لا يُسرج عليه)، وحسب ما بلغني أنه لم يَقتنِ آيباداً فيقرأ عليه!
ونحن لا نعلم متى تبدأ عصور الانحطاط عند الدكتور، لذا فقد قَصَرت حديثي على القرن الأول والثاني فقط، عن الصحابة وتابعيهم فقط، ليتبين الناس عناية أولئك بحفظ كتاب الله، وليتبين القارئ معنى (المعرفة) التي يجب أن يصدح عارفوها بها! وبين يديَّ –الآن- أزيد من مئتي أثر وخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وتابعوهم عن الحفظ فقط، فضلاً عن أوجه العناية الأخرى، آثرت تركها للاختصار، ويكفي ما سبق للتدليل على مضمونها ما سبق.

(والتاريخ حجة عليك ... أو لك!)

ليس صحيحاً أن التاريخ يكتبه المنتصر، الناظر للتاريخ المدون يعرف زَيف هذه الدعوى، وحاول بعضهم تزييف التاريخ فما اسطاعوا إلى ذلك سبيلا، وما استطاعوا إليه وصولاً، لأن الحقيقة لا تُحجب بغربال، ولكن قد يُضلَل الناس عنها، ويزيف وعي الناس، فيظنوا أوهام قوم، وهواجس آخرين تاريخاً لهم.
ومن تزييف تاريخ أمتنا رميها بالتخاذل عن حفظ كتاب ربها، ومن تزييف وعي القارئ الاستدلال بقصة منحولة لأعجمي متهم بتصدير الحفظ للعرب على أن العرب لم تكن تحفظ!
قال الدكتور غفر الله له: «ولم تذكر أدبيات السيرة النبوية أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وخلفاءه من بعده أنهم قد أقاموا حلقات لتحفيظ القرآن»، وتبين خطأ هذا الكلام.
وقال: «ظاهرة «حفظ» القرآن هي نتاج عصور انحطاط الحضارة الإسلامية»، ولم يحدد لنا ما هي عصور الانحطاط؟ وما هي عصور التقدم؟ متى بدأت ومتى تنتهي أو انتهت؟ وما هي الحضارة التي يقصدها؟ كل هذه أسئلة مشروعة لنقف على مراد الكاتب، لأن التاريخ يخالفه، وهو استدل بالرسول وأصحابه، وواقعهم يخالف ما دَوَّنه.
ومن تناقضاته العجيبة: زعمه أنه لم يحفظ القرآن إلا أربعة، وفي نفس المقال يُثبت –هو لا أنا- أن هناك جَمعاً من الحفاظ استشهدوا في حروب الردة! قال: «بعد استشهاد جمع من الحفاظ في حروب الردة»، فهل يظن الكاتب أن بين حروب الردة ووفاة النبي صلى الله عليه وسلم خمسة قرون؟!!
فكيف حفظوا؟ ومتى؟ ذكرت المصادر التاريخية أن عدد من مات في حروب الردة أكثر من سبعين حافظاً، متى حفظوا؟ وكيف حفظوا والقرآن لم يجمع بعد؟
قال: «ولو كان الحفظ والتحفيظ شائعاً في ذلك الوقت لما خشي خليفة المسلمين أن يضيع القرآن بسبب تلك الحروب»، لست أنكر أن عدد الحُفاظ أقل، لا سِيَّما مع الظروف التي تقدم ذكر بعضها، وقِلَّتهم لا تعني أنه لم يكن شائعاً، ولو لم يكن شائعاً فكيف يموت أكثر من سبعين حافظ في جيش واحد في معركة واحدة؟ ومعلوم أن جيش الردة كان الجيش الرديف للمسلمين، لأن الجيش الأصلي كان مع أسامة إنفاذاً لوصية النبي صلى الله عليه وسلم، ثم التحق جزء منه بموقعة اليمامة.
أَبغني الآن أي تجمع بشري عشوائي فيه سبعين أو مئة حافظ، حفظهم بفواتهم يفوت، مع الأخذ في الاعتبار أن الحفظ شاع في زمننا بسبب تأثرنا بعصور الانحطاط والحفظ الذي صدره إلينا الشيخ الباكستاني، وقلتُ: (حفظهم بفواتهم يفوت) للتقريب وضرب المثال ليس إلا.
فذاك زَمنٌ ما كان الحفظ فيه شائعاً-كما يرى الكاتب- وفي تجمع واحد من تجمعاتهم أكثر من سبعين حافظ!
يقول: «من العجيب أن الاهتمام في عصور المسلمين الأولى كان في تعليم القرآن الكريم على رغم أنه لم يكن مطبوعاً ومتوافراً بين أيدي الناس».
(مطبوعاً!) لعله يقصد مكتوباً، وبكل حال، لم تكن المصاحف مكتوبة أو مطبوعة كما يقول، فكيف كانوا يتعلمون القرآن ووسيلة التعلم مفقودة؟ لعلهم كانوا يحفظونه، فإذا حفظوه تعلموه، ثم يطلب منهم نسيانه!
ويُدلل الكاتب على نظريته العجيبة، المجردة من أي مستند علمي: أن مبدأ الحفظ –بما فيه حفظ القرآن- وافد على العرب من الأعاجم بقصة الشيخ محمد يوسف سيتي في عام 1962 م، وتجاوز 1400 عام من تاريخ الأمة!
من لم يعبأ بتزييف تاريخ الأمة لن يعبأ بتزييف تاريخ الجزيرة العربية، حين ينسب بدء الحفظ فيها لشيخ باكستاني! ولست استقل الشيخ رحمه الله، أو أنكر جهوده، ولا شك أن له دَينٌ في رقبة أغلب الحفاظ بعده، كيف لا؟ وقد بذل من جهده وماله -كان غنياً- لتحفيظ الناس القرآن، وكان سبب تأسيس الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن.
ولكن تصوير الجزيرة العربية أنها لم تعرف حفظ القرآن إلا منه، وأنها بهذا وقعت في شَرَك الأعاجم الذين صرفونا من تعلم القرآنِ لحفظه؛ لعجزهم عن سَبر معانيه وتدبره، هذا هو التجني على تاريخنا خاصة و الأمة عامة. وتصوير أن الحفظ في العصور القريبة صَدَّرتهُ للأمةِ المدرسةُ الباكستانية –وهي مدرسة عريقة تفخر بها الأمة- عبثٌ بالتاريخ، وبالعلم، يأنف أي أكاديمي أن ينسبه إلى نفسه.
عرفت السعودية خاصة، والجزيرة العربية عامة حفظ القرآن قبل تأسيس جمعية تحفيظ القرآن. جهل الدكتور بأبناء عمومته ومَحِلته فضلاً عن تاريخ الجزيرة العربية، ليس حقيقة علمية أو تاريخية يجب التسليم بها أو الأخذ بها بعين الإعتبار.
يُبَين حال الجزيرة العربية –حتى قبل استقرار حكم آل سعود- ما جاء ترجمة الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله [مواليد 1196هـ] أنه رحل إلى مصر، وأخذ العلم عن أجِلَة علمائها، ومنهم «الشيخ إبراهيم العبدي، شيخ مصر في القراءات، قرأ عليه أول القرآن... وقرأ على الشيخ أحمد سلمونه كثيرا من الشاطبية وشرح الجزرية». [الدرر السنية 16/405]، ومقام الشيخين العبدي –أو العبيدي- وسلمونه في هذا الفن أشهر من أن يؤكد عليه، يكفي أن أهم أسانيد القرآن تعود إليهما، فالشيخ عبدالرحمن لفَرْطِ عنايته حَرِص على مشافهة أبرز –إن لم يكونا أبرز- علماء القراءات في العالم في زمانهم، خاصة الشيخ العبيدي رحمه الله.
ويعجب المرء من الدكتور حين يرمي العرب بعدم عنايتهم بالحفظ فضلاً عن أن يكون المحفوظ هو القرآن، فمن المعروف أن تاريخ العرب انتقل عن طريق الحفظ، وكانت القصيدة الطويلة تلقى مرة واحدة فتحفظ، وما عرفوا الكتابة إلا بعد الإسلام.
وكان حفظ القرآن جزءا من الهوية الشخص أو (البرستيج) له، فمن المعيب ألا يُحفظ القرآن، ويعاب بعدم حفظه، حتى مغنيهم ومُجَّانهم ومواليهم ومجانينهم كانوا يحفظون القرآن –أو منه- ويروون الحديث والشعر، وفي تراجمهم ذِكر مروياتهم من الحديث أو الشعر، فحفظ القرآن ورواية الحديث والشعر في عصرهم كتعلم اللغة الإنجليزية عند بعض أهل عصرنا. ومن أعجب ما وقفت عليه أنهم إذا أرادوا رفع سعر الجارية حَفَّظوها القرآن، ورَوُّوها الحديث و الشعر، واشتهر بهذه الصنعة إبراهيم الموصلي، ودحمان، وغيرهم. وكان الحد الأدنى حفظ القرآن، ورواية ثلاثة آلاف حديث، وعشرة آلاف بيت شعر!
وإبراهيم الموصلي هو الذي رفع أسعار الجواري بسبب تعليمه إياهن، وكانوا يزهدون في الجارية وإن كانت فائقة الجمال، وتباع بأبخس الأثمان ساذجة، فإذا عُلمت وحفظت بيعت بعشرات الآلاف. وأخبار هذا كثيرة أتركها للاختصار.

(ذِكْرُ مجالس إقرائهم)

نَشِطت مجالس الإقراء وتحفيظ القرآن بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وساح أصحابه في الأرض طلباً لخيرية تعلم القرآن وتعليمه.
وتقدم في (ذِكر المقرأة النبوية) طرفا ممن قرأ القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم، أو حفظ القرآن على عهده، وجميعهم جلسوا للإقراء بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقرأ على أبي بن كعب: أبو هريرة، وعبدالله بن عباس، وعبدالله بن السائب، وقرأ على عثمان: المغيرة بن أبي شهاب المخزومي وغيرهم ممن تقدم ذكره، وعلى أبي موسى الأشعري: حِطان بن عبدالله الرقاشي. وعلى ابن مسعود: الأسود بن يزيد النخعي. وغيرهم كثير.
انتعشت مجالس الإقراء في البصرة إبان إمارة المقرئ أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، قال الكتاني: «قال أبو الوليد بن رشد: أن أبا موسى الأشعري كتب إلى عمر أنه قد حفظ القرآن في البصرة في هذه السنة خلق كثير، فكتب له أن يَفرِض لهم». [ التراتيب الإدارية ط: دار البشائر: 342/2].
وتصدر المقرئ العالم عبدالله بن مسعود رضي الله عنه الإقراء في الكوفة، وكانت طريقته عجباً، جاء رجل إلى عمر بن الخطاب بعرفات، فقال: جئتك من الكوفة وتركت بها رجلا يملي المصاحف عن ظهر قلب. فغضب لذلك عمر غضبا شديداً، وقال: ويحك، من هو؟! قال: عبدالله بن مسعود، فذهب عنه ذلك الغضب، وسكن إلى حاله، وقال: والله ما أعلم من الناس أحداً هو أحق بذلك منه. [التراتيب الإدارية 2/346 ط: دار البشائر].
قال النووي: «وروى ابن أبي داود: أن أبا الدرداء رضي الله عنه كان يدرس القرآن مع نفر يقرءون جميعاً». [التبيان في آداب حملة القرآن للنووي 104]
وأثرى مَقْرَآتِ الصحابة وأطولها عمرا مقرأة المقرئ الحبر البحر، العالم الفقيه، عبدالله بن عباس -رضي الله عنه- ، تليها مقرأة ابن مسعود، لتفرغ الأول للإقراء والتعليم، وتأخر وفاته. وكان ذا خبرة وتمرس في الإقراء، يُلغز لطلابه، ويناقشهم، محفز، مبدع.
يَلْمَحُ الإمام أحمد زاوية من زوايا مقرأة ابن عباس، يظهر فيها ابن عباس وهو يناقش طلابه ويستفز عقولهم، ويَكُدُّ أذهانهم، سألهم مرة: «أي القراءتين كان أخيراً، قراءة عبدالله أو قراءة زيد؟ قالوا: قراءة زيد. قال: لا، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض القرآن على جبرائيل كل عام مرة, فلما كان في العام الذي قبض فيه عرضه عليه مرتين، وكانت آخر القراءة قراءة عبدالله».[المسند 2494]
وفي الأثر فقه آخر، أهم من تنوع طرائق التعليم، ومناقشة الطلاب وتحفيزهم، وهو من صميم الإقراء؛ ألا وهو تتبع العَرضات التي عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان الحافظ في وقتهم يحفظ مرتين أو ثلاثاً، وذلك أنه إذا حفظ مرة تتبع آخر من قرأ على الرسول فعرض عليه مرة أخرى، حتى يتيقن أن قراءته وحفظه موافق لآخر عرضة عرضها الرسول صلى الله عليه وسلم على جبريل عليه السلام، لا سِيَّما ما يتعلق بالناسخ والمنسوخ وغيره.
ويتجاوز ابن عباس رضي الله عنه التعليم الجماعي للعناية الفردية بالطلاب، فقد كان واسع البال جداً، مستفرغ الطاقة، لا تكاد تراه إلا وقد التزمه أحد طلابه يقرأ عليه، يقول شهر بن حوشب رحمه الله: «عرضت القرآن على ابن عباس سبع مرات» [سير أعلام النبلاء 4/373]، وهذا طالب واحد، وغيره مثله وأزيد منه. وهذا الذي يفعله ابن عباس يرى الدكتور أنه مضيعة للوقت استنزاف للجهد!
و في جانب آخر من جوانب هذه المقرأة الشامخة ترى ابن عباس يجلس إلى أحد أبرز طلابه ويخصه بالحديث، يحكي سعيد بن جبير طرفاً مما خصه شيخه به، فيقول أنه قال له مرة محفزاً: «جمعت المحكم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: وما المحكم؟ قال: المفصل» [البخاري 5036]، وكان عُمر ابن عباس حين توفي الرسول أقل من ثلاث عشرة سنة!
وكانت لشهاب القرشي مقرأة مشهودة بحمص، فكان عامة أهلها يقرءون بقراءته رضي الله عنه.
واستمرت الأمة على ما كانت عليه، فهذا شيخ القراء سليم بن عيسى يقرأ على حمزة بن حبيب عشر ختمات. [سير أعلام النبلاء 9/375]، وكان للأعمش مقرأة يقرئ فيها القرآن. [سير أعلام النبلاء 6/226].

(تحدث في غير فنه فأتى بالعجائب)

يرى الدكتور الأكاديمي –مدي الجامعة سابقاً-، العارف، صاحب كتابَي إصلاح التعليم والتعليم العالي: أن الحفظ والتجويد مضيعة للوقت، يستهلك الإمكانات والطاقات، يقول: «ولكن الحقيقة أن الجهد الذي يبذله الطلاب في «الحفظ» و«التجويد» يستهلك معظم طاقاتهم وإمكاناتهم».
أي أن جميع ما سبق -والذي قَصرته عَمداً، على الحفظ، و تجويد اللفظ، دون المعاني والتفسير والأحكام- ذِكره في مقرأة الرسول، و مقرآت الصحابة فمن بعدهم، كله إهدار لطاقات الأمة وإمكاناتها، ولا عجب أن تتخلف إذاً!
إذا أضفنا لهذا، أن الدكتور لا يرى الحفظ أصلاً، فتكفيك الفاتحة وسورة قصيرة تقيم بها صلاتك، وسأتبرع من عندي فأضيف الآيات الورادة في الأذكار لأهميتها، سَورُ الإخلاص، وآية الكرسي، وخواتيم البقرة، بهذا تكون أديت حق كلام ربك وزيادة! وأنت أولى الناس أن تكون مع السفرة الكرام البررة!!
اللافت أن الدكتور الأكاديمي أسقط عدة علوم وألغاها بجرة قلم! ويظن أن علوم القرآن شيئا واحداً، فتعلم التجويد عنده من أجل الغوص في معاني وأسرار القرآن! كيف يتحدث عن تعليم القرآن، ويبدي وجهة نظره فيه من يجهل علومه؟ من يجهل أن هناك (علوم قرآن) وهناك (تفسير) وهناك (تجويد) وهناك (قراءات) ...الخ، وكل قسم من هذه الأقسام تتفرع منه عدة فروع؟
كيف يتحدث عن مدارس تحفيظ القرآن من يجهل مقرراتها، ومكانة كل مقرر؟ من يظن أن مهمة معلم القرآن تعليم التفسير؟ و العقيدة؟ والفقه؟ من يظن المقررات المتعددة مقرراً واحداً؟
أي تضييع للوقت أن يقرأ شهر بن حوشب على ابن عباس القرآن سبع مرات؟ ولولا مكانة ابن عباس، لربما لام المعلم على إهداره الوقت!
أي إهدار للطاقات أن يختم سليم على حمزة عشر ختمات؟!
وماذا سيقول حين يعلم أن الأعمش لإتقانه ودقته في ضبط اللفظ وإقامة الحرف –وكان رأساً في الإقراء- فإنه لم يختم عليه ختمة التلقين إلا ثلاثة نفر، أما ختمة العرض فقد عرض عليه الكثير، منهم حمزة شيخ سليم بن عيسى.
كل هذا يهون إذا علمنا أن الأكاديمي -مدير الجامعة السابق- شطب علما كاملاً، اعترفت به سائر الجامعات و البيئات الأكاديمية، وأقامت له الجامعات والكليات، أو ربما لم يعلم عن وجوده!
قد لا يعلم الدكتور أن العبرة في كتاب الله ما تناقلته الصدور لا السطور، وإن خالف السطرُ الصدرَ –وأعني بالصدور: صدور الأمة، جيلاً بعد جيل، وقرناً بعد قرن- فإن السطر يشطب، ولا يعتد به.
سألوا يهودياً عن سبب إسلامه، فقال: عمدت للكتب المنزلة، فصنعت من كل كتاب ثلاث نسخ، زدت فيها ونقصت، فأدخلت كتاب اليهود على وراقيهم فقبلوه، وبيعت الكتب، فأدخلت كتاب النصارى، فبيع، ثم أدخلت كتاب المسلمين على وراقيهم، فما أن نظروا فيه حتى ألقوه في وجهي!. ولذا لا قيمة علمية لأي مخطوط قرآني إن لم يكن مطابقاً لما تناقلته الأمة، بخلاف غيره من الكتب.
قد لا يعلم الدكتور أن أحكام التجويد لا يمكن أن تؤخذ من كتاب، ولا من المصحف، وإنما تؤخذ تلقيناً مشافهة من الشيخ أو المعلم، وهذا ما يعارضه د. أحمد العيسى في كافة مراحل التعليم، ويراه تضييعا للأوقات!
ماذا لو أتى طالب وقال للأستاذ: أريد أن أتعلم القرآن حتى تكون قراءتي كقراءة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ توقع الجواب الذي سيقوله له.
نستطيع الجزم أن قراءة كبار القراء كالحصري والمنشاوي ومن في طبقتهم مقاربة، وقد تكون مطابقة في بعضها لقراءة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقراءة أبي بن كعب وأبي موسى الأشعري، أي أننا سمعنا القرآن كما سمعه الصحابة رضي الله عنهم! ولولا عناية الأمة ودقتهم ما وصل إلينا القرآن بهذا الشكل الذي نسمعه. ولو كانت الأمة عملت برأي الدكتور لكنا نقرأ كتاباً آخر، قطعا ليس الذي أنزله الله إلينا.
وبإمكان الدكتور وغيره أن يجرب، افتح سورة الفاتحة، واقرأها كما تقرأ أي كتاب آخر، ستجد أنك تقرأ شيئا آخر، ليس سورة الفاتحة. ولذا حتى في كتابة المصحف تميز القرآن بالرسم العثماني الذي يخالف ما أَلِفه الناس من حروفهم، فالقرآن –حتى المكتوب في المصاحف- لا يمكن أن يقرأ إلا بالتلقين.
ولو أتيت بأكبر عالم في اللغة والبلاغة والأدب، وطلبت منه قراءة القرآن لا يمكن أن يقرأه دون تلقين.
ولأهمية السماع في نقل القرآن، فقد كان العلماء ينقلون أصوات القراء عبر الكتب! فإن سألت كيف يُنقل صوتٌ عبر القرطاس؟ أقول: ذكروا في ترجمة الإمام الزاهد صالح المري (ت:172هـ) أنه أول من قرأ في البصرة بالتحزين. وسمعه سفيان الثوري يَعظِ مرة، فقال: ما هذا قاص، هذا نذير. [سير أعلام النبلاء 8/46] وكانوا يسمون الواعظ: قاص، كما يسمون الحافظ قارئ.
قال ابن عدي: كان حسن الصوت. وقال ابن الأعرابي: الغالب عليه القراءة بالتحزين. وكان لقراءته الحزينة مع جمال صوته تأثير عجيب، حتى قالوا: مات جماعة سمعوا قراءته.
والموت لسماع القرآن معروف، فممن مات علي بن الفضيل بن عياض.
وعندي نصيحة أرجوا أن يتقبلها الدكتور بصدر رحب، أن يذهب لأي مقرئ، ويعرض عليه سورة الفاتحة، ليعرف جلالة هذا العلم.
قال أ. أحمد العيسى: «هذا من الناحية الشرعية»، تدل العبارة أنه حرَّر تحريرات شرعية صدع فيها بالحق، « والواجب يحتم أن يصدح العارفون بالحق مهما كانت النتائج والتبعات»، مهما كانت النتائج و التبعات!!
المسألة الأولى: حديث أنس أنه لم يحفظ القرآن إلا أربعة، وتقدم الكلام عنها.
المسألة الثانية: قال: «ولكن مفردة «حفظ» أو «تحفيظ» بصيغة الأمر أو الاستحسان لم ترد بنص واضح وصريح في القرآن الكريم أو السنة المطهرة».
بالرغم من صعوبة تلبية بعض الرغبات العجيبة التي تفرض على الشريعة لفظة محددة يجب أن تأتي بها ، وإلا فلا.. رغم هذا، إليك حديث عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل الذي يقرأ القرآن، وهو حافظ له، مع السفرة الكرام البررة، ومثل الذي يقرأ، وهو يتعاهده، وهو عليه شديد، فله أجران» [البخاري 4973/ مسلم 798] واللفظ للبخاري.
وفي الصحيحين عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين، رجل آتاه الله القرآن، فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار... الحديث». [البخاري7529/ مسلم 815]، آتاه الله القرآن، فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، ولا يمكن بلوغ هذه المرتبة إلا بالحفظ، لأن التلاوة بهذه الطريقة لا تحتاج أُهبة من القارئ، فهو يحسد –أو يغبط- عليها.
وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها» [أبو داود 1464/الترمذي2914]، أي يوم القيامة، ولا يمكن أن يقرأ بالمصحف في تلك الحال. وفي الحديث (ورتل) والترتيل التجويد، وهو ما شنع الدكتور عليه ورآه تضييعا للوقت وإهداراً للطاقات.
قال ابن حجر الهيتمي: «الخبر المذكور خاص بمن يحفظه عن ظهر قلب، لا بمن يقرأ بالمصحف، لأن مجرد القراءة في الخط لا يختلف الناس فيها ولا يتفاوتون قلة وكثر» [جمال القراء للحميضي 65].
المسألة الثالثة: «ومن ثم فإنه لا يوجد في الشرع -فيما أعلم- ما يميز «حافظ» القرآن عن «قارئ» القرآن في الأجر أو البركة أو المنزلة في الدنيا والآخرة».
القاعدة المنطقية والأصولية وما يقتضيه المنهج العقلي السليم: أنَّ عَدَمُ العِلْمِ ليس عِلماً بالعَدَم، أما عند الدكتور فعَدَمُ العِلْمِ عِلْماً بالعَدَمِ! ولا يكتفي بعدم علمه، وإنما يبني على (عدم علمه) نظريات تربوية وعلمية، وليت الأمر توقف عند هذا! بل تجاوزه لتأليف كتاب في (إصلاح التعليم في السعودية) أرأيتم بركة (عدم العلم!).
لا يكف الدكتور عن الافتئات على الشريعة، والحديث فيما لا يحسن، بل ما لا عهد له به، وأذكره أن الحديث عن الشريعة توقيع عن رب العالمين، ولولا علمي بجهل الدكتور؛ رغم ادعائه المعرفة والعلم، لكان لكلامه وجه آخر.
أتزعم يا أستاذ أن الذي يجلس الساعات، ويقضي شطر عمره في حفظ القرآن، أنه مساوٍ للذي لم يحفظ؟ وأن الله لا يجازيه على حفظه؟ يا أستاذ! لقد افتريت على الله، ونسبته للظلم من حيث لا تشعر، ولو أمعنت النظر في كتاب الله وجدت الجواب، يا أستاذ! الحافظ لا يساوى بغير الحافظ في الدنيا، أترى الله يساويه به في الآخرة؟
قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَ}، وقال: { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ...الآية}، وقال: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}، أترى حفظ القرآن لا يساوي مثقال ذرة فيأتي به الله؟
وفي الأحاديث المتقدمة في المسألة الثانية إثبات التفضيل.
عجباً لأمة تقدم حامل القرآن في الصلاة والقبر، وتزوج الرجل بما معه من كتاب الله، يقال عنها لا تعتني بحفظ كتاب الله، ولا تقدم حافظ كتاب الله على غيره.
المسألة الرابعة: قال: «من أجل ذلك قال الفقهاء إن «حفظ» القرآن يعتبر فرض كفاية على الأمة وليس بفرض عين، فإن وجد من المسلمين من يحفظ القرآن فإنه يسقط عن الباقين. ومن الطبيعي أن يوجد اليوم من يحفظ القرآن عن ظهر قلب».
مرة أخرى، يخترع الدكتور قولاً وينسبه إلى الشريعة، خلاصة القول: عدم حث الناس على فعل فروض الكفايات، لأن هناك قطعاً من يقوم بها، حسناً.. ما مصير فروض الكفايات الأخرى عند الدكتور: كصلاة العيدين والخسوف ورفع الأذان وغيرها؟ ولو سلمنا بهذا القول، أين القيمة الذاتية التي تضاف لحامل القرآن؟ عفواً.. نسيت أنه لا يرتب على حفظ القرآن أي قيمة!
هل يعلم أن التعليم كله فرض كفاية، وهناك من قام به ورفع الفرض الكفائي عن الأمة، فلماذا يُعلَّم الناس وتفتح الكليات؟ لماذا تفتح الكليات والجامعات والمدارس النهارية، والمسائية، ومحو الأمية، ورياض الأطفال، والمهنية...الخ؟ ألم تتحقق كفاية الأمة في الرياضيات و الفيزياء و الكيمياء والإدارة ...الخ، أليس من السعوديين من يتقن هذه العلوم؟ إذاً لماذا ما زالت هذه الكليات تعمل؟ هل المؤدلجون هم من وراء ذلك؟
هُزال هذا الكلام يكفي في الرد عليه.
ويا أستاذ مكثنا سنين عددا، وعقودا مِددا، وليس عندنا فصول لتحفيظ القرآن، فما الذي قدمناه؟ وما الذي سنخسره إن فتحنا هذه الفصول.
أعوذ بالله من يومٍ، أمسي فيه على خصومة مع القرآن!

(يا طُلاب القرآن!)

لا تصُدَّنكم هذه الأصوات، ولا يفتَّ من عضدكم طول الطريق وكثرة المحبطين، وهم والله! لو بلغوا رتبتكم ما قالوا الذي قالوه، ولكنهم حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه.
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها وتفلتت منهم أن يعوها واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا لا نعلم فعارضوا السنن برأيهم فإياكم وإياهم» [إعلام الموقعين 60]
لقد اختصكم الله بأن جعلكم أهله وخاصته، وتلك والله الكرامة، وهي والله الوفادة.
يا طالب القرآن! إن أردت الدنيا والآخرة فعليك بالقرآن، فإن القرآن مبارك لا يخيب من استوصل به، ولكن أحسن النية، فإنه لا يبقى في الآخرة إلا ما كان خالصاً.
يا حافظ القرآن! لا تغرنك الدعوات التي تزهد في الحفظ، وتقدح في التلقين، فوالله ما صدقتك وما أرادت لك الخير، سَل نفسك، لماذا لم تتوجه تلك الدعوات لمن يريد تعلم لغة أخرى؟ لماذا لا يقال لمريد تعلم اللغة لا تحفظ الكلمات و الجمل، ولمريد تعلم غير ذلك من الفنون العلمية لا تحفظ النظريات والقوانين، قال الخليل بن أحمد والأصمعي وغيرهم: العلم الذي لا يدخل معك الحمام ليس بعلم. يعنون بذلك الحفظ. واستبَّ رجلان، فقال أحدهما للآخر يسبه: يا رَفَفِي! يعني بذلك: أنه يكتب العلم ويضعه على الرف ولا يحفظه. [انظر الجامع في الحث على حفظ العلم 64].
ويعلم الله، أنني لم أطنب في الحديث وأكثر ضرب الأمثلة إلا لأشحذ الهِمم، وأصد الحملة العادية على حفظ القرآن لِما لها من أثر بالغ في تثبيطكم، ألا ترونه سمى القرار عاصفة، ونَسبَ كل نقيصة في التعليم وقد تطرأ عليه لهذا القرار. وإنني لم أحفل بهذه الشبهة بقدر ما أهمني أن (كثرة الدق تفك اللحام) والمغريات كثيرة، وكتاب الله أشد تفلتا من الإبل في عقلها كما ورد في الحديث الصحيح، والمطلوب منك يا حافظ القرآن إقامة حروفه وحدوده، و العمل به. ومن الحيل الشيطانية تضخيم جانب من جوانب العناية بالقرآن حتى يصرف الناس عن الجوانب الأخرى، كأن يضخم جانب الفهم على الحفظ، أو الحفظ على الفهم.
يا ولي الأمر.. أي زهو ستشعر به حين يُلبسك ابنك تاج الوقار يوم القيامة، إن أصغيت لهذه الأصوات، فسترى –والله!- التيجان توزع على الرؤوس في يوم المفخرة، وأنت.. وأنت برأسٍ عارٍ تعض يديك من الندم!
يا أبا محمد، وأعني وزير التعليم، ستمضي بك السنون، وإن طال بك العمر، فإنك سترى أبناءك الأوفياء يتلقونك في الطرقات ويكرمونك في المجالس، ويقبلون رأسك، ويشكرون سعيك، وأرجو أن يلبسوك تاج الوقار يوم القيامة.
وهذا الذي سيبقى لك، فإياك وقالةً تصرفك عما عزمت عليه، اعزم أمرك واستعن بربك، واعلم أنهم لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، ولن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك. ترجم الأقوال لأفعال، قدِ اخترت طريقاً شُحذت لك فيه السكاكين، وصوبت فيه عليك السهام، فليكن العزم دأبك، ولَأن ينالوا منك وأنت مستمسك بما عزمت عليه، خير والله في الدنيا والآخرة من أن يصفقوا لك وقد تخليت عنه. والله أسأل لك التوفيق والسداد.
 

 

عبدالرحمن  الصبيح
  • الخطب المنبرية
  • رسائل ومقالات
  • الصفحة الرئيسية