اطبع هذه الصفحة


إكْرَامُ الْكَبِيرِ  ([1])

 

محمد بن ابراهيم بن سعود السبر

  

الْحَمْدُ للهِ خَلَقَ الْخَلْقَ بِقُدْرَتِهِ، وَمَنَّ عَلَى مَنْ شَاءَ بِطَاعَتِهِ، وَخَذَلَ مَنْ شَاءَ بِحِكْمَتِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي أُلُوهِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَخَيِرَتُهُ مِنْ خَلِيقَتِهِ، اللَّهُمَّ صِلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِه وَصَحَابَتِهِ واتبَاعِهِ عَلَى دِينِهِ إلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادِ اللهِ وَرَاقَبُوهُ ﴿وَاِعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾، وَاعْمَلُوا لِدَارِ الْبَقَاءِ، وآثِرُوهَا عَلَى دَارِ الْفَنَاءِ، وَلَا تُغَرِّنَّكُمِ الْفَانِيَةُ، وَلَا تَشْغَلِنَّكُمْ عَنِ الْبَاقِيَةِ.

عِبَادِ اللهِ، لِقَدْ عُنِيَ الْإِسْلَامُ بِمَرَاحِلِ حَيَاةِ الْإِنْسَانِ مِنْ طُفُولَةٍ وَفُتُوَّةٍ وَرُجُولَةٍ وَكُهُولَةٍ وَشَيْخُوخَةٍ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾.

وَالشَّيْخُوخَةُ مَرْحَلَةُ مِنْ حَيَاةِ الإنْسَانِ ﴿ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا﴾، وَقَالَ تعالى عَنْ زَكَرِيَّا: ﴿رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا﴾، فَهَذِهِ طَبِيعَةُ الْإِنْسَانِ، يَهِنُ عَظْمُهُ، وَتُضْعُفُ قُوَّتَهُ وَحِيلَتُهُ، وَيَفْتَقِرُ إِلَى مَعُونَةِ غَيْرِهِ.

وَهُنَاكَ مَرْحَلَةِ مِنَ الْعُمَرِ مُتَأَخِّرَةٌ ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا﴾، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرْذَلُ الْعُمُرِ أرْدَؤهُ، وَقَالَ ﷺ: «وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمَرِ»؛ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، فَاسْتَعَاذَ ﷺ مِنْ أَنْ يُرِدْ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ؛ فَيَنْسَى بَعْدَ تَذَكُّرٍ، وَيَضْعُفَ بَعْدَ قُوَّةٍ، وَيُصَبِّحَ كَلًّا عَلَى غَيْرَهُ.

وَلقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ بِخُلُقِ الْبَرِّ وَالْإحْسَانِ لِلشُّيُوخِ وَكِبَارِ السِّنِ، وَرِعَايَةِ حُقوقِهِمْ، وَعَدَّ ذلكَ مِنْ جَلِيلِ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ؛ جَاءَ شَيْخٌ يُرِيدُ النَّبِيَّ ﷺ، فَأَبْطَأَ الْقَوْمُ عَنْهُ أَنَّ يُوسِعُوا لَهُ، فَقَالَ ﷺ: «لَيْسَ مَنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوقِرْ كَبِيرَنَا»؛ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

كِبَّارُ السِّنِ لَهُمْ فَضْلٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَلِهُمْ حُقوقٌ وَوَاجِبَاتُ تَحْفَظُ قَدْرَهُمْ؛ فَالْخَيْرُ وَالْبَرَكَةُ فِي رِكَابِهِمْ، وَفِي الْحَديثِ: «وَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمْرُهُ إِلَّا خَيْرَاً»؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَكِبَرُ السِّنِ مُوجِبٌ لِلْخَيْرِ وَالزَّهَادَةِ فِي الدُّنْيَا؛ قَالَ ﷺ: «خَيْرُ النَّاسِ مِنْ طَالِ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ».

وَقِيَمُنَا قَيِّمٌ إِسْلَامِيَّةٌ أَصيلَةٌ، تَرْحَمُ الضَّعِيفَ وَالصَّغِيرَ، وَتُوقِرُ الْكَبِيرُ، وَتَحْتَرِمُ الْعَالِمَ وَالسُّلْطَانَ؛ قَالَ ﷺ: «إِنْ مِنْ إجْلَالِ اللهِ: إكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِّي عَنْهُ، وَإكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ»؛ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدِ.

وَإكْرَامُ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ؛ أي:" تَعْظِيمُ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ فِي الْإِسْلَامِ بِتَوْقِيرِهِ فِي الْمَجَالِسِ، وَالرِّفْقِ بِهِ، وَالشَّفَقَةِ عَلَيْهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، كُلُّ هَذَا مِنْ كَمَالِ تَعْظِيمِ اللهِ؛ لِحَرَّمَتْهِ عِنْدَ اللهِ" [عون المعبود13/132].

إكْرَامُ الْكَبِيرِ بَدْؤُهُ بِإِلْقَاءِ التَحِيَّةِ وَالسَلَامِ عَلَيْهِ؛ قَالَ ﷺ: «يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ، وَالرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي»؛ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

إكْرَامُ الْكَبِيرِ بِالْاِبْتِدَاءِ بِهِ وَتَقْديمِهِ فِي الْحَديثِ، وَالتَصَدّرِ فِي الْمَجَالِسِ، وَالْبَدْءِ بِالطَّعَامِ وَالْجُلُوسِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا تَحَدَّثَ عِنْدَهُ اثنانِ بِأَمْرٍ مَا، بَدَأَ بِأكْبَرِهِمَا سِنًّاً، وَقَالَ: كَبِّرْ كَبِّرْ، وَفِي صُفُوفِ الصَّلَاَةِ يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «لِيَلِني مِنْكُمْ أَوَلَوِ الْأحْلَاَمِ وَالنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يُلَوِّنُهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يُلَوِّنُهُمْ»؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

كَبِيرُ السِنِّ يُنَادَى بِألْطَفِ خِطَابٍ وَأَجْمَلِ كِلَاَمٍ، لَا يُسْتَخَفُّ بِهِ وَلَا يُهَانُ؛ رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ سَمُرَةِ بْن جُنْدُبِ -رَضِيَّ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: «لَقَدْ كنتُ عَلَى عَهِدَ رَسُولِ اللهِ غُلَاَمَاً، فَكَنَّتْ أَحْفَظُ عَنْهُ، فَمَا يَمْنَعُنِي مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا أَنَّ هَا هُنَا رِجالًا هُمْ أَسَنُّ مَنِّي».

مِنْ إكْرَامِ الْكَبِيرِ الدُّعَاءُ لَهُ بِالتَّمَتُّعِ بِالصِحَّةِ وَالْعَافِيَةِ، وَحُسْنِ الْخَاتِمَةِ، وَمِنْ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ الدُّعَاءُ لَهُمَا فِي حَيَاتِهِمَا وَبَعْدَ مَمَاتِهِمَا ﴿وَقُلْ رَبِّ اِرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾.

مِنْ إكْرَامِ الْكَبِيرِ أَنَّ يَعَيِّشَ مَكْفُولَ الْحَاجَاتِ الْمَادِّيَّةِ، يُوَفَّرُ لَهُ غِذَاؤُهُ وَدَوَاؤُهُ، وَمَلْبَسُهُ وَمَسْكَنَهُ، وَأوْلَى النَّاسِ بِالْاِهْتِمَامِ بِهَذَا أُسْرَتُهُ وَأَوْلَاَدُهُ؛ فَكَمَا رَبَّاهُمْ صِغَارَاً، يَجِبُ أَنْ يَكْفُلُوهُ كَبِيرَاً، فَهَلْ جَزَاءُ الْإحْسَانِ إِلَّا الْإحْسَانَ ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾.

الْأَبْنَاءُ الْبَرَرَةُ، يَحْرِصُونَ عَلَى مُرَاعَاةِ كَبْرَةِ وَالِدِيهُمْ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْمَرْءُ قَوِيّاً، فَسَيَعُودُ يَوْمًا إِلَى ضِعْفٍ وَشَيْبَةٍ وَقِلَّةِ حِيلَةٍ، وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، فبرِّوا آبَاءَكُمْ، تَبَرُّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ.

اللَّهُمَّ اجْعَلْ خَيْرَ أَعْمَالِنَا خَوَاتِمِهَا، وَخَيْرَ أَعْمَارِنَا أواخِرَهَا، وَخَيْرَ أَيَّامِنَا يَوْمَ نَلْقَاكَ، يَارَبَ العَالمِينَ.

أقوُلُ قَوْلِي هَذَا، واسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلكُم ولسَائرِ المُسلِمينَ مِنْ كُلِ ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفِرُوهُ، إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَحِيمُ.

 

الخُطبَةُ الثَّانيةُ:

الحمْدُ للَّهِ وكَفَى، وَسَلامٌ عَلى عِبَادِهِ الذينَ اصْطَفَى، وَبَعدُ؛ فَاتقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- حَقَّ التَقوَى، وَتَأَسَّوْا بِهَدْي نَبِيِّكُمْ فِي التَّعَامُلِ مَعَ وَالِدِيكُمْ وَشُيُوخِكُمْ، وَاعْرِفُوا لَهُمْ قَدْرَهُمْ وَأَدَّوْا حُقوقَهُمْ، لِيَتَوَاصَلَ الْعَطَاءُ وَيَدُومَ الْبَرُّ.

اللَّهُمُّ أعزَّ الإسْلامَ وَالمُسلمينَ، وَاجْعَلْ هَذَا البلدَ آمِنَاً مُطمئنًا وَسَائِرَ بِلادِ المُسلِمينَ، وَأعذْنَا مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ.

اللَّهُمُّ آمَنَا فِي أَوْطَانِنَا وَأَصْلَحْ أئِمَّتِنَا، وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَأَيْدْ بِالْحَقِّ إمَامَنَا وَوَلِيَّ أَمْرِنَا خَادَمَ الحَرَمينِ الشَريفينِ، وَوليَ عَهدِهِ وَوَفَّقَهُمَا لمَا تُحبُ وَترضَى، يَا ذَا الجَلالِ والإكْرَامِ.

اللَّهُمَّ مَنْ أَرَادَ بِلَادَنَا وَبِلَادَ الْمُسْلِمِينَ بِسُوءٍ، فَأَشْغِلهُ بِنَفْسِهِ، وَرُدَّ كَيْدَهُ فِي نَحْرِهِ، وَاجْعَلْ تَدْبِيرَهُ تَدْمِيرَاً عَليِهِ يَا سَمِيعَ الدُّعَاءِ.

عِبَادَ اللَّهِ: اذكُرُوا اللَّهَ ذِكرًا كَثِيرًا، وَسَبّحُوهُ بُكرَةً وَأَصِيلًا، وَآخِرُ دَعوَانَا أَنِ الحَمدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ.


 

([1]) للشيخ محمد السبر، قناة التلغرام https://t.me/alsaberm

 

 

 
  • خطب دعوية
  • مقالات دعوية
  • تحقيقات وحوارات صحفية
  • الصفحة الرئيسية