اطبع هذه الصفحة


مقدمة لدراسة السيرة النبوية

محمد جلال القصاص
 @mgelkassas


بسم الله الرحمن الرحيم
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مقدمة لدراسة السيرة النبوية

            
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن أحبه واتبع هديه، وبعد:-
 منذ وعيت وأنا في ظلال السيرة النبوية، فقد أتيت على البداية والنهاية ولم أتجاوز السادسة عشر، وإلى اليوم لم أكد أرحل عن ظلال السيرة النبوية. كنت أقرأ حبًا وشوقًا للحبيبﷺ وأصحابه رضي الله عنهم. كانت السيرة النبوية بمثابة الرياض العطرة التي أستريح فيها. ثم تاقت نفسي لتصور شخصِ الحبيب ﷺ، وحياة الحبيبﷺ وهو بين أصحابه رضي الله عنهم. وكم قضيت من الساعات، وأنا شاب صغير، أتخيل الحبيبﷺ وهو في مسجده قائم يصلي وخلفه الصحابة رضي الله عنهم كأنهم بنيان مرصوص، وهوﷺ جالس بعد الصلاة ووجهه الشريف يصافح وجوههم الكريمة.. يسبح ويسبحون.. يقول ويصغون، وهم يتحدثون بين يديه وهو، صلى الله عليه وسلم، ينصت ويبتسم. والروحُ الأمين وَالملَأُ من المَلائِكة بينهم وعوام الملائكة تحفهم. والشيطان بعيد يلطم خديه ويضع التراب على رأسه. والدنيا ترقبهم وتنصت لهم وتروي عنهم؛ وهو ﷺ يسير بين أصحابه كأحدهم لا يتميز عنهم بشيء وقد أوتي الكمال والجمال. وهو بين الصفوف وعيناه ترمقان العدو، وحسان ينادي منتشيًا: "جبريل تحت لوائنا ومحمد"؛ وهو في طرقات المدينة تقبِّل الأرضُ قدميه، ويفرح بمروره الشجرُ والحجرُ، يُعطر المكان والزمان، ويتيه الشجر والحجر فخرًا بمرور الحبيب بين يديه. وهو ﷺ في بيته بين زوجاته وأبنائهن والبيت مزدحم بالنساء وأطفالهن ومن تأتين عليهن زائرات. وهو قائم يصلي في جوف الليل، وهو راكع يعظم ربه.. وهو ساجد يتضرع ويناجي.

وأبو بكر الصديق وهو ثائر يوم الردة يقف وحده صلبًا في وجه الجميع ينادي "أينقص الدين وأنا حي؟!". وعمر.. وكم وددت أني أصافح عمر.. أني أعانق عمر. أني أتلو القرآن على عثمان بن عفان في مسجد النبي ﷺ. وإني أحب عثمان وعبد الرحمن بن عوف وأُبيَّ بن كعب وأخدم القرآن بما استطعت وأرجو أن أحشر في زمرة القرآن وأهله. وكم وددت أني أجالس عليًا وأرافقه.. كم وددت أني مع خالد وهو يسير ليلًا ويشجع الكرام "عند الصباح يحمد القوم السرى"، وهو يهتف في الجند وقد حاقت بهم المخاوف: "المعونة على قدر النية والأجر على قدر الاحتساب، فأروا الله من أنفسكم خيرًا يمدكم بمدده"، وهو يجثم جثوم الثعالب، وهو يثب وثبة الأسود.

كانت هذه أحلام الصبا.. إي والله. انقضت أيام الصبا كلها ومراحل الشباب الأولى وليس للنفس حديث إلا الحبيب، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، رضوان الله عليهم، بهذا التصور السهل.

وبعد سنوات عثرت على أسطوانة مدمجة (CD) من شركة "حرف" في السيرة النبوية وكان بها بداية تجسيد لحياة الصحابة وعرضٌ لجغرافيا السيرة. مكة: الكعبة ومساكن القبائل ومعالم السيرة في مكة، والهجرة، والمدينة بتفاصيلها، وغزوات الرسول ﷺ فكانت إطلاله جديدة على حياة النبي ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم.

ثم تطور الأمر بعد ذلك لمحاولة كتابة متواضعة، نشرت بعنوان: "مفاهيم أساسية لدراسة السيرة النبوية" وكانت، كشأن عمل الشباب، لا يحمل أكثر من العاطفة القوية والله نسأل توفيقًا وأجرًا، إنه كريم منان.
 ثم، بلا قصدٍ، نزلت بساحة النصارى في عام1426ه/ 2005م، وهم يتطاولون على الدين ومقام سيد المرسلين ﷺ، وبدأتْ مرحلة جديدة من النظر للسيرة النبوية، كان النصارى يطلقون أسئلة ويحاولون تقديم رؤية مخالفة للبعثة المحمدية. وبدأت أتلقى أسئلة النصارى والمتأثرين بهم من المنتسبين للإسلام (كخليل عبد الكريم، وسيد القمني، ومعروف الرصافي، وهشام جعيط ): تشكيك في البعثة المحمدية (نزول الوحي من السماء)، وفي شخص الرسول ﷺ: نبي هوﷺ؟ أم عبقري اجتهد؟ أم مصلح تألم لحال قومه وقد غشيهم الجهل والظلم فحلُّوا في ذيل الأمم؟ أم كانت بيئة قريش الطامحة للتحول من القبيلة للدولة، بفعل الانتعاش التجاري (الإيلاف وحركة البضائع)، فجاء الرسول ﷺ يكمل ما بدأه قصي بن كلاب وهاشم بن عبد مناف وعبد المطلب بن هاشم؟ أم كانت بيئة العرب المتأزمة تبحث عن مخرج ووجدته في شخص الرسولﷺ؟ وأسئلة حول القرآن الكريم: ثبوتية الوحي، صحة النص وسلامته من الأخطاء اللغوية، والناسخ والمنسوخ، وتعدد القراءات؟
 وقضيت سنوات في مواجهة شبهات النصارى، وكتبت كتابًا طبع ثلاث مرات، حاولت من خلاله المشاركة في الرد على الشبهات التي يثيرونها، بعنوان "الكذاب اللئيم زكريا بطرس: دراسة بحثية تحليلية مختصرة"، وعشرات من المقالات نشرت على "صيد الفوائد" و"طريق الإسلام" والمنتديات الإسلامية، كنت أرمي عن الحبيب ﷺ وعن حمى الدين.

وبعد أن كثر المدافعون عن الإسلام ضد الحملة التنصيرية البذيئة الشرسة، انصرفتُ لدراسة العلوم السياسية في الأكاديميات المختصة حتى حصلت على الدكتوراة في العلاقات الدولية من جامعة القاهرة. وفي السياسة وجدت ذات الأسئلة من العلمانية الوضعية Positivism. تُشكك في الوحي والغيب عمومًا. وتشكك في قابلية أي نموذج روحاني لأن يسود، وتدّعي أنها هي "نهاية التاريخ".. أو أن البشرية منذ كانت تسير في سياق تصاعدي، وبالتالي فإن ما وصل إليه الغربيون من تدبيرٍ لشئون الحياة هو نهاية التقدم وليس بعد ذلك شيء!!

ويكذبون فالتاريخ جولات بين حزب الله بقيادة رسل الله، عليهم الصلاة والسلام، والمؤمنون بهم من ناحية وحزب الشيطان يتقدمهم إبليس ومن أغوته الشياطين من بني آدم من ناحية أخرى. وحين تتمكن المعصية من المجتمعات يأتي الهلاك من الله {وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَٰلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ ۖ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39)}الفرقان: ٣٨ – ٣٩، {وَتِلْكَ الْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا (59)} الكهف: ٥٩، {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)}ﱠ محمد: ١٣ وفي الحديث: "أنهلك وفينا الصالحون: قال: نعم إذا كثر الخبث"[1].
 وبين النصارى والعلمانيين رأيت أعدادًا غفيرة من المنتسبين للإسلام يقرؤون البعثة المحمدية (الوحي كتابًا وسنة) من منظور علماني بحت. رأيت جموعًا من المنتسبين للإسلام آمنوا بالمذاهب العلمانية (الوضعية) وجاءوا للشريعة يحاول كل واحدٍ منهم أن يصب الشريعة في قالبه المذهبي، فمنهم من قال عبقري من العباقرة ويزعم أن التاريخ يصنعه العباقرة!!

 وكم من عبقري مرّ دون أن يدري به أحد، فمن لا يمده ربه بأسباب لا تحس به أو تسمع له ركزا.
 ومنهم من يقول: إعداد أرضي من خديجة[2]، أو من ورقة بن نوفل[3]، أو من تلقاء نفسه حيث جد واجتهد ورحل إلى الشام واليمن وتعلم من أقرانه[4]. ومنهم من عاش بين الغرب مدة من الزمن فتأثر بمدرسة تأويل النصوص الدينية (الهرمنيوطيقا) وراح يطالب بالتعامل مع النص المكتوب بين دفتي المصحف على أنه نص أدبي دون اعتبار لقداسة النص .. وكأنه ليس كلام الله الذي (لَّا يَأۡتِيهِ ٱلۡبَٰطِلُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَلَا مِنۡ خَلۡفِهِۦۖ تَنزِيلٌ مِّنۡ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت: 42).. ودون اعتبارٍ للمقاصد الإيمانية في النص!! ويسمي هذا تجديدًا واجتهادًا ويجد من يصغي إليه!!

كل واحد منهم جاء من خلال المذهب العلماني الوضعي الذي اعتنقه. وقدمت مناقشة مستفيضة لعباس العقاد أنفقت فيها سنوات من عمري، فقد قرأت للعقاد وعنه أكثر تسعة آلاف صفحة، وأعدت صياغة (تحرير) ما كتبت عنه أكثر من سبع مرات، وصبرت له رجاء أن تكون مناقشة عباس العقاد حالة دراسة لغيره ممن تعدوا على البعثة المحمدية بتفسيرات علمانية أرضية تأثروا فيها بغير المسلمين[5].

تغير المشهد، من قراءة لأجل المتعة النفسية، إلى رد شبهات جزئية يتحدث بها النصارى، ثم إلى الاشتباك مع المتأثرين بخطاب الكافرين، كخليل عبد الكريم، وسيد القمني، وعباس العقاد، وعمرو خالد،[6] ثم تطور المشهد،  إلى البحث عن الأفكار الرئيسية التي ينطلق منها الكافرون والمتأثرون بخطابهم حتى استقر عندي، بعد طول نظر فيما كتب هؤلاء، أنهم ينطلقون من ثلاثة أفكارٍ رئيسية، وهي- حسب حضورها في كتاباتهم-

أولًا:
القول ب"حتمية تأثير البيئة والعوامل الوراثية"، وهي الفكرة الرئيسية عندهم، وغيرها تابع لها. وقد نبتت بدايةً من رأس ابن خلدون ودوّنها في مقدمته للتاريخ، وتلقفها منه الغرب (الوضعية الغربية) وأسس عليها علم الاجتماع الغربي، ثم رددها المتأثرون بالمناهج الغربية أو بابن خلدون مباشرة.

وثانيًا:
القول بأن البعثة المحمدية ثمرة للصفات الشخصية الفذة التي تحلى بها النبي ﷺ، كالعبقرية.

 وثالثًا:
القول بالتطور المعرفي. وهؤلاء فريقان: فريق يقول بأن البعثة المحمدية (الوحي كله: أخبار وتشريعات) كانت حسب الزمان والمكان وأن على الأتباع أن يطوروا خطابهم بما يناسب زمانهم ومكانهم (أو ما يقال له: ارتباط النص بالزمان والمكان)، وفريق يقول: بأن البعثة المحمدية تطورت فعليًا باختلاف الزمان والمكان فكانت نسخًا متعددة: إسلام النبي وإسلام الراشدين، وإسلام الأمويين، وهكذا[7].
وكتبتُ عددًا من المقالات والأبحاث، وألقيتُ بعض المحاضرات أناقش هذه الفكرة الرئيسية وبعض تطبيقاتها، وهاأنذا أحاول، بحول الله وقوته، عرض شبهات المخالفين من خلال المدخل الذي اجتمعوا فيه (تأثير البيئة والعوامل الوراثية)، وأرد عليهم من خلال مقولة يسرها الله لي بعد طول تأمل في السيرة النبوية، وهي "فجائية الدعوة" ونشرت الفكرة في مقالٍ بعنوان: "فجائية الدعوة أكثر ما يؤرق المخالفين"، والآن أعود للتفصيل.
هي عزمة أردُّ بها ما أراه باطلًا عن حياض الدين ومقام سيد المرسلين ﷺ، وصحابته  رضي الله عنهم. أحاول المساهمة في إرشاد السائرين إلى رب العالمين، طلبًا للقرب من الله، والله أسأل رشدًا، وعزيمة على الرشد، وعونًا، وبركةً. إنه كريم منان.
محمد جلال القصاص

منطلقات الكافرين والمتأثرين بخطابهم في تفسير البعثة المحمدية: الإطار النظري لفهم الظاهرة

 
ذكر اللهُ العليم الخبير في كتابه أن بعضًا من المسلمين يتأثرون بخطاب الكافرين، أو يعاونون الكافرين على كفرهم وسعيهم في صدِّ الناس عن دين الله، يقول الله تعالى: (وَفِيكُمۡ سَمَّٰعُونَ لَهُمۡ)[8] أي: "ضَعفة يسمعون قولهم ويطيعونهم أو نمامون يسمعون حديثكم للنقل إليهم"[9]، فثمة تأثر بخطاب المخالفين من المستشرقين و"المبشرين"، وثمة تعاون من بعض المنتسبين للإسلام، بقصدٍ أو بدون قصد، مع الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله.

ومن قبل قدَّم المستشرقون والمبشرون شبهاتهم على أنها قراءتهم-هم- للشريعة الإسلامية، وذلك حين كانوا يخاطبون من خَلْفهم من قومهم، أو-بالأحرى- حين كان مَن خلفهم لا يعرفون شيئًا عن الإسلام إلا من خلالهم. والآن بعد أن أصبح التواصل ممكنًا للكل مع الكل مباشرةً من خلال وسائل التكنولوجية الحديثة، تتلمذ نفر من المسلمين على أيدي المستشرقين، وتعلم نفر من كتاباتهم، فتأثروا بخطابهم وقالوا ببعض قولهم، وكانت السمة العامة أن أقبل هؤلاء المتأثرين بخطاب الكافرين على إعادة قراءة الشريعة الإسلامية من جديد من خلال مذاهبهم العلمانية التي آمنوا بها، فكانت النتيجة ظهور تفسيرات للبعثة المحمدية (الوحي كتابًا وسنة) من خلال مفاهيم علمانية.

وحيث أن لكل معرفة سلطة تدعمها.. تحملها إلى عقول الناس وتمكنها من تشكيل سلوكهم، فإنه لا ينبغي علينا، ونحن نرصد هذه الظاهرة ونحاول فهمها والتنبؤ بسلوكها، أن نرصد طبيعة الأفكار وحركتها (من وإلى) دون أن نرصد القوى الداعمة لها وبيان أن الفكر لا يتمكن إلا بقوى داعمه.. بالمعنى الواسع للقوى. ولذا فإن الإطار النظري الأمثل لفهم هذه الظواهر يتكون من مقولتين: الأولى: حتمية تأثير البيئة، والثانية: الدعم من قبل الأدوات العلمانية المحلية والخارجية.

تعدُّ مقولة "حتمية البيئة"، بمعنى أن البعثة المحمدية إفرازٌ للبيئة التي عاش فيها الرسول ﷺ أو أن ما جاء به النبي ﷺ كان امتدادًا لما كان سائدًا في بيئته الصغيرة (قريش/ مكة المكرمة) خصوصًا والبيئة العربية عمومًا، الفكرةَ الرئيسيةَ التي يحاول من خلالها الكافرون و"السمّاعون لهم" نفي رسالة النبي، صلى الله عليه وسلم. ويتفرع عن هذه الفكرة فكرةً أخرى وهي "التطور". فالمتحدثون بحتمية البيئة يقولون بضرورة التطور المعرفي تبعًا لتغير البيئة (الزمان والمكان)[10].

 وربما كان السبب في انتشار هاتين المقولتين (حتمية البيئة، والتطور) سيطرة مفاهيم علم الاجتماع الحديث على عامة الحقول المعرفية المتعلقة بالدراسات الإنسانية. وذلك أن علم الاجتماع الحديث ينطلق من أن للواقع (البيئة) قوانين حتمية يفرضها على عموم الناس[11]. ولمزيد من البيان أضرب مثلًا بما ورد في كتابات خليل عبد الكريم، يقول عن شخص النبي ﷺ: "ولذا فإنه لابد وبطريق الحتم واللزوم أن يتأثر بالنسق الاجتماعي والنظام الحضاري السائدين في محيطه"[12]، ويقول عن الأنبياء وعظماء الناس الذين يُحدثون أثرًا في الواقع المعاش: "فإنهم لابد يتأثرون بالمجموع أو الجماعة؛ فالعلاقة بين الفرد مهما سما قدره والمجتمع والجماعة علاقة تبادلية وينتج بين الطرفين تكامل عضوي ديناميكي، هذه حقيقة علمية قال بها علماء الاجتماع"[13]. وكرر ذات الكلام في مقدمة كتابه "مجتمع يثرب" حيث يقول: "وعلم الاجتماع يؤكد لنا أن تغيير أحوال أي مجتمع لا يتم بتأثير النصوص مهما كان شأوها من البلاغة والإعجاز"[14] وهو هنا يدعي أن الأثر الذي ظهر على يد الرسول ﷺ وصحابته، رضوان الله عليهم، لم يكن بتأثير القرآن الكريم والسنة النبوية وإنما جاء بمؤثرات البيئة! وفي مكانٍ آخر يدّعي أن مجتمع الصحابة لم يتغير كثيرًا عن مجتمع الجاهلية، وأن "العلاقة بين الرجل والمرأة ظلّت كما كانت في الجاهلية (علاقة ذكر وأنثى)، وأنها كانت المحور الذي يدور حوله ذلك المجتمع وأن محمدًا[15] ﷺ بذل جهودًا تفوق طاقة البشر ليتسامى ذلك المجتمع بها ولكن لرسوخ ذلك النسق الاجتماعي وتجذره وضربه حتى الأعماق فيه هذا من جانب  ولقصر المدة التي قضاها محمد بين جنباته من جانب ظل ذلك المجتمع على حاله ولم يتغير إلا بنسبة ضئيلة"[16]يقول: "لم يتغير مجتمع يثرب، وظلت العلاقة القائمة هي العلاقة بين ذكر وأنثى كما قد كانت في الجاهلية (فحولة وأنوثة)"[17]. ويقول: "إن سنن الاجتماع ترفض أن تتغير الأنساق الاجتماعية في مجتمع معين وخاصة تلك التي استمرت مئات السنين، في بضعة أعوام؛ قد تنجح دعوة في تهذيب عشرات من المحيطين بالداعية ولكن القاعدة الشعبية العريضة تظل محتفظة بأنساقها وعاداتها، ولا تتغير عندها إلا إذا تغيرت ظروفها المادية، مثل: طرق الإنتاج وأدواته ووسائله، بل إن بعض الملتفين حول صاحب الدعوة تغلب عليهم أعرافهم وطبائعهم المركوزة في أعماق نفوسهم والتي شبوا وشابوا عليها قبل اتصالهم به أو اتصاله بهم)[18].

وبمثل ما قال خليل عبد الكريم تحدّث أمين الخولي ورفاقه[19]،  فقد انطلق هؤلاء من ذات الفكرتين الرئيسيتين (حتمية البيئة والتطور)[20]. ويأتي، إن شاء الله، حديث مفصل عن هذه المدرسة في هذه الدراسة عن السيرة النبوية.
 والحاصل أن هؤلاء يبدؤون حديثَهم من تقرير "تأثير البيئة" كثابت ينطلقون منه، ثم يتحركون في مسارات مختلفة، أهمها: التفسير السياسي والاقتصادي للبعثة المحمدية (الوحي كتابًا وسنة)؛ والتفسير من خلال العبقرية والتخطيط الاستراتيجي (أو الصفات الشخصية)؛ أو القول بارتباط النص بالزمان والمكان بمعنى أن الوحي ثمرة حراك مجتمعي وبالتالي فإن على كل قوم أن يطوروا النص بما يتناسب مع زمانهم ومكانهم، وادعاء أن النبي صلى الله عليه وسلم تعلَّم على يد أقرانه.

وإنَّ تَعَدُد التفسيرات مع تضاربها أمارة على أنها حالة من تعمد تضليل الناس وصدهم عن سبيل الله، وليست حالة من كشف حقيقة ما؛ ويؤيد ذلك أنه قد تم الرد على ما يثار من شبهات حول الوحي مرارًا ومع ذلك تتكرر ذات الشبهات بعد الرد عليها، وفي هذا أمارة على أن المتكلم بالشبهة لا يريد جوابًا، وإنما يريد صرف الناس عن دين الله.

 وقد خصصت لكل مسار مبحثًا، ثم أردفت هذه المباحث بمبحثٍ آخر فيه إطلالة عامة على حال الشبهات والمتكلمين بها والداعمين لهم أو المستفيدين من هذه الظاهرة.. الناشرين لها بين الناس إذ أن عامة هؤلاء كتاب لا يبحرون مكاتبهم أو أنديتهم.
وتعمدت أن أقترب من قبل المتحدثين بالشبهات، وذلك لارتباط الفكر بالأشخاص في نظر عوام المثقفين، كما جوزيف قزي، وزكريا بطرس، وخليل عبد الكريم، وعباس العقاد، وعمرو خالد، ووضاح خنفر، وديورانت. وحينًا اقتربت من قبل المفاهيم كما في "الهرمنيوطيقا"، و"إعادة تشكيل العقل العربي"، والله أسأل توفيقًا وقبولًا، وبركة، إنه كريم منان.


محمد جلال القصاص
ربيع أول 1444هـ

---------------------------------
[1] متفق عليه.
[2] في كتابه "فترة التكوين في حياة الصادق الأمين" لم يكد يخرج خليل عبد الكريم عن فكرة واحدة وهي: ادعاء أن خديجة بنت خويلد هي التي خططت للبعثة المحمدية، فهي- حسب زعمه الكاذب- التي درست النصرانية وناقشت القساوسة، ثم علّمت النبي الأميصلى الله عليه وسلم ، وأنها هي التي خططت كليةً للبعثة، وأدارت المشهد إلى وفاتها، ووضعت الأسس للدعوة بعد وفاتها!! مع أنه يعترف بعدم وجود أي دليل على هذا في السيرة، يقول: حذفه المسلمون وهم يكتبون السيرة!!، ومع أنه- في كتابٍ آخر- يعترف بأن مجتمع مكة والمدينة كان مجتمعًا ذكوريًا، لا يعرف المرأة إلا "بضعًا". ولا أدري كيف حذفه المسلمون وعلمه هو؟!! سبحانك هذا بهتان عظيم. انظر-إن شئت-:خليل عبد الكريم، فترة التكوين في حياة الصادق الأمين، (القاهرة، دار مصر المحروسة، 2004).
[3] كان هذا محور كتاب "قس ونبي" لأبي موسى الحريري، (لبنان، دار لأجل المعرفة، 2005). وجوزيف قَزِّي (1937م-2022م)، قس لبناني ماروني معاصر، قدّم رؤية خاصة عن الإسلام في عديد من الكتب باسمين مستعارين اشتهر بهما، وهما "أبو موسى الحريري" و "أنور ياسين"، وغلب عليه الأسماء المستعارة لانتشار كتبه بهما. صدرت كتاباته في سلسلة من عشرين إصدارًا باسم "الحقيقة الصعبة".
[4] كان هذا هو المحور الرئيس لعمرو خالد في حلقاته "على خطى الحبيب"، وقد ناقشت هذا مفصلًا في فصل "عمرو خالد وإنكار الوحي" في كتابي "عمرو خالد: دراسة بحثية تحليلية نقدية مختصرة" انظر: http://www.saaid.net/book/open.php?cat=88&book=9265
[5] من أشهر الأمثلة على ذلك، هذا السؤال الذي طرحه القس "جوزيف قَزّي": "هل كان محمد نبيًا مرسلًا من لدن الله ليؤسس دينًا؟ أم أنه جاء ليصلح مجتمعًا فاسدًا، فنجح، وأكسبه نجاحه نبوة؟!!) ينظر: جوزيف قزّي (أبو موسى الحريري)، نبي الرحمة: بحث في مجتمع مكة، (لبنان، دار من أجل المعرفة، 1990م)، ص7.
[6] ولا أسوي بين هؤلاء، فسيد القمني يعلن كفره، وخليل عبد الكريم يصرح بأن الوحي مصدره خديجة، رضي الله عنها، ويتطاول على الصحابة بما لم يقله أحد من قبله من المنتسبين للإسلام. والعقاد مسلم دافع عن الإسلام أحيانًا، وعمرو خالد من أهل السنة ويظهر كداعية.
[7] وممن قال بهذا وأكثر منه هشام جعيط في كتابه عن الوحي، ومن قبله جوزيف قزي في كتبه الأربعة (قس ونبي، نبي الرحمة، عالم المعجزات، أعربي هو؟!). وكذلك نصر حامد أبو زيد، فقد ذكر أن الذي صنع صورة النبي، صلى الله عليه وسلم، عند المسلمين هو "الفكر الديني السائد" وأن النبي، صلى الله عليه وسلم، حسب زعمه الكاذب، كان "ابن المجتمع ونتاجه"، ينظر: "مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن"، لنصر حامد أبو زيد، مصدر سابق، ص59.
[8] سورة التوبة: من الآية47.
[9] ينظر: "أنوار التنزيل وأسرار التأويل"، لناصر الدين أبو سعيد عبد الله بن عمر البيضاوي، (بيروت، دار إحياء التراث العربي،1418هـ)، ج3، ص83.
[10] تعد فكرة التطور فكرة شيطانية بالأساس. وأمارة ذلك أنها ظهرت في رأس عدد من الناس في أزمنة وأمكنة مختلفة. وقد تحدث بها ابن خلدون في مقدمته، والقزويني في "عجائب المخلوقات"، وابن طفيل في "حي بن يقظان"، وابن مسكويه في "تهذيب الأخلاق"، وإخوان الصفا في رسائلهم، وأرسطو في نظريته عن ترتيب المخلوقات في العالم، ثم انتشرت منسوبة لأحد المثقفين الغربيين (دارون) بسبب غلبة الثقافة الغربية. ويأتي في هذه الدراسة عن السيرة النبوية حديث عن أثر الشيطان المباشر في المستوى النظري والمستوى العملي، ينظر: "من وحي الشيطان" لمحمد جلال القصاص، موقع صيد الفوائد: http://www.saaid.net/Doat/alkassas/261.htm
[11] مصدر الفكرة من عند ابن خلدون، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، ينظر: "ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر"، لعبد الرحمن بن خلدون، (بيروت، دار الفكر العربي، 1408هـ/1988م)، ج1، ص13.
[12] ينظر: "الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية"، لخليل عبد الكريم، (القاهرة، سينا للنشر، 1990)، ص107.
[13] ينظر: "الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية"، لخليل عبد الكريم، مرجع سابق، ص107.
[14] ينظر: "مجتمع يثرب: العلاقة بين الرجل والمرأة في العهدين المحمدي والخليفي" لخليل عبد الكريم، (القاهرة: سيناء للنشر، 1997م)، ص7. وعلم الاجتماع لم يجمع على شيء، وإنما هو- وأمثاله- ينتقون ما يحلو لهم، وغالبًا ما يعنون علم الاجتماع الغربي المادي الوضعي، كما سيأتي حال مناقشة هذه الأفكار؛ وإن كل تغيير يبدأ بتغيير الأفكار. "إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ) (الرعد:11)
[15] مررت على ما كتب. لم أكد اترك منه شيئًا. ولم أره يصلي على الرسولصلى الله عليه وسلم إلا نادرًا، ويصف النبي صلى الله عليه وسلم بأوصاف فيها كثير من السخرية. 
[16] ينظر: "مجتمع يثرب- العلاقة بين الرجل والمرأة في العهدين المحمدي والخليفي" لخليل عبد الكريم، (القاهرة، سينا للنشر، 1997)، ص27.
[17] ينظر: "مجتمع يثرب- العلاقة بين الرجل والمرأة في العهدين المحمدي والخليفي" لخليل عبد الكريم، مرجع سابق، ص27.
[18] "مجتمع يثرب- العلاقة بين الرجل والمرأة في العهدين المحمدي والخليفي" لخليل عبد الكريم، مرجع سابق، ص21.
[19] أمين أنور الخولي (1895م-1966م)، قروي من قرية شوشاي مركز أشمون بالمنوفية. حاد الطبع، ثوري المزاج، تخرج من "مدرسة القضاء الشرعي" التي وضع خطتها الشيخ محمد عبده واللورد كرومر وأسسها فعليًا سعد زغلول حين كان وزيرًا للمعارف. شارك في ثورة 1919م ضمن فاعليات القضاة؛ وابتعث إمامًا للصلاة في السفارة المصرية في إيطاليا ثم ألمانيا، وأتقن الإيطالية والألمانية وكان يتحدث بهما في بيته، وفتن بالتطور الإداري في الفاتيكان والتطور المعرفي في الغرب عمومًا، ونشط للعمل العام طيلة حياته، فشارك في جمعية إخوان الصفا إبّان ثورة 1919م، وفي الثلاثينات من القرن المنصرم شارك القبطي سيء الذكر سلامة موسى (1887م-1958) في تأسيس جمعية المصري للمصري، ثم استقر في العمل المعرفي وأسس ما عرف بـ "جمعية الأمناء"، وهي هذه التي طبقت فلسفة الهرمنيوطيقا، وأصدر عن هذه الجمعية مجلة على نفقته الخاصة طيلة حياته وتوقفت بعد رحيله. وأعني برفاقه أولئك الذين توافقوا معه على تطبيق فلسفة التأويل الغربية "الهرمنيوطيقا He
rmeneutics"على القرآن الكريم، وأشهرهم: محمد أحمد خلف الله (1916-1991م)، وشكري عمر فيصل (سوري الجنسية 1918-1985م)، وعبد الفتاح شكري عياد (1921-1999م)، ومصطفى عبده ناصف(1921م-2008م)، وحسين محمد نصار (1925-2017م). ثم نصر حامد أبو زيد (1943م-2010م) وهو تلميذ غير مباشر للخولي.
[20] والنصوص التي تتحدث عن "حتمية البيئة" عند هؤلاء كثيرة ولكن المقام مقام بيان أفكار رئيسية وليس مقام استقصاء، ينظر: "مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن" لنصر حامد أبو زيد، (الرباط، المركز الثقافي العربي، 2014م)، ص
 

 

 
  • مقالات شرعية
  • في نصرة النبي
  • مقالات في فقه الواقع
  • مقالات أدبية
  • تقارير وتحليلات
  • رسائل ومحاضرات
  • مع العقلانيين
  • صوتيات
  • مقالات تعريفية بالنصرانية
  • رد الكذاب اللئيم
  • اخترت لكم
  • بريد الكاتب
  • الصفحة الرئيسية