من مستشاري الملك عبدالعزيز ومفتي
الجيش السعودي العلاَّمة الشيخ :
محمد بن فيصل آل مبارك

محمد بن حسن المبارك

هو العالم الجليل والمحقق المدقق الشيخ محمد بن فيصل بن حمد بن مبارك، ولد في حريملاء سنة 1274هـ، في بيت شرف ورئاسة ودين، وربَّاه والده فيصل بن حمد أحسن تربية، وكان أميراً لبلدة حريملاء، وغزا مع جيش ومعسكر عبدالله الفيصل في حربه مع أخيه سعود فقتل في غزوة (طلال) في ربيع الآخر من عام 1290هـ، وكان أميرا شجاعا باسلا وهو عميد أسرة آل مبارك.
فخلفه على إمارة حريملاء أخوه علي بن حمد وكان رجلا صالحا، فتربى المترجم له على يديه، وصار علي عميدا للأسرة وكان كريما سخيا ذا مكانة مرموقة كأخيه، فأدخل الشيخ عند مقرئ بحريملاء اسمه عبدالعزيز بن تريكي فحفظ عليه القرآن نظراً، وجوَّده مع مبادئ الخط والحساب، ثم حفظه عن ظهر قلب، وكان عمه يحُثُّه على طلب العلم والمثابرة عليه فشرع في طلب العلم بهمة ونشاط ومثابرة فقرأ على علماء حريملاء.

شيوخه :

1ـ ومن أبرز مشايخه الشيخ عبدالعزيز بن حسن آل يحيى الملقب (حصَّام) قاضي المحمل والشعيب وما حولهما، وكان مقيما في حريملاء قرأ عليه مبادئ العلوم وهو يافع وكان معجبا بفرط ذكائه ويقول سيكون لهذا الفتى شأن.
والشيخ العالم ناصر بن محمد بن ناصر الراشد رحمه الله.
2ـ وقرأ على العالم المحدث محمد بن ناصر المبارك رحمه الله ولازمه.
3ـ كما قرأ على العلامة حمد بن عبدالعزيز العوسجي رحمه الله فقيه وقاضي المحمل والشعيب، لازم هؤلاء في أصول الدين وفروعه وفي الحديث والتفسير.
ثم سمت به همته للتزود من العلم والاستفادة فقرأ على علماء الرياض، فرحل إليها ولازم علماءها، ومن أبرز مشايخه في الرياض:
4ـ الشيخ عبدالله بن عبداللطيف رحمه الله في أصول الدين وفروعه والحديث
5ـ والعلامة المحدث سعد بن حمد بن عتيق رحمه الله في الفقه والحديث والمصطلح.
6ـ والشيخ حمد بن فارس رحمه الله في علوم العربية كلها.
لازم حلقاتهم ليلا ونهارا، وقد وهبه الله فهما ثاقبا وذكاءً متوقدا، فمكث في الرياض حوالي خمس سنين ينهل من مورد عذب صاف في العقيدة والعلوم النافعة.

صفته:
كان الشيخ رحمه الله رُبعةً قمحي اللون طلق الوجه وسيماً متناسق الأعضاء حاد البصر يبصر النجوم في النهار، وكان من أرمى الرماة لا يخطئ سهمه الطير ولو في الهواء "2"، وكان رحمه الله دليلا خِرِّيتا عارفا بالطرق والمسالك.

أخلاقه
كان رحمه الله مرح المجالسة حلو المفاكهة متواضعا حسن الخلق مستقيم الديانة، شجاعا باسلا، يحب ركوب الخيل، على جانب كبير من الحكمة وبعد النظر ورجاحة العقل، وكان ممن لا يتشدَّدون في لبس العقال، ولمَّا كان منتدباً من قِبلِ الملك للغُطغُط خَطبَ الجُمُعةَ وقد لبِسَ عِقالاً، فلمَّا رَأَوهُ جَعَلُوا يتعجَّبُون ويتهامسُون فيما بينهم.
وكانَ واعِظَ زَمانِه لمواعِظِهِ وقءعٌ في القلوب، وَصُولاً للرحم، يحنُو على الفُقَراء والمحَاويج ويتعاملُ مع الفلاَّحِين فيُنظِرُ المُعسِر"3" .

أعماله:
اجتمعت في الشيخ محمد رحمه الله صفاتٌ تفرقت في غيره، فكان عالما خطيبا واعظا شاعرا فارسا طبيبا، وقد مارس في الإمارة إبان إمارة عمه علي بن حمد في حريملاء مع حداثة سنه في ذلك الوقت "4" .
أ - أعماله ما بين عامي 1320إلى 1324ه حين كان في الرياض.
1ـ قال الشيخ محمد بن عثمان القاضي: (غزا مع الملك عبدالعزيز تسع غزوات هو فيها مستشاره وقارئه وإمامه ومفتي الجيش، وكانت له حظوةٌ لدى الملك عبدالعزيز رحمه الله، وكان عَيبةَ نُصحٍ له، وكان لا يفارقه حضرا ولا سفرا مُدة مكثه في الرياض، وكان جامعا بين العلوم الدينية والسياسية ورجاحة العقل) "5".
2ـ وله في هذه الأثناء قصائد حربية فصيحة، لكنَّها مع الأسف لم تحفظ.
3ـ وأبلى في غزوة البكيرية عام 1322هـ مع الملك عبدالعزيز بلاءً حسنا فكان على متن فرسه مقداما، فحفظها له الملك عبدالعزيز، واستشهد في هذه الغزوة أخوه الشيخ عبدالعزيز (والد الشيخ فيصل العالم المشهور).
4ـ ثمَّ أوكل إليه الملك عبدالعزيز رحمه الله مهمَّة التفاوض مع الحامية التركيَّة الباقية في القصيم بعد معركة البكيرية، فانعقد الاتفاق بينهم على أن يتعهد السلطان عبدالعزيز بتوفير مائة راحلة لترحيل القوات التركية إلى الشمال.
5- وقد حنكته التجارب فأوفده الملك للبحرين عام 1322ه، فكان عند حسن ظنه به "6".

ب - وبعد رجوعه إلى حريملاء - عام 1324هـ:
1ـ عينه الملك عبدالعزيز أميرا على حريملاء وذلك سنة 1324هـ.
2ـ ثم أميرا على الأفلاج سنتين فساسهم بعدالته ورجاحة عقله، فكان ذا مكانة مرموقة مسدَّدا في آرائه.
3ـ ثم عاد من الأفلاج لحريملاء فجلس للطلبة الذين وفدوا إليه من كل صوبٍ للانتفاع من علومه الجمة، وظل إماما وخطيبا حوالي ربع قرن.
4ـ وكان - بعد رجوعه إلى حريملاء - يحضر غزوات الملك عبدالعزيز، وكان خلال ذلك هو إمام ومفتي للجيش السعودي.
5ـ وقد أوفده الملك مرشدا لجهات عديدة، وناصحا للإخوان في وقت شدتهم، فساسهم بحكمته.
6ـ ورحل إلى الشارقة وما حولها بطلب من داعية الخير والرشد علي بن محمود فعينه حاكم الشارقة سلطان بن صقر:
أ - مديراً لمدرستها العلمية وساهم في إنشائها.
ب - ثم ولاَّه الحاكم سلطان بن صقر قضاء الشارقة.
ج - وإمامة جامعها والخطابة فيه، وكان فصيحاً في الخطابة يرتجل من دون صحيفة ولا يتلعثم، وله صوت رخيم جهوري، حسن التلاوة لا يمَلّه سامعه.
وأحبه أهل الخليج خصوصاً أهل الشارقة محبة شديدة، وظل عندهم مكرماً مبجَّلاً، وتعرَّف بعلماء الخليج منها وممَّن يفِد عليها، وذاع صيته واشتهر بمعلوماته وحنَّكته فنفع الله به، وظل عندهم حوالي ثلاث سنوات.
7ـ وكان واسع الاطلاع في فنون عديدة وتبحر في علم الفلك ومعرفة حساب النجوم والبروج ومواقعها "7".
8ـ وكان يقرأ على المرضى، فاشتهر بذلك وصارت الركبان من أجل ذلك تتوافد على حريملاء، وكان رحمه الله مستجاب الدعوة فكان إذا استسقى مطروا.
9ـ وكان ذا معرفة بالطب العربي، وربما استعمل الأدوية يستقي من الطب النبوي كابن القيم في زاد المعاد، ومن تجاربه الخاصة "8".
10ـ وكان شاعراً منطيقا وأديباً بارعاً، وله نظمٌ رائق عربي ونبطي في مناسبات "9" .
ومما قُيدَ مِن شعرِه قوله في الملك عبدالعزيز رحمهما الله من قصيدة ابتدأها بقوله:

(أنَّت سُليمى ذُعافاً دمعها همعا)

فيقول رحمه الله :

خاض الخطوب وكان السيف معقله
دأباً يُريد سبيل الله لا الطمعا
شهم له المجد مغناطيس يجذبه
يسمو إليه ارتفاعاً كلما ارتفعا
بازٌ يريم اقتناص الصيد منشؤه
صاد الملوك وحاز الملك والبقعا
أم يحسب الخصم أنَّ الخرق متسعٌ
أن ثار جمع من الباغين فاجتمعا
الخارجون عن الإسلام أجمعهم
فيه الحديث من المختار قد سُمعا
قومٌ نفاهم ليوث الصحب فابتعدوا
بكُل أبيض فتاك إذا وضِعا
بِكُلِّ أبيض مصقول يُكَرُّ بِه
مدرَّبٌ في حِياض الموت قد برعا
كرُّوا على مضمرات الخيل مسرجةً
واهتزت الأرض من إرجافِها فزعا
كغاديات رجلن الرعد من ثقل
فأمطرت فتك ذي ضغن وقد جزعا
بِيض أوائلُها دُهمٌ أواخِرُها
غُلب فوارسها والسيف قد لمعا .
فالنار في شَعَلٍ و الضرب قي قَلَلٍ
والضّدُّ في فشلٍ والعفو قد رُفِعا

إلى أن قال:
لنا المِراسُ إذا زاد الوغى رهجاً
والحِلم والصبر فينا صِبغةً طُبِعا

و قوله:
و لولا حِذار النيل مني لما انتحت
نجائبُ خَودٌ مشيُها وذميل

وخاطرتُ فوق السابحات وإنَّها
تسير وإن هبَّ النسيم تميل

اطلاعه الواسع:
لعلَّ الملفت للنظر في شخصية الشيخ محمد رحمه الله هي رغبته الجموحة للمعرفة والاطلاع في كلِّ فن، ولذلك تميز عن كثير من علماء جيله بمواكبته للمستجدات في عصره، ولذلك:
1ـ فقد كان الشيخ محمد أول من أدخل الماكينة الزراعية في بلدته حريملاء، وذلك في عام 1360ه، حين أرسل بها إليه ابنه الشيخ فيصل من الحجاز.
2ـ كان الشيخ يتابع أحداث الحرب العالمية الثانية، وذلك عن طريق جلسائه ممن كانوا يقتنون المذياع، مع أنَّ الشيخ آنذاك كان قد طعُن في السن.
3ـكانت لدى الشيخ خريطة كاملة للعالم يقوم من خلالها بتوضيح ما يدور من أحداث عالمية لطلبته وجلسائه، ولذلك قال الشيخ القاضي في ترجمته: هذا مع معلومات وافية في علم الجغرافيا إذا أخذ يتحدث عن القارات برية أم بحرية، وعن مواضع المعارك - في الحرب العظمى وفي الثانية - يقول سامعه: كأنك شاركت فيها وطفت على هذه القارات "10" .

تلاميذه:
وكان الشيخ محمد رحمه الله حسن التعليم، وكانت جلساته صباحا وبعد الظهر وبعد المغرب، فحين جلس للطلبة التف إلى حلقته طلبة كثيرون لا حصر لعددهم، ووفد الطلبة إليه من كل صوب للانتفاع من علومه الجمة، وظل إماما وخطيبا حوالي ربع قرن.
وقد تخرَّج من حلقته طلبة كثر، وقد ولي كثير منهم القضاء، من أبرزهم:
1ـ الشيخ فيصل بن عبدالعزيز المبارك قاضي الجوف رحمه الله
2ـ وابنه الشيخ سعد بن محمد بن فيصل قاضي وادي الدواسر رحمه الله
3ـ وابنه الشيخ فيصل بن محمد بن فيصل قاصي الشارقة ورئيس هيئة الحسبة بجدة رحمه الله
4ـ والشيخ إبراهيم بن سليمان قاضي الرياض والشعيب رحمه الله
5ـ والشيخ عبدالرحمن بن سعد بن يحيى قاضي الشعيب رحمه الله
6ـوالشيخ محمد بن مهيزع قاضي الرياض رحمه الله
7ـ والشيخ عبدالله بن عبدالعزيز بن رشيدان قاضي "ثادق" رحمه الله
8ـ والشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن سوده قاضي "قرية" رحمه الله
9ـ والشيخ ناصر الراشد رئيس ديوان المظالم رحمه الله
و غيرهم كثير.

آثاره:
1ـ ساهم الشيخ محمد رحمه الله حين كان قاضياً في الشارقة في إنشاء المدرسة المحموديَّة، وتولَّى التدريس بها وهذه المدرسة وإن كانت قد توقَّفت بعد شيوع التعليم النظامي إلاَّ أنَّ الطبقة المثقَّفة من العلماء والأدباء بالشارقة هم من خريجي تلكم المدرسة.
2ـ أشرف الشيخ محمد رحمه الله خلال تولِّيه للتدريس بالمدرسة المحمودية على إنشاء مكتبتها العلميَّة المعروفة "بالمكتبة المحمودية"، ولا تزال هذه المكتبة موجودةً ولله الحمد، وتؤَدِّي دورها التثقيفي والتوعوي، وتُعتبر من المكتبات التاريخية المهمَّة في دولة الإمارات المتحِّدة.
3ـ ومن آثار الشيخ محمد بن فيصل في حريملاء "دار الجماعة"، وهي داره التي ابتناها بعد قدومه من الشارقة، ثمَّ رأى أن يجعلها داراً للجماعة لتكون مضيفا لزائري حريملاء.
4ـ للشيخ رحمه الله قصائد عربية ونبطية لو جمعت - في ذلك الوقت - لجاءت في مجلدٍ كبير، كثيراً منها في مشاهده مع الملك عبدالعزيز، إلاَّ أنها - مع الأسف فقدت ولم يبق منها إلاَّ بضع قصائد.

وفاته:
وافاه أجله المحتوم مأسوفاً عَلى فقده في الخامس من جمادى الأولى عام 1365ه في حُريملاء وخَلَّفَ أبناءً، منهم العالمان: سعدٌ وفيصلٌ "11" رحمهما الله برحمتِه الواسعة، والشيخ عبدالله عميد أسرة آل مبارك حفظه الله، والشيخ عبدالعزيز القاضي بعدَّة جهات حفظه الله، وكانت وفاة الشيخ محمد عن عُمرٍ يناهِزُ الإحدى وتسعين سنة رحمه الله.

-------------------------------------------------------
1- غالب ما في هذا المقال منقول بحرفه عن "روضة الناظرين في علماء نجد" للشيخ القاضي رحمه الله، وعن "علماء نجد خلال ثمانية قرون" للشيخ عبدالله البسام رحمه الله، مع تقديم وتأخير وتصرف بسيط.
2- روضة الناظرين ج 2ص 283-
3286-روضة الناظرين ج 2ص 283-
4.286- انظر. روضة الناظرين ج 2ص 283-
5.286- روضة الناظرين ج 2ص
6.284- روضة الناظرين ج 2ص
7.284- روضة الناظرين ج 2ص 283-286، وانظر علماء نجد خلال ثمانية قرون - للبسام - ج 6/ص356-
8.358- روضة الناظرين ج 2ص 283-286، وانظر علماء نجد خلال ثمانية قرون - للبسام - ج 6/ص356-
9.358- قال الشعر رحمه الله وأكثر منه في صباه بعربيه ونبطيه فأبدع، ثم زهد في ذلك كله وتفرغ لطلب العلم ثم للتعليم.
10- روضة الناظرين ج 2ص 283-286، وانظر علماء نجد خلال ثمانية قرون - للبسام ج 6/ص356-
11- انظر روضة الناظرين ج 2ص 283-286، وانظر علماء نجد خلال ثمانية قرون - للبسام - ج 6/ص356-