(9)
الفصل الأول:
وفيه مباحث:
المبحث الأول: في المقصود بالعلم.
المبحث الثاني: العلم بالله تعالى.
وفيه مطالب:
المطلب الأول: العلم بألوهية الله.
المطلب الثاني: العلم بإحاطة علم الله بكل شيء.
المطلب الثالث: العلم بقدرة الله التامة على كل شيء.
المطلب الخامس: العلم بأسماء الله وصفاته.
المبحث الثالث: العلم بكتاب الله وسنة رسوله.
المبحث الرابع: العلم برسول الله صلى الله عليه وسلم.
المبحث الخامس: العلم باليوم الآخر.
المبحث السادس: العلم بالملائكة ووظائفهم.
المبحث السابع: العلم بوجوب محبة الله ورسوله.
المبحث الثامن: العلم بأن الله واهب الحياة والرزق.
المبحث الأول:
المقصود بالعلم
العلم المقصود
هنا هو هدى الله تعالى الذي أوحاه إلى رسله عليهم السلام لهداية الناس، وقد
أخبر الله تعالى نبيه آدم أبا البشر عليه السلام وزوجه حواء، وإبليس لعنه الله،
عندما أهبطهم إلى الأرض، أنه باعث إليهم ذلك العلم، فمن اتبعه نجا في الدنيا
والآخرة، ومن عصاه هلك فيهما، كما قال سبحانه وتعالى: )قلنا اهبطوا منها جميعا
فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والذين كفروا
وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون( [البقرة: 38-39].
وهو – أي العلم المقصود هنا – الذي أخبر الله سبحانه وتعالى أن من اتبعه نال
السعادة ونجا من الضلال والشقاء، ومن أعرض عنه نزل به الضيق والشدة في الدنيا
ونال العقاب الشديد في الآخرة، كما قال سبحانه وتعالى: )قال اهبطا منها جميعا
بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض
عن ذكري فإن له معيشة ضنكا، ونحشره يوم القيامة أعمى، قال رب لم حشرتني أعمى
وقد كنت بصيرا، قال كذلك أتتك ءاياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى( [سورة طه:
123-126].
قال ابن كثير رحمه الله عند تفسير هذه الآيات: "يقول تعالى مخبراً عما أنذر به
آدم وزوجته وإبليس حين أهبطهم من الجنة، والمراد الذرية، أنه سينزل الكتب ويبعث
الأنبياء والرسل، كما قال أبو العالية: الهدى الأنبياء والرسل والبينات
والبيان. قال مقاتل بن حيان: الهدى محمد صلى الله عليه وسلم، وقال الحسن: الهدى
القرآن، وهذان القولان صحيحان، وقول أبي العالية أعمّ.
)فمن تبع هداي( أي أقبل على ما أنزلت به الكتب وأرسلت به الرسل )فلا خوف( أي
فيما يستقبلونه من أمر الآخرة )ولا هم يحزنون( على ما فاتهم من أمور الدنيا،
كما قال في سورة طه: )قال اهبطا منها جميعاً فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي
فلا يضل ولا يشقى( قال ابن عباس: "فلا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة". )ومن
أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى(، كما قال ههنا:
)والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون( [تفسير القرآن
العظيم (1/82)، وانظر الكتاب نفسه (3/186)].
وهذا العلم هو الذي ألهم الله خليله إبراهيم وابنه إسماعيل أن يدعواه جلّ وعلا
بأن يمنّ به على ذريتهما الذين يخلفونهما في عمارة بيت الله الحرام، مع رسول
يكرمه الله به ليتلوه عليهم ويعلمهم إياه ويطهرهم به، بحيث يعبدونه ولا يشركون
به شيئاً، كما قال سبحانه وتعالى: )وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة
مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، ربنا وابعث فيهم
رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز
الحكيم، ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه
في الآخرة لمن الصالحين( [سورة البقرة: 127-130].
قال ابن كثير رحمه الله: "يقول تعالى إخباراً عن تمام دعوة إبراهيم لأهل الحرم
أن يبعث الله فيهم رسولاً منهم أي من ذرية إبراهيم، وقد وافقت هذه الدعوة
المستجابة قدر الله السابق في تعيين محمد صلوات الله وسلامه عليه رسولاً في
الأميين إليهم وإلى سائر الأعجميين من الإنس والجن ..." [تفسير القرآن العظيم
(1/184)].
قلت: وقد بيّن سبحانه وتعالى في كتابه أنه بعث فيهم رسوله محمداً صلى الله عليه
وسلم بكتابه لتعليمهم وتطهيرهم بالعمل الصالح، كما قال تعالى: )لقد من الله على
المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم ءاياته ويزكيهم ويعلمهم
الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين( [سورة آل عمران: 164].
وقال تعالى: )هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم
ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين( [سورة الجمعة: 2].
(10)
وبيّن النبي صلى
الله عليه وسلم العلم النافع الذي هو كتاب الله وسنة رسوله، وضرب له مثلاً
بالغيث الذي يسقي الله به الأرض، كما ضرب أمثلة لأقسام الناس في انتفاعهم بهذا
العلم وعدمه، فقسّمهم ثلاثة أقسام:
قسم يعلم هدى الله ويهتدي به، ويهدي به غيره، وهم الذين يسعون في تحصيل هذا
العلم ويعملون به ويدعون إليه، وضرب لهم مثلاً بالأرض الطيبة التي تقبل الماء
وتنبت الكلأ والعشب الكثير.
وقسم يسعون في تحصيل العلم، ولكن فقههم فيه أقل من القسم الأول؛ وكذلك عملهم،
فهؤلاء ضرب لهم مثلاً بالأجادب من الأرض التي تمسك الماء فيسقي الناس منها
ويشربون.
وقسم ثالث لا يسعى في تحصيل العلم ولا العمل به، وضرب لهؤلاء مثلاً بالأرض
السبخة التي لا تقبل الماء ولا تنبت الكلأ.
كما روى ذلك أبو موسى الأشعري، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: ((إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكانت
منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت
الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا ورعوا، وأصاب طائفة منها أخرى،
إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله عز وجل
ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى
الله الذي أرسلت به)) [البخاري في العلم (1/28) ومسلم (4/2282)].
هذا هو العلم النافع الذي جاء من عند الله، فأثمر في صاحبه العمل الصالح الذي
يرضي الله تعالى، وكل علم سواه فليس بنافع ما لم يكن خادماً له مؤدياً إلى ما
يؤدي إليه.
قال الشاطبي رحمه الله: "العلم الذي هو العلم المعتبر شرعاً – أعني الذي مدح
الله ورسوله أهله على الإطلاق – هو الباعث على العمل الذي لا يخلي صاحبه جارياً
مع هواه كيفما كان، بل هو المقيد لصاحبه بمقتضاه الحامل له على قوانينه طوعاً
وكرهاً" [الموافقات (1/34) تحقيق محمد محي الدين].
وقال: "قال سفيان الثوري: إنما يتعلم العلم ليتقي به الله، وإنما فضل العلم على
غيره لأنه يتقي الله به، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تزول قدما
عبد يوم القيامة حتى يسأل عن خمس خصال -وذكر فيها-: وعن علمه ماذا عمل فيه))
[الترمذي (4/612) من حديث ابن برزة رضي الله عنه، وقال: هذا حديث حسن صحيح].
وعن أبي الدرداء: إنما أنا أخاف أن يقال لي يوم القيامة: أعلمت أم جهلت؟ فأقول:
علمت، فلا تبقى آية من كتاب الله آمرة أو زاجرة إلا جاءتني تسألني فريضتها،
فتسألني الآمرة: هل ائتمرت؟ والزاجرة: هل ازدجرت؟ فأعوذ بالله من علم لا ينفع،
ومن قلب لا يخشع، ومن دعاء لا يسمع ... [الموافقات (1/29-30].
وأوضح ابن القيم رحمه الله أن العلم النافع هو العلم الذي تطيب به الحياة
وينشرح به الصدر، وهو الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((ومنها – أي
من أسباب شرح الصدر – العلم، فإنه يشرح الصدر ويوسعه، حتى يكون أوسع من الدنيا،
والجهل يورثه الضيق والحصر والحبس، فكلما اتسع علم العبد انشرح صدره واتسع،
وليس هذا لكل علم، بل للعلم الموروث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو
العلم النافع، فأهله أشرح الناس صدراً وأوسعهم قلوباً وأحسنهم أخلاقاً وأطيبهم
عيشاً ...)) [زاد المعاد (2/24)].
قلت: من أهم أسباب انشراح صدر العالم بالعلم النافع صحة تصوره لما ينفعه وما
يضره، لأنه بذلك يصبح سيره في الدنيا مبيناً على علم بالطريق الآمن الذي يحقق
له السعادة، فهو يسلكه راضياً مطمئناً، ولو حصل له بسلوكه ضرر مؤقت، فإنه يعلم
حسن العاقبة، كما أنه على علم بالطريق المخوف الذي فيه شقاؤه، فلا يسلكه وإن
كان فيه نفع مادي ولذة مؤقتة، والجاهل بخلافه ولذلك يضيق صدره، وإن بدا سعيداً،
لأنه محجوب الرؤية عن سبيل سعادته وسبيل شقائه، فيسلك سبيل الشر ظاناً أنه
ينتفع به، فينكشف له عكس ذلك مرة بعد مرة، وهو لا يتعظ ولا يفيق، وكلما وقع في
شرّ ضاق صدره، وهكذا.