اطبع هذه الصفحة


من شروح العلماء لباب عشرة النساء من كتاب بلوغ المرام لابن حجر العسقلاني

فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ

 
 بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد: فالأموال العظيمة الكثيرة من الذهب والفضة سواء كانت مكنوزة بمعنى مدفونة أو غير مدفونة" تسمى كنوزًا.

وكنوز الدنيا نعمة من الله يجب شكرها, وأداء حق الله فيها, فالكنز الذي لم تؤد زكاته يُعذب به صاحبه يوم القيامة, قال الله عز وجل:  ﴿ وَٱلَّذِينَ يَكۡنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلۡفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيم * يَوۡمَ يُحۡمَىٰ عَلَيۡهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكۡوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمۡ وَجُنُوبُهُمۡ وَظُهُورُهُمۡۖ هَٰذَا مَا كَنَزۡتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمۡ تَكۡنِزُونَ [التوبة:34-35] قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أيما مال لم تؤد زكاته فهو كنز يكوى به صاحبه.

ومن عصى الله نزعت منه كنوزه قال الله ﴿فَأَخۡرَجۡنَٰهُم مِّن جَنَّٰتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ [الشعراء:57_58] قال العلامة السعدي رحمه الله: فسبحان من يؤتي الملك من يشاء, وينزعه عمن يشاء, ويعز من يشاء بطاعته, ويذلُّ من يشاء بمعصيته.

وهذا قارون ملك الكنوز العظيمة, قال جل وعلا: ﴿إِنَّ قَٰرُونَ كَانَ مِن قَوۡمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيۡهِمۡۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوٓأُ بِٱلۡعُصۡبَةِ أُوْلِي ٱلۡقُوَّةِ إِذۡ قَالَ لَهُۥ قَوۡمُهُۥ لَا تَفۡرَحۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَرِحِينَ [القصص:76] لكنه لم يشكر الله, وبغي وظلم وطغى فخسف الله به فما نفعته كنوزه, قال الله سبحانه وتعالى: ﴿فَخَسَفۡنَا بِهِۦ وَبِدَارِهِ ٱلۡأَرۡضَ فَمَا كَانَ لَهُۥ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُنتَصِرِينَ [القصص:81] قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: أي: ما أغنى عنه ماله ولا جمعه ولا خدمه ولا حشمه, ولا دفعوا عنه نقمة الله وعذابه ونكاله.

وكنوز الذهب والفضة إذا كثرت, وتنافس الناس فيها, كانت سببًا لإلقاء العداوة والبغضاء بينهم, فعن إبراهيم ابن عبدالرحمن بن عوف قال: لما أُتي عمر بكنوز آل كسرى, فإذا من الصفراء والبيضاء ما يكاد أن يحار منه البصر, فبكى عمر عند ذلك, فقال: عبدالرحمن: ما يبكيك يا أمير المؤمنين ؟ إن هذا اليوم يوم شكر وسرور وفرح ! فقال عمر: ما كثر هذا عند قوم إلا ألقى الله بينهم العداوة والبغضاء.

هناك كنوز عظيمة قد غفل عنها كثيرون, منها:

●   كنوز القرآن:

قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: الله عز وجل يقول: ﴿ وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ [النحل:89] ولهذا القرآن فيه كنوز عظيمة.

ويكون استخراج كنوز القرآن بالإقبال عليه تلاوةً وتدبرًا وتفهمًا, يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: حقيق بالإنسان أن ينفق ساعات عمره بل أنفاسه فيما ينال به المطالب العالية ويخلص به من الخسران المبين وليس ذلك إلا بالإقبال على القرآن وتفهمه وتدبَّره واستخراج كنوزه.

●   الحوقلة:

الحوقلة, ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها كنز من كنوز الجنة.

قال ابن الأثير الجزري رحمه الله: أي أجرها مُدخر لقائلها والمُتصف بها, كما يُدخر الكنز. وقال الإمام النووي رحمه الله: وعنى الكنز هنا أنه ثواب مدخر في الجنة, وهو ثواب نفيس كما أن الكنز أنفس أموالكم.

والحوقلة قول: لا حول ولا قوة إلا بالله, ومعناها كما يقول ابن مسعود رضي الله عنه: لا حول عن معصية الله إلا بعصمته, ولا قوة على طاعته إلا بمعونته

 

●   الدعاء بكلمات عظيمة:

عن أوس بن شداد رضي الله عنه, قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( إذا كنز الناس الذهب والفضة, فاكنزوا هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر, والعزيمة في الرشد, وأسألك شكر نعمتك, وأسألك حسن عبادتك, وأسالك قلبًا سليمًا, وأسالك لسانًا صادقًا, وأسألك من خير ما تعلم, وأعوذ بك من شر ما تعلم, وأستغفرك لما تعلم, إنك أنت علام الغيوب)) [أخرجه الإمام أحمد, قال الشيخ شعيب الأرنؤوط: حديث حسن بطرقه] قال العلامة العثيمين رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: (( الثبات في الأمر )) أي: أن أثبُت ولا أتأخر, وذلك لأن الترّدّد أو التأخر يُقلق الإنسان, ولا يُنتجُ له شيئًا, فالإنسان غيرُ الثابت إنسان متردد, فيبدأ في الشيء ويدعُه, ويبدأ في غيره ويدعه, فيضيع عليه عمره دون فائدة.  

 (( العزيمة على الرشد )) العزيمة: هي قوة الإرادة وتمامها, وضدها التواني والكسل, أي: أسألك أن أريد الرشد إرادة جازمة, والرشدُ يشمل حسن التصرف في كل شيء

 (( وأسألك شكر نعمتك )) شكرها هو القيام بطاعة المنعم, وليس شكرها مجرد قول: الحمد لله والشكر لله, فهذا من شكرها, وهي أوسع منه, فمن عصى الله فليس بشاكر.(( وحسُن عبادتك )) حسن العبادة يكون بأمرين: الأول: الإخلاص لله سبحانه وتعالى. الثاني: المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم.

(( وأسألك قلبًا سليمًا)) القلب السليم ليس هو الذي لا يعرف الشّرّ كما يظُنُّ كثير من الناس بل هو القلب السالم من الشر أي: أنه يعرف الشّرّ ولا يفعله ولا يميل إليه.

 (( ولسانًا صادقًا )) اللسان الصادق هو الذي لا ينطق إلا بالحق, سواء كان خبرًا أو طلبًا. وهذا الدعاء من أجمع الأدعية وأشملها.

 

●   الزوجة الصالحة:

عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة إذا نظر إليها سرته, وإذا أمرها طاعته, وإذا غاب عنها حفظته.)) [أخرجه أبو داود, وصححه الحاكم] فالزوجة الصالحة من أفضل ما يكتنزه المسلم, لأنها تعينه على أمور دينه ودنياه, فليظفر المسلم بها.

●   الصبر:

قال الحسن رحمه الله: الصبر كنز من كنوز الجنة لا يعطيه الله إلا لعبد كريم عنده.

قال العلامة ابن القيم رحمه الله: الصبر وإن كان شاقاً كريهاً على النفوس فتحصيله ممكن, وهو يتكون من مفردين: العلم والعمل, فمنهما تُركب جميع الأدوية التي تُداوى بها القلوب والأبدان, فلا بدَّ من جزء علمي وجزء عملي, فمنهما يركب هذا الدواء الذي هو أنفع الأدوية.

الجزء العلمي فهو إدراك ما في المأمور من الخير والنفع واللذة والكمال, وإدراك ما في المحظور من الشرِّ والضرِّ والنقص, فإذا أدرك هذين العلمين كما ينبغي أضاف إليهما العزيمة الصادقة والهمة العالية والنخوة والمروءة الإنسانية, وضم هذا الجزء إلى هذا الجزء, ومتى فعل ذلك حصل له الصبر وهانت عليه المشقة وحَلَت له مرارته.

●   حسن الخلق:

قال يحيى بن معاذ رحمه الله: في سعة الأخلاق كنوز الأرزاق.

وسعة الأخلاق هي التحلي بمحاسن الأخلاق.

قال الحسن رحمه الله: حسن الخلق: بذل المعروف, وكف الأذى, وطلاقة الوجه

قيل لعبدالله بن المبارك رحمه الله: أجمل لنا حسن الخلق في كلمة. قال: لا تغضب.

 

●   القناعة:

قال الشيخ عبدالله بن عبدالغني خياط رحمه الله: حسبك بالقناعة كنزاً لا يظفر به إلا خيار الأفذاذ من الرجال.

وقال العلامة بكر بن عبدالله أبو زيد رحمه الله: كان شيخنا محمد الأمين الشنقيطي ...رحمه الله تعالى, متقلّلاً من الدنيا...وقد شافهني بقوله: لقد جئت من البلاد _ شنقيط _ ومعي كنز قلَّ أن يوجد عند أحدٍ, وهو " القناعة ".  

قال الإمام ابن قتيبة رحمه الله: ثمرة القناعة الراحة.

●   كتمان المصيبة والمرض والصدقة:

قال عبدالعزيز بن أبي رواد رحمه الله: كان يقال ثلاثة من كنوز الجنة: كتمان المرض, وكتمان الصدقة, وكتمان المصيبة.

وكتمان المرض لا يعني عدم التحدث به للحاجة, قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: جواز إخبار المريض بشدة مرضه, وقوة ألمه, إذا لم يقترن بذلك شيء مما يمنع, أو يكره من التبرم, وعدم الرضا, بل حيث يكون ذلك لطلب دعاء, أو دواء, وربما استحب, وأن ذلك لا ينافي الاتصاف بالصبر المحمود.

وكتمان المصيبة رأس الصبر, قال العلامة ابن القيم رحمه الله: ومما يقدح في الصبر: إظهار المصيبة والتحدث بها, وكتمانها رأس الصبر.

وكتمان الصدقة أفضل, قال الإمام النووي رحمه الله: صدقة التطوع السّر فيها أفضل لأنه أقرب إلى الإخلاص وأبعد من الرياء.

ومن كتم صدقته فهو واحد من السبعة الذين يظلهم الله جل وعلا يوم القيامة في ظله, نسأل الله من فضله وكرمه.

 

●     الحلم:

قال شريح رحمه الله: الحلم كنز مفقود. 

الحلم أفضل أخلاق الدنيا, قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: درجة الحلم والصبر على الأذى, والعفو عن الظلم, أفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة, يبلغُ الرجل بها ما لا يبلغه بالصيام والقيام.

●   فعل المعروف:

قال عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: المعروف أمير زرع, وأفضل كنز, ولا يتم إلا بثلاث خصال: بتعجيله وتصغيره وستره, فإذا عجل فقد هنأ, وإذا صغر فقد عظم, وإذا ستر فقد تمم.

وختامًا فطوبى لمن كان كنزه في السماء, وكنز السماء الأعمال الصالحة المقبولة, قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه:  من استطاع منكم أن يجعل كنزه في السماء حيثُ لا تأكله السوسُ, ولا تناله السرَّاقُ فليفعل, فإن قلب الرجل مع كنزه.


كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ