(92)
المبحث التاسع:
الإيثار
الإيثار تقديم الإنسان غيره على نفسه فيما هو في حاجة إليه من أمور الدنيا،
وتقابله الأثرة، وهي: استبداد الإنسان بالشيء وتسلطه عليه دون غيره.
فالإيثار أعلى درجات المعاملة مع الناس، ويليه العدل، وهو كما سبق اختصاص كل
إنسان بحقه، وأسوأ درجات المعاملة الأثرة. وإن الإيثار يرفع المجتمع إلى قمة
الأمن، لأن أفراده ارتفعوا عن حظوظهم الدنيوية، وآثر بها كل فرد أخاه، فهو لا
يفكر في أخذ حقه كاملاً فضلاً عن التفكير في الأثرة والاستبداد.
والعدل يجعل المجتمع يتمتع بالأمن، لأن أفراده لا يفكرون في ظلم بعضهم بعضا،
وإنما يحاول كل منهم أن يحصل على حقه كاملا، وأن لا يقع منه على صاحبه ظلم في
شيء، فلا يظلم ولا يظلم.
ولا شك أن هذه الدرجة دون الأولى، لما يحصل فيها من المشاحة والمطالبة
بالحقوق، وقد ينجم عن ذلك نزاع وخصام، ولكن ذلك لا يخل بالأمن، ما دام كل
واحد وقافاً عند حقه غير طامع في حق سواه.
أما الأثرة فهي الوباء الفتاك الذي يجتث جذور الأمن من أساسها: إذ يكون أفراد
المجتمع لا هم لهم إلا الحصول على أكبر قسط من الحطام الفاني، سواء كان
الحصول عليه بالحق أم بالباطل، وصاحب القوة هو صاحب الأثرة والاستبداد.
لهذا تجد مجتمع الأثرة مجتمعا متنافسا في الدنيا متسابقا على حطامها، يحاول
كل فرد وطائفة أن يقوي نفسه حتى يتمكن بقوته أن يستأثر ويستبد، فيسود ذلك
المجتمع القلق والتصارع والقتال والثارات، وبذلك يختل أمنه، وينتشر الخوف بين
أسره وأفراده، وكلما كان الإنسان أكثر أثرة، كان أكثر بعداً عن طاعة الله،
لأن طاعة الله تعالى إذا توافرت في الإنسان، قل طمعه في الدنيا، وخفت الأثرة
عنده وطمع فيما هو أكثر رضا لله تعالى.
لهذا حث الله تعالى على الخلق الأسمى، وهو خلق الإيثار الناتج عن الرغبة فيما
عند الله، والتخلي عن خلق الشح والحرص، وقد حاز قصب السبق في ذلك أنصار رسول
الله صلى الله عليه وسلم، من أهل المدينة مع إخوانهم المهاجرين، وسجل الله
لهم ذلك في كتابه، ليقتدي بهم من جاء بعدهم.
فقال عـز وجل: ((والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم
ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة
ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون)). [الحشر:9].
إيثار الرسول
صلى الله عليه وسلم أصحابه
ومعلوم أن قدوة الصحابة رضي الله عنهم، ومن تبعهم بإحسان، هو رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وكان قدوتهم في كل خلق فاضل، وذكر أمثلة إيثار الرسول صلى
الله عليه وسلم على نفسه يطول.
فلنكتف بذكر مثال واحد على ذلك:
قال الإمام البخاري رحمه الله: "باب كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه، وتخليهم من الدنيا "
ثم ساق حديثا لأبي هريرة، رضي الله عنه، أذكره بنصه مع طوله، لما فيه من
العبرة والقدوة الحسنة، حيث يؤثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه
الفقراء بالشرب قبله، ولم يشرب إلا ما فضل بعدهم، وكان جائعا مثلهم.
حدث مجاهد، رحمه الله، أن أبا هريرة، رضي الله عنه، كان يقول: "والله الذي لا
إله إلا هو، إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على
بطني من الجوع، ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر،
فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمر فلم يفعل، ثم مر بي
عمر، فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمر فلم يفعل، ثم مر
بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، فتبسم حين رآني، وعرف ما في نفسي وما في
وجهي.
قال: (أبا هريرة) قلت: لبيك يا رسول الله، قال: (الحق)، ومضى، فتبعته، فدخل
فاستأذن، فأذن لي، فدخل فوجد لبناً في قدح، فقال: (من أين هذا اللبن)؟ قالوا:
أهداه لك فلان، أو فلانة.
قال: (أبا هريرة) قلت: لبيك يا رسول الله، قال: (الحق إلى أهل الصفة، فادعهم
لي) قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون إلى أهل ولا مال، ولا على أحد،
إذا أتته صدقه بعث بها إليهم، ولم يتناول منها شيئاً، وإذا أتته هدية أرسل
إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللبن في أهل
الصفة؟ كنت أحق أنا أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاء أمرني،
فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن؟
ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بدٌّ، فأتيتهم فدعوتهم،
فأقبلوا فاستأذنوا، فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت، قال: (أبا هريرة)
قلت: لبيك يا رسول الله قال: (خذ فأعطهم) قال: فأخذت القدح، فجعلت أعطيه
الرجل، فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح، فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح،
حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روي القوم كلهم.
فأخذ القدح فوضعه على يده، فنظر إلي فتبسم، فقال: (أبا هريرة) قلت: لبيك يا
رسول الله، قال: (بقيت أنا وأنت) قلت: صدقت يا رسول الله، فقال: (اقعد فاشرب)
فقعدت فشربت، فقال: (اشرب) فشربت، فما زال يقول: (اشرب) حتى قلت: لا والذي
بعثك بالحق ما أجد له مسلكاً، قال: (فأرني) فأعطيته القدح، فحمد الله وسمى
وشرب الفضلة". [البخاري (7/179ـ180)].
وفي الحديث - زيادة على إيثاره صلى الله عليه وسلم أصحابه - تربية غيره على
الإيثار، لأن أبا هريرة رضي الله عنه، هو الذي تعرض للرسول صلى الله عليه
وسلم، لشدة جوعه، يريد الحصول على ما يقيم صلبه، فجعله ينادي أهل الصفة، وطلب
منه أن يسقيهم كلهم قبله - وهذا ما كان يخافه أبو هريرة - ولكنه خاف نفاد
اللبن فكثره الله تكريما لنبيه صلى الله عليه وسلم.
وهكذا سما مجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خلق الإيثار فضربوا
أروع الأمثلة للبشرية في هذا الباب، كغيره من أبواب الخير.
وفي قصة سعد بن الربيع، مع عبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنهما، عندما آخى
بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ عرض سعد على عبد الرحمن أن يقاسمه
ماله ويتنازل له عن إحدى زوجتيه، فيطلقها فإذا انتهت عدتها تزوجها عبد
الرحمن، في هذه القصة مثل رائع للإيثار الذي اتصف به مجتمع أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
فقد روى إبراهيم بن سعد، عن أبيه عن جده، رضي الله عنه قال: لما قدموا
المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن
الربيع، قال لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالاً، فأقسم مالي نصفين، ولي
أمرأتان، فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها،
قال: بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقكم، فدلوه على سوق بني قينقاع، فما
انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن، ثم تابع الغدو، ثم جاء يوماً وبه أثر صفرة،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مهيم) قال: تزوجت، قال: (كم سقت إليها(؟
قال: نواة من ذهب.. [البخاري (4/222)].
إن سعدا رضي الله عنه لم يكتف بعرض نصف ماله على أخيه عبد الرحمن بن عوف رضي
الله عنه، وكان المال كافياً للنفقة على نفسه ولأداء مهر لامرأة يتزوجها
والإنفاق عليها، لم يكتف سعد بذلك بل أراد أن يتساوى هو وأخوه في الإسلام في
كل ما يملك.
وإذا كان سعد الأنصاري قد وصل إلى تلك القمة من الإيثار، فإن عبد الرحمن
المهاجري قد وصل إلى قمة الزهد والقناعة والاستغناء بالله عن الناس، فآثر أن
يسعى بنفسه في كسب رزقه، حتى أغناه الله.
إن المجتمع الذي يوجد فيه من يؤثر غيره على نفسه، كما يوجد فيه من يزهد فيما
عند غيره، ويقنع بما يؤتيه الله ويفضل أن ينفق على نفسه من كسب يده، إن هذا
المجتمع جدير أن يعيش في أمن واستقرار يظلله الحب والتعاون والوئام.
ومن الأمثلة الرائعة للإيثار في مجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
قصة الأنصاري وامرأته، مع ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث آثراه بقوت
صبيانهما الصغار، وباتوا طاوين من أجل إشباع الضيف، كما روى أبو هريرة، رضي
الله عنه: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث إلى نسائه، فقلن: ما
معنا إلا الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يضم أو يضيف هذا)؟
فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته، فقال: "أكرمي ضيف رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني فقال: هيئي طعامك وأصبحي
سراجك، ونومي صبيانك إذا أرادوا عشاء، فهيأت طعامها وأصبحت سراجها ونومت
صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها، فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان،
فباتا طاويين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (ضحك
الله الليلة، أو عجب من فعالكما)، فأنزل الله: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان
بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه، فأولئك هم المفلحون). [البخاري (4/226) ومسلم
(3/1624) والآية في سورة الحشر:9].
وتنافس المجتمع الإسلامي في الإيثار بشئون الدنيا، يقابله تنافسهم في الطاعات
التي لم يجعلها الشارع محلا للإيثار، كمتاع الدنيا.
قال ابن القيم رحمه الله: "فالإيثار إما أن يتعلق بالخلق، وإما أن يتعلق
بالخالق، وإن تعلق بالخلق فكماله أن تؤثرهم على نفسك بما لا يضيع عليك وقتا،
ولا يفسد عليك حالاً، ولا يهضم لك ديناً ولا يسد عليك طريقاً، ولا يمنع لك
وارداً، فإن كان في إيثارهم شيء من ذلك، فإيثار نفسك عليهم أولى، فإن الرجل
من لا يؤثر بنصيبه من الله أحداً كائناً من كان، وهذا في غاية الصعوبة على
السالك والأول أسهل منه.
فإن الإيثار المحمود الذي أثنى الله على فاعله، هو الإيثار بالدنيا، لا
بالوقت والدين وما يعود بصلاح القلب" إلى أن قال: "فلم يجعل الشارع الطاعات
والقربات محلاً للإيثار، بل محلاً للتنافس والمسابقة. [طريق الهجرتين وباب
السعادتين ص529ـ531، طبع الشؤون الدينية بقطر].
والمجتمع الذي يتنافس أفراده في الإيثار بالدنيا ومتاعها، ويتنافسون في
الطاعات والقربات، هو المجتمع الذي لا يمكن أن يوجد في الأرض مجتمع مثله ينعم
بالأمن والمحبة والسلام.
والذي يتأمل أحوال المسلمين في هذا الزمان، يرى أن الخوف والمحن التي نزلت
بهم آتية من فقد هذين الأصلين، وهي ناتجة عن أصلين مضادين لهما، وهما التنافس
على حطام الدنيا، والتسابق إلى معاصي الله، والقعود عن التنافس في طاعته.
وذلك هو الشح الذي هلكت به الأمم: الشح بطاعة الله والشح بالدنيا، كما روى
جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من
كان قبلكم، حملهم أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم) [مسلم (4/1996)].
وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته، من الشح الذي يصاحبه نقص العمل
الصالح وكثرة القتل، وهو ما نراه في هذا الزمان رأي العين، وهو يزداد كثرة كل
يوم.
روى أبو هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يتقارب
الزمان، وينقص العمل، ويلقى الشح، ويكثر الهرج) قالوا: وما الهرج؟ قال:
(القتل القتل). [البخاري (7/82)].
وينبغي أن لا يغيب عنا، أن صفة الإيثار صفة نادرة، لا يملكها إلا نادر
المتقين من عباد الله، وأنه لا يُطمع في كثرة أهلها في المسلمين، ولكنها ليست
مستحيلة، ولا هي مما لا يطيقها المكلفون، ويستطيع من جاهد نفسه على طاعة الله
وتقديم ما يحبه الله على ما تحبه نفسه، ويدفعه إليه هواه، أن يحقق من الإيثار
ما حققه في جهاد نفسه لله...
ومع علمنا بندرة صفة الإيثار وأهلها، يجب أن نوطن أنفسنا على التزام رتبة
العدل، وهي الرتبة الثانية من التعامل فيما بيننا، فنلجم أنفسنا عن الظلم
والعدوان، ونعطي كل ذي حق حقه، في كل شئون الحياة، ليتحقق الأمن، وينتفي
الخوف والقلق، وفي ذلك فضل كثير وخير وفير، تسعد به الأمة، وتزول به المخاطر
وتنقشع الغمة، وإن لم يرق إلى درجة الإيثار، وليبق الإيثار هدفا لنفوس أكثر
طموحا إلى الدرجات العلا، وأعظم طلبا للاستباق إلى رضا المولى، وذلك فضل الله
يؤتيه من يشاء من عباده.
(93)
المبحث العاشر: حسن
الظن
إن الأصل في المؤمن أن تُحمل أفعاله وأقواله على الخير، وإذا صدر منه قول أو
فعل تأكد خطأه فيه، فالأصل أن يحمل على حسن نيته، إلا إذا دل دليل واضح على
خلاف ذلك.
وبهذا الأصل يسد المسلمون المنافذ التي يلج منها الشيطان، للإيقاع بينهم،
ويغريهم بالخصام والشجار وسوء الظن والتهاجر والتقاطع والتدابر، لأن المسلم
إذا اجتهد في حمل تصرفات أخيه المسلم على الخير، سلم عليه قلبه، وبقي معه على
الإخاء والمودة والائتلاف، وأمن كل واحد صاحبه ولم يتخونه.
وقد أمر الله المؤمنين بهذا الأصل في معاملة من أعلن إسلامه، أو أتى بقرينة
تدل على ذلك فور وجود ذلك منه، ولو كان قبل لحظة من إسلامه عدواً محارباً في
أرض المعركة، ولو خاف المسلمون أنه إنما قال ما قال أو فعل ما فعل متعوذاً،
فإن ذلك لا يجوز أن يحملهم على سوء ظن يجعلهم يعاملونه معاملة الكافر.
كما قال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا
تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله
مغانم كثيرة، كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم، فتبينوا إن الله كان بما
تعملون خبيرا)). [النساء:94].
والتثبت من صحة إسلام الكافر أمر مطلوب، ولكن سوء الظن الذي ينبني عليه عدم
تصديقه ومعاملته معاملة الكافر، غير مرضي عنه عند الله تعالى، والمشروع تغليب
حسن الظن على سوئه.
وقد أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم أشد الإنكار، على أسامة حين قتل من قال:
لا إله إلا الله، ظناً منه أنه إنما قالها ليتقى بها القتل، قال أسامة:
"بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة من جهينة، فصبحنا القوم
فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم، فلما غشيناه قال: لا إله
إلا الله، فكف عنه الأنصاري وطعنته برمحي حتى قتلته.
قال: فلما قدمنا بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا أسامة، أقتلته
بعدما قال: لا إله إلا الله)؟ قال: قلت: يا رسول الله، إنما كان متعوذاً،
قال، فقال: (أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله)؟ فما زال يكررها عليّ حتى
تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم". [البخاري (5/88) ومسلم (1/96ـ97)].
وقد عاتب سبحانه وتعالى من تورط في حديث الإفك، وبين أنه كان يجب عليهم أن
يظنوا بأنفسهم خيراً - والمؤمن المتهم هو من أنفس المؤمنين - وأن يقولوا: إن
ذلك إفك بيِّن واضح، بدلا من الاتهام، عملاً بذلك الأصل الذي هو حسن ظن
المسلم بأخيه المسلم، حتى يثبت بالبرهان خلاف ذلك الأصل.
قال تعالى: ((لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً وقالوا
هذا إفك مبين)). [النور:12].
وأمر سبحانه وتعالى المؤمنين باجتناب كثير من الظن، وهو كل ظن لم يقم عليه
دليل، وأن بعض الظن إثم، قال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من
الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا)). [الحجرات:12].
قال ابن كثير رحمه الله: "يقول تعالى ناهياً عباده المؤمنين عن كثير من الظن،
وهو التهمة والتخون للأهل والأقارب والناس في غير محله، لأن بعض ذلك يكون
إثماً محضاً، فليجتنب كثير منه احتياطاً. وروينا عن أمير المؤمنين عمر بن
الخطاب أنه قال: "ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيراً، وأنت تجد
لها في الخير محملاً" [تفسير القرآن العظيم (4/212)].
ولقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من الظن السيء، كما حذر منه القرآن
الكريم.
روى أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والظن
فإن الظن أكذب الحديث). [البخاري (7/88) ومسلم (4/1985)].
وكم حطم سوء الظن الكاذب أسراً ومجتمعات ودولاً، بسبب عدم التأدب بأدب
الإسلام، والعمل بالأصل الذي هو حسن الظن بالمسلم، فإذا ترك هذا الأصل أخذ
الشيطان يصور للمرء أموراً كثيرة من التهم لأخيه المسلم، وتزداد يوماً بعد
يوم حتى يصبح عنده عدواً لدوداً، ثم يأخذ في التخطيط للقضاء على عدوه
المزعوم، دفاعاً عن نفسه وثأراً لها، ويعد كل ما في استطاعته للإضرار به، حتى
يستحكم النزاع ويصل إلى ما لا تحمد عقباه من الفتن.
والسبب الأول في ذلك كله، هو سوء الظن الذي لا يسنده دليل، وهذا ما دأب عليه
كثير من المسلمين في هذا العصر أفراداً وجماعات ودولاً، لذلك كثرت بينهم
الخلافات والمهاترات، واشتغل المسلمون بعضهم ببعض، اتهاماً ودفاعاً ونسوا
الواجب الذي كلفهم الله إياه، وهو الفقه في الدين والعمل به والدعوة إليه
والجهاد في سبيل الله، واجتماع الكلمة ونبذ التفرق والخلاف.
هذا كله إذا كان الظن لا دليل عليه، وظاهر المسلم المظنون به الخير والصلاح
والبعد عن الريب، أما إذا قام على ذلك دليل يرجح وجود ما ظن الظان في صاحبه،
فإن ذلك الظن حينئذ لا شيء فيه، بل هو مشروع وقد يجب، حذراً من صاحبه. [راجع
شرح السنة للإمام البغوي (13/110ـ111) والجامع لأحكام القرآن (16/330ـ332)].
(94)
المبحث الحادي عشر:
نصر المظلوم
جرى التقدير الكوني أن يكون في البشر القوي والضعيف، والظالم والمظلوم،
والأصل في الظلم أن يكون صادرا من القوي ضد الضعيف، لأن الضعيف، لا يقدر على
ظلم القوي جهراً، وإن كان قد يحتال ليظلم بالدس والخداع والحيل.
ولما كان الظلم مهلكاً لعامة الناس، تحتم عليهم التعاون على دفعه قبل حصوله،
ورفعه بعد نزوله، والتناصر على الظالم دفعا لظلمه عن أنفسهم، وهذا المعنى
يقتضيه العقل السليم والقواعد العرفية والأخلاقية، وإذا لم يتناصر الناس على
دفع الظلم وإزالته، والأخذ على يد الظالم، عم الظلم وانتشر وأفسد العباد
والبلاد.
ولهذا أوجب الله تعالى على المسلمين أن ينصروا المظلوم على ظالمه، تنفيذا
لقاعدة التعاون على البر والتقوى، لا على الإثم والعدوان، كما قال تعالى:
((وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)). [المائدة:2].
وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بنصر المظلوم على ظالمه، كما روى أنس رضي
الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو
مظلوماً) قالوا: يا رسول الله هذا ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً؟ قال:
(تأخذ فوق يديه) [البخاري (3/98)] يعني تحجزونه عن ظلمه.
وفي حديث البراء بن عازب، رضي الله عنهما قال: "أمرنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم بسبع، ونهانا عن سبع.. فذكر: عيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت
العاطس، ورد السلام ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإبرار المقسم". [البخاري
(3/98)].
في حديث جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما، قال: "اقتتل غلامان: غلام من
المهاجرين، وغلام من الأنصار، فنادى المهاجر أو المهاجرون: يا للمهاجرين،
ونادى الأنصاري: ياللأنصار، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (ما
هذا دعوى أهل الجاهلية)؟ قالوا: لا يا رسول الله، إلا أن غلامين اقتتلا، فكسع
أحدهما الآخر، قال: (فلا بأس ولينصر الرجل أخاه ظالماً أو مظلوماً، إن كان
ظالماً فلينهه، فإنه له نصر، وإن كان مظلوما فلينصره). [البخاري (6/65) ومسلم
(4/1998)].
ولو أن المسلمين تناصروا فيما بينهم، فنصروا المظلوم على ظالمه، سواء حضر
المظلوم أم غاب، وسواء كان فرداً أم جماعة، حاكماً أم محكوماً، لساد بينهم
الأمن وابتعد الظالم عن ظلمه، لعلمه بأن المسلمين لا يقرونه عليه ولا يسلمون
له المظلوم.
ولكن تركهم لهذه الفريضة، كغيرها من الفرائض، كان سبباً في انتشار الظلم في
الأرض، وذاق كل فرد أو جماعة أو دولة مرارة الظلم، لرضاهم به عندما يقع على
غيرهم، أو سكوتهم عنه مع قدرتهم على الوقوف في وجه أهله.
(95)
المبحث الثاني عشر:
ستر المسلم
إن الله تعالى يبغض المعاصي ويبغض أهلها، كما يحب الطاعات ويحب أهلها، لذلك
أمر عباده بطاعته، ونهاهم عن معصيته، ورتب على طاعته ثوابه ورضاه، كما رتب
على المعصية مقته ووعيده. ولما كان سبحانه يحب الطاعة، فهو يحب ظهورها
وانتشارها والحديث عنها في المجتمع.
ولما كان يبغض المعصية، فإنه يكره ظهورها وشيوعها في المجتمع، ومن هنا شرع
سبحانه للمؤمن إذا قارف حوباً أن يستر نفسه، كما شرع للمسلم إذا اطلع على ذنب
من أخيه أن يستره.
روى أبو هريرة، رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(كل أمتي معافى إلا المجاهرون، وإن من المجانة [الاستهتار وعدم المبالاة]، أن
يعمل الرجل بالليل عملاً، ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان عملت
البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عليه). [البخاري
(7/89) ومسلم (2291)].
وسأل رجل ابن عمر، رضي الله عنهما، فقال: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول في النجوى؟ قال: (يدنو أحدكم من ربه، حتى يضع كنفه عليه، فيقول:
عملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم فيقرره، ثم يقول: سترت عليك في الدنيا، فأنا
أغفرها لك اليوم). [البخاري (7/89) ومسلم (4/2120)].
هكذا شرع الله للمسلم إذا اقترف ذنباً أن يستر نفسه، والله عـز وجل امتن على
عبده بستره له في الدنيا ومغفرته له في الآخرة، والمغفرة هي الستر وعدم فضح
المذنب أمام الأشهاد ومحو ذنبه.
أما ستر المسلم أخاه المسلم، فقد ورد فيه ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما، أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه،
من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه
بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة).
[البخاري (3/98) ومسلم (4/1996)].
وهنا قد يرد سؤال، وهو: كيف يجمع بين ستر المسلم أخاه المسلم وبين قاعدة
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
وأجاب عنه الحافظ ابن حجر رحمه الله، فقال: "وليس في هذا – يعني ستر المسلم –
ما يقتضي ترك الإنكار عليه فيما بينه وبينه، ويحمل الأمر في جواز الشهادة
عليه بذلك، على ما إذا أنكر عليه ونصحه فلم ينته عن قبيح فعله، ثم جاهر به،
كما أنه مأمور بأن يُسْتَر إذا وقع منه شيء، فلو توجه إلى الحاكم وأقر لم
يمتنع ذلك، والذي يظهر أن الستر محله في معصية قد انقضت، والإنكار في معصية
قد حصل التلبس بها، فيجب الإنكار عليه، وإلا رفعه إلى الحاكم…". [الفتح
(5/97)].
هذا وفي ستر المسلم نفسه، وستر المسلم أخاه المسلم إذا ارتكب معصية، سد
لذريعة فشو المعاصي وانتشارها في المجتمع، لأن في فشوها وانتشارها استمراء
أفراد المجتمع لها، وبخاصة إذا تكرر ذكرها ونسبتها إلى فلان وفلان.
كما أن في ستر المسلم أخاه المسلم إعطاءه فرصة للتوبة والندم والرجوع إلى
الله تعالى، وزيادة المحبة بين الساتر والمستور، بخلاف ما إذا هتك ستره فإن
في ذلك – فوق فشو المعاصي – تأجيج نار العداوة بينهما، وفيه تجريئ للعاصي على
استمراء المعصية، لأنه بعد ظهورها للناس يستهين بها، وقد يتمادى في ارتكابها
لقلة حيائه، بخلاف ما إذا كانت مستورة، فإن في ذلك ما يدفعه إلى تركها حياء
من أن تظهر بين الناس.
(96)
المبحث الثالث عشر:
تعليم الجاهل والرفق به.
الجهل داء عضال، وإقدام الجاهل على المعصية غير مستنكر، لذلك يجب على المجتمع
أن يتعاون أفراده على تعليم بعضهم بعضاً، ما يجهلونه من أمور دينهم ومعاشهم،
حتى تقوم الحجة عليهم، ويكفوا عن اعتداء بعضهم على حقوق بعضهم.
والعالم الذي يكتم علمه عن المحتاج إليه معرض للعنة الله، كما قال سبحانه:
((إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في
الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا
فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم)). [البقرة:159ـ160].
وتوعد سبحانه كاتم العلم بالنار، وأن الكتمان، لا يحصل إلا ممن استبدل الضلال
بالهدى الذي آتاه الله ليهتدي به، فحرم نفسه منه وحرم الناس، لأن في كتمان
العلم خفاء الحق على الناس والتباسه بالباطل، وذلك من أسباب الخلاف والشقاق
المؤديين إلى فقد الناس الطمأنينة والأمن.
قال تعالى: ((إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا
أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم
ولهم عذاب أليم أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما
أصبرهم على النار ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب
لفي شقاق بعيد)) [البقرة:174ـ176].
والمجتمع الذي يتعلم أفراده دين الله ويفقهونه، لا سيما ما يتعلق بفروض العين
التي تجب على كل فرد بعينه، وفروض الكفاية التي تقوم بها طائفة كافية منه، هو
مجتمع خير، ومن أهم ما يدخل في ذلك الخير أمن المجتمع من اعتداء بعض أفراده
على بعض، بسبب فقههم في دين الله.
أما المجتمع الجاهل الذي لا يدري أفراده أحكام تصرفاتهم أحلال هي أم حرام؟
فإنه مجتمع سوء وبلاء، ومن السوء الذي يصاب به المجتمع، فقده الأمن لتعدي بعض
أفراده على بعض، بسبب جهلهم في الغالب.
وقد تضمن هذا المعنى حديث معاوية، رضي الله عنه، يقول: سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم
والله يعطي، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى
يأتي أمر الله) [البخاري (1/25ـ26) ومسلم (3/1524)].
فدل الحديث بمنطوقه على أن من فقهه الله في الدين فقد أراد به الخير، ودل
بمفهومه أن الذي لم يفقهه في الدين، فهو محروم من الخير واقع في الشر.
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحرص أشد الحرص على نشر العلم وقيام سامعه
وشاهده بتبليغ من غاب عنه، وبخاصة ما يتعلق بحقوق الناس التي يأمنون بسلامتها
من الاعتداء عليها، ويخافون إذا اعتدى عليها معتد.
روى أبو بكرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (...فإن
دماءكم وأموالكم.. وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هكذا، في
شهركم هذا، وستلقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم، فلا ترجِعُنَّ بعدى كفارا...
يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فلعل بعض من يبلغه يكون أوعى
له من بعض من سمعه) ثم قال: (ألا هل بلغت(؟ [البخاري (2/191) ومسلم (3/1305)
وما بعدها..].
وإذا كان الواجب على العالِم أن يعلم ولا يكتم ما يجب عليه بيانه للناس، فإن
الواجب على الجاهل أن يتعلم ويسأل أهل العلم عما يجب عليه عمله.
قال تعالى: ((فاسألوا أهل الذكر، إن كنتم لا تعلمون)) [النحل:43].
وينبغي أن يكون العالم رفيقاً بالجاهل في تعليمه، مرغباً له فيه بالوسائل
المتاحة التي تجعله يقبل عليه ويحبه، بخلاف ما إذا كان غليظا شديدا، فإن
المتعلم ينفر منه ولا يستفيد من علمه ولا يحبه المحبة التي تجعله يقتدي به.
والقدوة في رفق العالم بالجاهل، هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي علم
أصحابه كيف يعاملون الجاهل.
تأمل في ذلك قصة معاوية بن الحكم السلمي، رضي الله عنه، ونفوره من أسلوب
تعليم بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وتأثره بتعليم الرسول صلى الله
عليه وسلم بذلك الأسلوب النبوي العالي، الذي جعل معاوية يزيد إقبالا على رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وسؤاله عن بعض الأمور التي كان يجهل حكمها.
قال معاوية، رضي الله عنه: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم،
إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل
أمياه، ما شأنكم تنظرون إليّ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما
رأيتهم يصمتونني، لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو
وأمي، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما نهرني ولا
ضربني ولا شتمني قال: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما
هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) أو كما قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم. [مسلم (1/381ـ382)]. ثم أخذ يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بعض
الأمور.
كان معاوية رضي الله عنه يتوقع – فيما يبدو - تأنيبا من رسول الله صلى الله
عليه وسلم على كلامه في الصلاة، الذي كان سبباً في تلك النظرات المستنكرة من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وجد ذلك الرفق من رسول الله صلى
الله عليه وسلم، سكنت نفسه وطاب خاطره، فقال ما قال.
وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابياً يبول في المسجد، ونهى أصحابه رضي
الله عنهم عن تأنيبه، ودعا بماء فأمر بصبه على موضع بوله، كما في حديث أنس
رضي الله عنه، قال: "بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم،
إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم: مه، مه (وفي رواية: فصاح به الناس)، قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (لا تزرموه، دعوه) فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم
دعاه، فقال له: (إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما
هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن)، أو كما قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم، قال: فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه". [البخاري
(7/80) ومسلم (1/236ـ237)].
وروى أبو هريرة الحديث بلفظ: أن أعرابياً دخل المسجد ورسول الله صلى الله
عليه وسلم جالس، فصلى ركعتين، ثم قال: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا
أحداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد تحجرت واسعا) ثم لم يلبث أن بال
في ناحية المسجد، فأسرع الناس إليه، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقال:
(إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين، صبوا عليه سجلاً من ماء) أو قال:
(ذنوبا من ماء). [أبو داود (1/263ـ265) والترمذي (1/275ـ277) وقال: هذا حديث
حسن صحيح].
فلو أن علماء المجتمع الإسلامي وطلبتهم، بذلوا جهدهم في تعليم جهاله بهذا
العطف والرفق، لأثروا بتعليمهم وأسلوبهم في الجهال، تأثيراً يجعلهم يستجيبون
لتنفيذ أمر الله وهدايته، ويكفون عن ارتكاب ما يقلق المجتمع ويفقده الأمن
والسلام.
(97)
المبحث الرابع عشر:
الإحسان إلى الجار
لقد أوصى الله تعالى بالإحسان إلى الجار، كما أمر بالإحسان إلى الوالدين وذوي
القربى واليتامى والمساكين، فقال تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا
وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمسكين والجار ذي القربى والجار
الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان
مختالا فخورا). [النساء:36].
وفسر بعض العلماء الجار القريب بالمسلم، والجار الجنب باليهودي والنصراني
وغيرهما. [الجامع لأحكام القرآن (5/183ـ184،188)].
ويشمل الإحسان إلى الجار، بذل الخير له مواساة وعشرة حسنة وتعليما ونصرا وكف
أذى وغيرها. [المرجع السابق (5/184)].
وكل دار قرب من دار المرء فأهله جيران له، وكلما كانت الدار أقرب، كان أهلها
أكثر استحقاقا لإحسانه من غيرهم، وذكر بعض العلماء أن حد الجيرة أربعون داراً
من كل ناحية، ونقل عن آخرين أن من سمع النداء فهو جار. [المرجع السابق
(5/185)].
وبتصور هذا الحد يظهر أن الجيرة تشمل مدنا بأسرها، لأن الذي لا يكون جارا
للمرء، يكون جارا لجاره، وهكذا، فإذا لم ينل المرء إحسان رجل لكونه ليس جارا
له، ربما ناله إحسانه على يد جار المحسن ماديا كان كالهدايا والهبات، أو
معنويا كالتعليم والقدوة الحسنة والأخلاق الحميدة، فإن الجار يؤثر في جاره،
وهذا يؤثر في جيرانه وهكذا.
تصور لو أن كل مسلم وأسرته اجتهدوا في إيصال إحسانهم إلى أربعين داراً من
جيرانهم من جميع الجهات المحيطة بدارهم، وهذا الإحسان كما تقدم يشمل الإحسان
المادي والإحسان المعنوي، كيف سيكون حال المجتمع الإسلامي في تعاونه وتحابه
وأمنه؟
وقد اهتم الرسول صلى الله عليه وسلم بحق الجار وحث عليه بأساليب متنوعة،
ويجمعها أمران:
الأمر الأول: الحض على إكرامه بصفة عامة، ومواساته.
الأمر الثاني: التحذير من إيذائه.
فمن أمثلة الأمر الأول ما يأتي: حديث عائشة وابن عمر رضي الله عنهم، أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: (مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه
سيورثه) [البخاري (7/78) ومسلم (4/2025)].
وحديث أبي شريح رضي الله عنه، قال: سمعت أذناي رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأبصرت عيناي حين تكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (من كان يؤمن بالله
واليوم الآخرة فليكرم جاره...). [البخاري (7/79) ومسلم (1/69)].
ومن أمثلة أداء حقوقه ومواساته أن لا يبيع الجار داره لغير جاره إلا بإذنه،
كما روى عمرو بن الشريد، قال: وقفت على سعد بن أبي وقاص، فجاء المسور بن
مخرمة، فوضع يده على إحدى منكبي، إذ جاء أبو رافع مولى النبي صلى الله عليه
وسلم، فقال: يا سعد، ابتع مني بيتي في دارك، فقال سعد: والله ما ابتاعهما،
فقال المسور: والله لتبتاعهما قال سعد: والله لا أزيدك على أربعة آلاف منجمة
أو مقطعة، قال أبو رافع: لقد أعطيت بهما خمسمائة دينار، ولولا أنى سمعت النبي
صلى الله عليه وسلم يقول: (الجار أحق بسقبه) ما أعطيتكهما بأربعة آلاف، وأنا
أعطي بهما خمسمائة دينار، فأعطاها إياه ". [البخاري (3/47) والسقب: القرب، أي
أحق بدار الجار القريبة منه].
وقد استدل بالحديث من رأى الشفعة للجار، وإن لم يكن شريكاً، والكلام في ذلك
مفصل في كتب الفقه وشروح الحديث في الباب الخاص بالشفعة.
ومن ذلك إذن الجار لجاره أن ينتفع بجداره في ما لا يعود عليه بضرر، مثل غرز
خشبة فيه وربط حبل أو إسناد حائط عليه، كما في حديث أبي هريرة، رضي الله عنه،
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في
جداره) ثم قال أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين؟! والله لأرمين بها بين
أكتافكم". [البخاري (3/102) ومسلم (3/1203)].
ومن ذلك مواساة الجار وإهداؤه ما تيسر من طعام أو غيره، لما فيه من جلب
المحبة والمودة، كما روى أبو هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه
وسلم، قال: (يا نساء المسلمين لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة). [البخاري
(3/128ـ129) ومسلم (2/714) وفرسن الشاة ضفرها..].
وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه، قال: إن خليلي أوصاني (إذا طبخت مرقاً فأكثر
ماءه، ثم انظر أهل بيت من جيرانك، فأصبهم منها بمعروف). [مسلم (4/2025)].
وسألت عائشة، رضي الله عنها، رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: قلت: يا
رسول الله، إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال: (إلى أقربهما منك باباً)
[البخاري (8/79)].
ونهى صلى الله عليه وسلم أن يبيت الرجل شبعاناً، وجاره جائع.
روى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: (لا يشبع الرجل دون جاره). [أحمد (1/54ـ55)].
والذي يظهر من هذه الأحاديث وغيرها، أنه إذا استوى الجيران في الحاجة وعدمها
قدم الجار الأقرب في الهدية والهبة ونحوها، إذا لم يكن عند الجار ما يسع
الجميع، أما إذا كان بعض الجيران مكتفياً والآخر ذا مخمصة، فإنه يقدم المحتاج
على غيره، لحديث أبي ذر السابق: (انظر أهل بيت من جيرانك فأصبهم) وحديث عمر
المذكور، وفيه النهي عن أن يشبع الجار دون جاره، والله أعلم.
ومن أمثلة الأمر الثاني – وهو التحذير من إيذاء الجار – ما يأتي:
حديث أبي شريح، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (والله لا
يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن) قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: (من لا
يأمن جاره بوائقه). [البخاري (7/78)]. والمراد بالبوائق: الغوائل والشرور
والدواهي، وهي تشمل كل ضرر.
وفي حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره). [البخاري (7/78ـ79)].
في هذين الحديثين النهى عن إيذاء الجار بصفة عامة.
وجعل صلى الله عليه وسلم من أكبر الذنوب الزنا بامرأة الجار، كما روى عبد
الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رجل: يا رسول الله، أي الذنب أكبر عند
الله؟ قال: (أن تدعو لله ندا وهو خلقك) قال: ثم أي؟ قال: (أن تقتل ولدك مخافة
أن يطعم معك) قال: ثم أي؟ قال: (أن تزاني حليلة جار)، فأنزل الله وجل:
(والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق
ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً) [البخاري (5/140ـ148) ومسلم (1/90ـ91)
والآية من سورة الفرقان:68].
ونصب صلى الله عليه وسلم ثناء الجيران على جارهم وذمهم له، مقياساً للإحسان
والإساءة، كما في حديث ابن مسعود، رضي الله عنه، قال: قال رجل: يا رسول الله،
كيف لي أن أعلم إذا أحسنت أو إذا أسأت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا
سمعت جيرانك يقولون: أحسنت فقد أحسنت، وإذا سمعتهم يقولون: أسأت فقد أسأت)
[ابن ماجة (2/1412) قال المحقق: " الزوائد": إسناد حديث عبد الله بن مسعود
هذا صحيح، رجاله ثقات، ورواه ابن حبان في صحيحه من طريق عبد الرزاق به"].
قد يقال: إن الرجل الصالح قد يجاور أهل السوء فلا يثنون عليه خيراً، لمفارقته
لهم في تمسكه بدينه وأخلاقه وبعدهم عن ذلك، ولكن الواقع أن الرجل الصالح الذي
يكون حسن الأخلاق في معاملته للناس، تجد الناس يذكرونه بالخير في معاملته،
ولو كانوا فساقاً أو كفاراً وإن خالفوه في معتقده وسلوكه في الغالب، ولكن بعض
الناس قد يظهر بمظهر الرجل الصالح في عبادته وهو يسيء إلى الناس في معاملته،
فيذكرونه بسوء، وقد يظن من لا خبرة له به، أن جيرانه يفترون عليه، ولكنه إذا
خالطه وجده فظاً غليظ القلب ظالما في معاملته للناس، فلا يغتر بالظواهر وحدها
حتى تضاف إليها المخابر، وقد يوجد في الناس من يهضم حقوق الناس، فلا عبرة به.
وذكر صلى الله عليه وسلم أن من علامات الساعة سوء المجاورة، كما في حديث عبد
الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه
وسلم، قال: (لا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش والتفاحش وقطيعة الرحم، وسوء
المجاورة). [أحمد (2/162)].
وعنه - أيضا - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير الأصحاب عند الله خيركم
لصاحبه، وخير الجيران خيركم لجاره) [أحمد (2/168)].
وبهذا يعلم أن أداء حقوق الجار والإحسان إليه ومواساته وكف الأذى عنه، من
أعظم ما يحقق الأخوة الإسلامية بين المسلمين، ويؤلف بين قلوبهم، ويجعل بعضهم
يأمن بعضاً.
(98)
المبحث الخامس عشر:
حب الطاعات وبغض الفواحش
خلق الله سبحانه الخلق لعبادته، وأمرهم بطاعته، وحبب إلى عباده المؤمنين
الإيمان وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، ونهى سبحانه عن
الفحشاء والمنكر، ووقف إبليس - لعنه الله - للناس بالمرصاد يبغضهم في طاعة
الله ويزين لهم الفحشاء والمنكر.
والواجب على المجتمع المسلم أن يجتهد في تحقيق أفراده عبادة الله وطاعته،
وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يطهرهم من المعاصي والفواحش التي نهى
الله سبحانه وتعالى عنها، لأن المجتمع الذي تنتشر فيه الفاحشة يفقد السعادة
والراحة والأمن على نفسه وماله وعرضه، والمجتمع الذي تنتشر فيه الطاعة
والعبادة يتمتع بالرحمة والطمأنينة والمحبة.
وقد دلت ا الآيات القرآنية أن في طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه
وسلم، والرحمة الفوز العظيم في الدنيا والآخرة، وأمر الله تعالى بطاعته وطاعة
رسوله وحذر من مخالفة أمره.
قال تعالى: ((ومن يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقه فأولئك هم الفائزون))
[النور:52].
وقال تعالى: ((ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما)) [الأحزاب:71].
وقال تعالى: ((والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون
عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم
الله إن الله عزيز حكيم)) [التوبة:71].
وقيد سبحانه طاعة أولي الأمر بعدم التنازع، فإذا حصل تنازع بين أولي الأمر
والرعية، وجب الاحتكام إلى الله والرسول، حتى لا يطغى أحد على أحد بمعصية
الله تعالى.
قال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر
منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله
واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا)) [النساء:59].
وقال تعالى: ((وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما
على رسولنا البلاغ المبين)) [المائدة:92].
وأخبر تعالى أنه يحب المتقين، وهم أهل طاعته، فقال: ((فإن الله يحب المتقين))
[آل عمران: 76]. ((إن الله يحب المتقين)) [التوبة:4].
وأوجب سبحانه وتعالى محبته على عباده، ودلهم على ما يحققها، وهو العمل بكتابه
وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أي طاعته وطاعة رسوله.
فقال تعالى: ((قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم
والله غفور رحيم)) [آل عمران: 31].
كما أخبر سبحانه وتعالى أنه حبب إلى عباده المؤمنين الإيمان والطاعة، وكره
إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وذلك من أعظم نعمه عليهم، لأنهم بذلك يكونون
أهل رشد وهداية، ويكون غيرهم أهل غي وضلال، وأهل الرشد هم أهل التمكين والأمن
والسعادة، وأهل الضلال هم أهل الشقاء والخوف والنكد.
قال تعالى: ((وأعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم
ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق
والعصيان أولئك هم الراشدون فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم)) [الحجرات:
7ـ8].
ويفهم من هذه الآية أن من يسعى لنشر الكفر والمعاصي والفسوق في المجتمع ليس
من الراشدين، وإنما هو من السفهاء الضلال الذين يريدون غير ما يريد الله،
الله يريد تطهير المجتمع من كل فاحشة، وهم يريدون تنجيس المجتمع بنشر كل
فاحشة فيه وإشاعتها، كما قال تعالى: ((والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين
يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما)) [النساء:27].
وقد أوجز ابن كثير رحمه الله الطوائف التي تتبع الشهوات وتريد غير مراد الله،
من الميل عن هداه إلى ضلالهم وفسادهم، فقال: "أي يريد أتباع الشياطين من
اليهود والنصارى والزناة أن تميلوا عن الحق إلى الباطل ميلا عظيما" [تفسير
القرآن العظيم (1/479)].
وإن الذي يتأمل ما خططه اليهود والنصارى وأتباعهم من الملحدين، من المناهج
التعليمية والاجتماعية والإعلامية وغيرها لصرف الناس، وبخاصة المسلمين، عن
شرع الله الذي ارتضاه لهم، إلى اتباع الشهوات والانغماس فيها، يعلم معنى قوله
تعالى: ((ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما)).
ويعلم كذلك مغزى ذكر ابن كثير رحمه الله أئمة أتباع الشهوات، وهم اليهود
والنصارى والزناة، فقد أغرقوا الناس في الشهوات وصرفوهم عن دين الله، وأرادوا
لهم غير ما أراد لهم خالقهم ولذلك أذلهم الله.
وهذا الميل هو الذي نصبه غلاة العلمانيين من أبناء المسلمين أنفسهم، للدعوة
إليه فأجرموا في حق أمتهم أكبر إجرام، عندما أقصوا دين الله من حياة الناس،
وفتحوا لهم كل أبواب الإغواء والشهوات.
وإذا أراد المجتمع الإسلامي أن ينجو من ذلك كله، فعليه أن يطهر نفسه من رجسهم
وينبذهم من صفوفه، لأنهم يحبون غير ما يحبه الله ويريدون للناس غير ما أراد
الله، يحبون الكفر والفسوق والعصيان، ولو تظاهروا بأنهم مسلمون، والله يحب
الإيمان والطاعة والخير.
كيف يكون مسلما من أحب شرع غير الله في كل أنظمة الحياة، واحتضنه وأيده
ونفذه، وأبعد حكم الله ورسوله عن حياة الناس، وأحب الفاحشة واجتهد في نشرها
بكل وسيلة، وكره الطاعة وصد عنها بكل وسيلة؟
قال تعالى: ((إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم
في الدنيا والآخرة، والله يعلم وأنتم لا تعلمون، ولولا فضل الله عليكم ورحمته
وأن الله رءوف رحيم، يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع
خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر)) [النور:19ـ21].
وقال تعالى: ((ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين إنما يأمركم بالسوء
والفحشاء)) [البقرة: 168ـ169].
وقال تعالى: ((إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن
الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون)). [النحل:90].
ونهى الله تعالى عن الاقتراب من الفاحشة، ظاهرها وباطنها، فقال: ((ولا تقربوا
الفواحش ما ظهر منها وها بطن)) [الأنعام:151].
وقال تعالى: ((قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي
بغير الحق)). [الأعراف:33].
وأمر عباده سبحانه وتعالى بما يطهرهم من الفحشاء والمنكر ويعينهم على
الابتعاد عنهما، وهو عبادته، وبخاصة الصلاة، فقال تعالى: ((اتل ما أوحي إليك
من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر
والله يعلم ما تصنعون)). [العنكبوت:45].
وإذا أحب المجتمع طاعة الله، وأبغض معاصيه، وحمل أفراده على ذلك، أرسى بذلك
أركان السعادة والأمن في الدنيا والآخرة.
(99)
المبحث السادس عشر:
أداء الواجبات والحقوق
إن على أفراد المجتمع واجبات لغيرهم، ولهم حقوق، كذلك عند غيرهم، والواجب أن
يؤدي كل فرد ما عليه من الحقوق لغيره، كالزكاة التي هي ركن من أركان الإسلام،
فقد فرضها الله سبحانه وتعالى على الأغنياء وبين مصارفها، فتأخير أداء الزكاة
عن وقتها فيه ظلم لأهلها الذين يستحقونها، وكذلك زكاة الفطر، والديون
المستحقة، والكفارات، وأداء الشهادات، وغيرها.
إن هذه الحقوق عندما تؤدى في وقتها - ولا يؤخرها من وجبت عليه - يطمئن أهلها
وينعمون بها وتقضي حاجاتهم، فيعيشون مع من أداها عيشه حب وإخاء وسلام، أما
إذا أخرها الذين وجبت عليهم وماطلوا في أدائها، فإن ذلك يحدث البغضاء
والشقاق، وقد يؤدي إلى انتقام صاحب الحق من ظالمه، إما علناً وإما في الخفاء،
وذلك يفقد الناس الأمن والطمأنينة.
والواجب على المجتمع الذي يريد أن ينعم بالأمن والاستقرار، أن يأخذ على يد من
يماطل في أداء الحقوق والقيام بالواجبات، فقد حارب أبو بكر الصديق، رضي الله
عنه والصحابة معه من منع الزكاة حتى أداها.
قال ابن تيمية رحمه الله - وهو يتكلم عن أداء الأمانات -: "ويدخل في هذا
القسم - أي قسم الأموال التي يجب أداؤها إلى أهلها - الأعيان والديون الخاصة
والعامة، مثل رد الودائع، ومال الشريك، والموكل والمضارب، ومال المولى ومال
اليتيم وأهل الوقف، ونحو ذلك، وكذلك وفاء الديون من أثمان المبيعات، وبدل
القرض، وصدقات النساء وأجور المنافع، ونحو ذلك [السياسة الشرعية ص32ـ33].
ثم ساق الأدلة على ذلك وفصل القول في الغنيمة والصدقات والفيء [المرجع السابق
ص37ـ43]. ثم تكلم عن الظلم الذي يقع من الرعاة أو الرعية في هذا الباب
[المرجع السابق ص47 وما بعدها..].
ثم ذكر مصارف هذه الأموال، وختم ذلك بقوله: "كما أن الصالحين أرباب السياسة
الكاملة، هم الذين قاموا بالواجبات وتركوا المحرمات، وهم الذين يعطون ما يصلح
الدين بعطائه، ولا يأخذون إلا ما أبيح لهم، ويغضبون لربهم إذا انتهكت محارمه،
ويعفون عن حظوظهم، وهذه أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم في بذله ودفعه
وهي أكمل الأمور، وكلما كان إليها أقرب كان أفضل.
فليجتهد المسلم في التقرب إليها بجهد، وليستغفر الله بعد ذلك في قصوره أو
تقصيره، بعد أن يعرف كمال ما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم من
الدين، فهذا قول الله سبحانه وتعالى: ((إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى
أهلها)) [نفس المرجع ص55ـ67].
ومن أوجب الواجبات التي يجب القيام بها، أداء الموظف ما أسند إليه من ولي
الأمر، كل في حدود عمله عن خبرة وأمانة وقدرة على التنفيذ، فإن الموظف الذي
يؤدي عمله بمحافظته على وقته وعدم تأخره عنه، وباستقبال أصحاب الحق بصدر رحب
ووجه طلق، وأداء العمل الواجب عليه لكل صاحب حق في وقته، وعدم التفريق بين
شخص وآخر، بسبب صداقة أو وساطة أو رشوة يحبه الناس ويأمنونه حقا.
بخلاف من يعاملهم بضد ذلك، لما فيه من ظلم للناس وهضم للحقوق، وتقديم للمتأخر
وتأخير للمتقدم، بدون حق بل بالباطل، والموظف الذي يرتكب هذا المنكر وهو عدم
قيامه بواجباته، أو التفريق بين الناس بدون حق، يحدث بذلك آثارا سيئة من ضياع
أوقات الناس وأعمالهم وأموالهم.
يضاف إلى الأحقاد والضغائن التي تمتلئ بها قلوب الناس، بسبب معاملته غير
العادلة، وقلقهم على حقوقهم التي يرونها تهدر، وكرامتهم التي يرون الموظف
يدوسها.
وما أكثر هؤلاء الفاسدين في بلدان المسلمين، الذين ينتشر بأعمالهم الفساد
الإداري والمالي، وتضيع بتهاونهم وتقصيرهم حقوق الناس، وينال الظالمون
بخيانتهم ما ليس لهم، ويحرم المظلومون مما هو خالص حقهم.
ولهذا يجب أن يختار لكل عمل من هو كفء له يؤدي فيه واجبه، وأن يحال بين
الوظائف وذوي المطامع الشخصية ممن ليسوا بأكفاء، حتى يأمن الناس على حقوقهم
متساوين في ذلك كله [راجع كتابنا المتعلق بهذا المعنى، وهو: الكفاءة الإدارية
في السياسة الشرعية].
قال تعالى: ((إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين
الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا))
[النساء:58].
(100)
المبحث السابع عشر:
الصدقة الجارية
إن المطالب الثابتة كلها تتعلق بقيام أفراد المجتمع بواجب الأخوة الإسلامية،
وأداء حقوق بعضهم على بعض في حال حياتهم وصحتهم.
أما هذا المطلب فالمراد به أن يراعي المسلم حقوق تلك الأخوة الإسلامية، وهو
يرحل عن هذه الحياة ويودع إخوانه الباقين فيها، فيحقق لهم بما يخلفه وراءه
شيئا من السعادة والعيش الهنيء، كما كان يحقق لهم ذلك وهو حي.
فالمسلم له أقارب أمر بصلتهم، وله جيران أمر بالإحسان إليهم، وضيف أمر
بإكرامه، فإذا انتقل إلى لقاء ربه حرم كثير مما كان يقوم به من الصلة
والإحسان والإكرام، وكل من كان يناله ذلك سيفقده ويشعر بالندم على فراقه
ويدعو له وفاء له ورحمة به.
ولكن الشارع يحب للمؤمن أن يدوم عمله الصالح، ويستمر ثوابه بعد موته، فشرع له
من الأسباب التي إذا تعاطاها قبل موته استمر ثوابها ما بقيت آثارها عامة
النفع الذي تعاطاها من أجله.
وهو بذلك، يحقق أمرين عظيمين:
الأمر الأول: نفع الناس بما أبقاه لهم من خير.
والأمر الثاني: نفع نفسه باستمرار ثوابه وعدم انقطاع عمله، وهو راقد في قبره
قد صارت عظامه ترابا.
قال تعالى: ((كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين
والأقربين بالمعروف حقا على المتقين، فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على
الذين يبدلونه إن الله سميع عليم فمن خاف من موص جنفاً أو إثما فأصلح بينهم
فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم)) [البقرة:180ـ183].
وقد قال بعض العلماء: إن الوصية واجبة على من حضرته الوفاة وعنده مال، في
حالتين:
الحالة الأولى:أن تكون عنده أمانات أو ديون، فيجب أن يوصي لأهل الأمانات
والديون بحقوقهم حتى لا تضيع، ويختلف الورثة معهم بعد موته، وهذه الحالة لا
خلاف فيها.
الحالة الثانية: أن يكون له والدان لا يرثان، بأن يكونا كافرين أو قرابة لا
يرثون، فيجب أن يوصي لهم بما تيسر من الثلث الذي له أن يوصي فيه، وأكثر
العلماء قالوا: إنها ليست واجبة في هذه الحالة، وأجمعوا على عدم جواز الوصية
للوارث إلا إذا أجاز الورثة، وكذا لا يجوز أن يوصي بما فوق الثلث.
واستدل الموجبون بالصيغة التي شرعت بها الوصية وهي قوله تعالى: ((كتب عليكم))
فإنها بمعنى فرض.
وهناك حالة ثالثة تجب فيها الوصية، وهي ما إذا كان له حقوق عند الناس يخاف
تلفها على الورثة. [راجع كتاب الجامع لأحكام القرآن (2/257ـ260) وتفسير
القرآن العظيم لابن كثير (1/211ـ213)].
وقال سبحانه وتعالى: ((يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين)) إلى
قوله: ((فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين)) [النساء:
11].
وقال سبحانه: ((ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد، فإن كان لهن ولد
فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين، ولهن الربع مما تركتم إن
لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فله الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها
أو دين، وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما
السدس، فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو
دين غير مضار وصية من الله والله عليم حكيم)). [النساء:12].
فقد أوجب الله تعالى أداء ما خلفه الميت لورثته، ولكن قيد ذلك بإخراج ما أوصى
به من ماله، أو ما عنده من دين للناس، إلا أن ما يوصي به مقيد بأن يكون الثلث
فأقل لئلا يجحف بورثته ويذرهم فقراء يتكففون الناس.
ومهما يكن الأمر في اختلاف العلماء في وجوب الوصية للوالدين غير الوارثين،
والأقربين غير الوارثين، فان مشروعيتها ثابتة، وقد حث على ذلك صلى الله عليه
وسلم، وأوصى بعض أصحابه في حياته وأقرهم، واستمر على ذلك المسلمون إلى يومنا
هذا.
ولقد نفع الله تعالى بوصايا المسلمين من أموالهم في وجوه البر إذا حضرتهم
الوفاة، وكذلك بما يقفونه في حياتهم من الأموال على مصالح مختلفة عامة وخاصة.
وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم المسلم، على الاهتمام بوصيته حال صحته، حتى
لا يفاجأ بالموت فلا يتمكن من ذلك.
روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما حق
امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده).
[البخاري (3/185ـ186) ومسلم (3/1249)].
وأقر صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه على الوصية بالثلث من ماله، لمن كان له
ورثة، وأوصى صلى الله عليه وسلم، بأن لا يدع المرء ورثته عالة يتكففون الناس.
روى سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه، قال: جاء النبي صلى الله عليه وسلم
يعودني وأنا بمكة، وهو يكره أن يموت في الأرض التي هاجر منها، قال: (يرحم
الله بن عفراء) قلت: يا رسول الله، أوصي بمالي كله؟ قال: (لا) قلت: فالشطر؟
قال: (لا) قلت: الثلث؟ قال: (الثلث والثلث كثير، إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير
من أن تدعهم عالة يتكففون الناس في أيديهم، وإنك مهما أنفقت من نفقة فإنها
صدقة، حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك وعسى الله أن يرفعك، فينتفع بك ناس
ويضر بك آخرون) ولم يكن له يومئذ إلا ابنة. [البخاري (3/186) ومسلم
(3/1250)].
وندب صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى بذل ما يستمر لهم ثوابه بعد موتهم، كما
روى أبو هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات
الإنسان انقطع عنه عمله، إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح
يدعو له) [مسلم (3/1255)].
قال النووي، رحمه الله في الصدقة الجارية: (وهي الوقف... وفيه دليل صحة أصل
الوقف وعظيم ثوابه) [شرح النووي على مسلم (11/85)].
ولقد وقف بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنفس أموالهم، طمعاً في ذلك
الفضل المدرار، بإرشاد من النبي صلى الله عليه وسلم.
كما روى ابن عمر رضي الله عنهما، قال: أصاب عمر أرضاً بخيبر، فأتى النبي صلى
الله عليه وسلم يستأمره فيها، وقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضا بخيبر لم
أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه، فما تأمرني به؟ قال: (إن شئت حبست أصلها
وتصدقت بها قال: فتصدق بها عمر: أنه لا يباع أصلها، ولا يبتاع، ولا يورث، ولا
يوهب، قال: فتصدق عمر في الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله،
وابن السبيل، والضيف، ولا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم
صديقا، غير متمول فيه…). [البخاري (3/194) ومسلم (3/1255)].
فقد اشترط عمر رضي الله عنه بقاء الأصل وعدم بيعه وشرائه وهبته، وهو معنى قول
الرسول صلى الله عليه وسلم: (حبست أصلها) وبين رضي الله عنه وجوه مصارف
ثمرته: الفقراء والقربى، والرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف، وهي
من أهم وجوه البر الشاملة، كالزكاة التي أمر الله بصرفها في ذلك.
ويمكن للواقف أن يقف على وجه واحد من هذه الوجوه، ولو أن الأغنياء من
المسلمين بذلوا من أموالهم ما يقفونه على وجو البر والإحسان، ووجد من يقوم
على تلك الأوقاف بأمانة، يحفظها وينميها وينفقها في وجوهها، لنال كثير من
المحتاجين ما يسد حاجتهم، من طعام وشراب وملبس ومسكن ومركب وغيرها.
ولقد بذل السلف الصالح من أغنياء هذه الأمة أموالهم، ووقفوها على وجوه كثيرة
من وجوه البر العامة والخاصة: وقفوا على المساجد، والأيتام، والمسافرين،
وطلاب العلم، والفقراء، وذوي القربى، والحيوانات.
ولكن بالبعد عن الإسلام، وتولي كثير من الظلمة والفساق وأعداء الإسلام أمور
المسلمين، ضاعت أكثر مرافق المسلمين، فلم يبق من تلك الأوقاف إلا النزر
اليسير في بعض البلدان الإسلامية، تتلاعب بها أيدي الخونة الذين لا يخافون
الله واليوم الآخر، إلا من شاء ربك وقليل ما هم. [راجع كتاب الإسلام (3/52)
لسعيد حوا].
وإن المجتمع الإسلامي لفي أمس الحاجة إلى عودة هذا المرفق المفيد ليتم نفعه،
كما تم في الماضي، وقد أنعم الله سبحانه وتعالى على كثير من المسلمين في هذا
العصر بثروات كثيرة في فترة قصيرة من الزمن، وهم يعلمون أنه يوجد في بلدان
المسلمين الفقراء والمساكين الذين لا يجدون لقمة العيش التي يقتاتون بها، ولا
منازل تؤيهم، ولا ملابس تسترهم، ولا مصحات لشفاء أمراضهم، ولا آبار للحصول
على مياه شربهم، ولا مساجد يؤدون فيها شعائر دينهم، ولا مدارس يعلمون فيها
أولادهم، ولا أئمة يصلون بهم، ولا علماء يرشدونهم ويعلمون أبناءهم.
ومع ذلك لا تجد إلا القليل ممن أغناهم الله وابتلاهم بالثراء والغنى الفاحش
الذي أبطرهم، يمدون يد العون لمن هم في حاجة إلى إغاثتهم، نسوا أن يشكروا
الله على ما أنعم به عليهم.
ولو أن كل غني وقف شيئا من ماله في البلد الذي يأمن عليه فيه، لمرفق من تلك
المرافق، لكان في ذلك إحياء للوقف الإسلامي، وإعانة للمسلمين في حاجاتهم
المتعددة، لا سيما الجهاد في سبيل الله الذي انصرف غالبية الناس عنه، وإذا
وجد من يقوم به لم يجد من يعينه ويجهزه بالمال الذي يكفيه.
حرب سافرة على
أعمال الخير.
ومما زاد
الأمر سوأً اليوم، تسلط أعداء هذا الدين على أعمال البر، ومضايقة مؤسسات
الدعوة إلى الله، ونشر التعليم الإسلامي ببناء المدارس، والمساجد المراكز
الإسلامية، ومساعدة المحتاجين، من الأيتام والأرامل والعجزة، والحجر على من
وفقه الله من أغنياء الأمة، من الإنفاق على تلك المرافق، وتجميد أموالهم، حتى
يحولوا بينهم وبين الإنفاق منها على تلك المؤسسات الخيرية، التي أعلنوا عليها
الحرب الظالمة، قاصدين بذلك الصد عن سبيل الله،و القضاء على النشاط الإسلامي،
ومحاربة علمائه ودعاته، بحجة محاربة ما يسمونه بـ"الإرهاب" الذي أصبح سلاحا
يشهرونه في وجه الأفراد والجماعات والدول.
ووراء هذه الحملات الظالمة على الإسلام والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربه
اليهود الذين، لا يفتئون يقدون نار الحرب على هذا الدين وهذه الأمة، ويظاهرهم
على ذلك صهاينة البروتستانت في الغرب، بهدف تمكين لدولة اليهودية في قلب
الأمة الإسلامية، التي يعلمون أنها لا تنال هذا التمكين، إلا بإضعاف
المسلمين، وإبعادهم عن حقيقة دينهم.
ويجب على علماء الإسلام ودعاته، والمؤسسات الإسلامية الدعوية والتعليمية،
والإغاثية، وأغنياء الأمة، وعلى كل غيور على هذا الدين في الشعوب الإسلامية،
أن يتعاونوا فيما بينهم على الاستمرار في هذه الأعمال العظيمة، بكل ما
يستطيعون من الأسباب والوسائل المتاحة لهم، كل منهم فيما يقدر عليه، وألا
يستسلموا لمكر أعداء الإسلام، وأن يستعينوا بالله ويتوكلوا عليه، لأن في
استسلامهم لهذه الحرب الظالمة، تحقيقا لأهداف أعداء الإسلام الذين قال الله
تعالى فيهم: ((ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى
الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من
ولي ولا نصير)) [البقرة (120)]
وإذا نجح أعداء هذا الدين في مسعاهم لإضعاف المسلمين، واستسلامهم لهم،
والاستجابة لتحقيق رغباتهم، فقدوا أمنهم الذي لا ينالونه إلا بتمسكهم بدينهم،
وعدم طاعتهم لغير ربهم في معصيته: ((وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم
أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا، فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم
تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون)).
[الأنعام: 81ـ82].
(101)
المبحث الثامن عشر:
النصح لكل مسلم
في اللسان: النصح: نقيض الغش... وفي الحديث: (الدين النصيحة، لله ولرسوله،
ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم). قال ابن الأثير: " النصيحة كلمة يعبر بها
عن جملة، هي إرادة الخير للمنصوح له، فليس يمكن أن يعبر عن هذا المعنى بكلمة
واحدة تجمع معناها غيرها" [ترتيب اللسان (3/646) والحديث سيأتي ذكره وذكر
مصدره].
وإذا علم أن النصيحة هي إرادة الخير للمنصوح، فإن من المناسب أن يكون هذا
المبحث هو خاتمة مباحث الفصل الأول من هذا الباب، وهو السعي لتحقيق الأخوة
الإسلامية وتقويتها، لأن هذا المبحث جامع لمعاني المباحث السابقة وغيرها، مما
لم يذكر بالنص عليه.
فقد بين تعالى أن النصح هو وظيفة الأنبياء والرسل وأتباعهم، وأن الأنبياء
والرسل وأتباعهم لا يريدون إلا الخير للمنصوح لوجه الله تعالى، لا يريد من
الناس جزاء ولا شكورا.
فقال تعالى عن نوح عليه السلام: ((أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله
ما لا تعلمون)). [الأعراف: 62].
وقال عن هود عليه السلام: ((أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين))
[الأعراف: 68].
وقال عن صالح عليه السلام: ((لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون
الناصحين)). [الأعراف: 79].
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع أصحابه على النصح لكل مسلم، كما
في حديث جرير بن عبد الله البجلي، رضي الله عنه، قال: "بايعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم على السمع والطاعة... والنصح لكل مسلم". [البخاري (1/20)
ومسلم (1/75)].
ومن أجمع الأحاديث في النصيحة الشاملة لمستحقيها، حديث تميم الداربي رضي الله
عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدين النصيحة) قلنا: لمن؟ قال:
(لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم). [مسلم (1/74)].
ولم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بهذا العموم في النصيحة الذي تضمنه حديث
جرير: (النصح لكل مسلم) وحديث تميم (...ولأئمة المسلمين وعامتهم) بل نص صلى
الله عليه وسلم على النصح في أبواب متعددة، اهتماماً به، لما يحققه من الخير
في المجتمع الإسلامي، إذا نصح كل فرد فيه لأخيه المسلم وأسرته ومجتمعه.
فقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على النصح في محيط الأسرة، كما في حديث أبي
أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يقول: (ما استفاد المؤمن بعد
تقوى الله خيراً له من زوجة صالحة، إن أمرها أطاعته؟ وإن نظر إليها سرته، وإن
أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله). [ابن ماجة (1/596)
قال المحقق: "في إسناده علي بن يزيد، وقال البخاري منكر الحديث، وعثمان بن
أبي العاتكة مختلف فيه، وله شاهد من حديث عبد الله بن عمر، ص597"].
والمرأة إذا نصحت عم خير نصحها الأسرة كلها، في التربية والخدمة وحفظ المال،
وحفظ نفسها، والقيام بكل واجب، إما بنفسها أو عن طريق أولادها وخادمها.
وفي محيط الولاية السياسية حث بعض الرعية على النصح لواليها، وحث الوالي على
النصح لرعيته، وإذا أدت الرعية النصح لواليها، وأدى الوالي النصح لرعيته،
استتب الأمن في البلاد وتمتعوا جميعا بالعدل والسلام، ولم يقدر أعداء الإسلام
على إثارة الأحقاد بين الراعي ورعيته.
لأن النصح يقتضي من الراعي الإشفاق على رعيته، والعدل بينهم، وإيتاءهم
حقوقهم، وكف الظلم عنهم وتنفيذ أحكام الله فيهم.
والنصح من الرعية يقتضي طاعة ولي الأمر في غير معصية الله، ومناصرته والوقوف
ضد من أراد به سوءً، وعدم الخروج عليه ما لم يأت كفرا بواحا، وأعداء الإسلام
إنما يحدثون الشقاق بين الولاة ورعيهم بسبب اعتداء يقع من الولاة على الرعية،
أو بغي من الرعية على ولاتهم، فإذا نصح كل منهم للآخر النصح الشرعي الذي يحقق
مصالح الأمة، لم يجد الأعداء إلى التحريش بينهم سبيلا.
روى أبو هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (إن الله
يرضى لكم ثلاثاً، ويبغض لكم ثلاثا: يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا،
وأن تعتصموا بحبل الله جميعا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم، ويسخط لكم قيل
وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال) [الموطأ (2/990) ومسلم (3/1340) وليس فيه
"وأن تناصحوا"].
وفي حديث معقل بن يسار، رضي الله عنه، قال في مرض موته لعبيد الله بن زياد:
إني محدثك بحديث، لولا أني في الموت لم أحدثك به، سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: (ما من أمير يلي أمر المسلمين، ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم
يدخل معهم الجنة) [مسلم (1/126)].
وروى ابن مسعود رضي الله عنه،، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (نضر الله
امرأ سمع مقالتي، فوعاها وحفظها، وبلغها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه،
ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم، إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم
جماعتهم، فإن الدعوة تحيط من ورائهم) [الترمذي (5/34ـ35).
ومن ذلك النصح لجماعة المسلمين الذي أوصى به بعض السلف، وهو الربيع بن خيثم،
رحمه الله، قال: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به الربيع بن خيثم،
وأشهد الله عليه، وكفى بالله شهيدا، وجازيا لعباده الصالحين ومثيبا، فإني
رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا، وإني آمر
نفسي ومن أطاعني أن نعبد الله في العابدين، ونحمده في الحامدين، وأن ننصح
لجماعة المسلمين". [سنن الدارمي (2/292)].
وفي محيط المعاملات الاقتصادية وغيرها حض صلى الله عليه وسلم كذلك على النصح،
قال الإمام البخاري، رحمه الله: باب إذا بين البيعان، ولم يكتما ونصحا...
وساق حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا) أو قال: (حتى يتفرقا، فان صدقا وبينا
بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما). [البخاري (3/10)].
قال الحافظ رحمه الله: وقال ابن بطال: أصل هذا الباب أن نصيحة المسلم واجبة.
[فتح الباري (4/310)].
وفي محيط الخدمة وأداء العمل، حض على النصح صلى الله عليه وسلم، كما في حديث
عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا
نصح العبد سيده وأحسن عبادة ربه، كان له أجره مرتين). [البخاري (3/124) ومسلم
(3/1284)].
وفي حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير
الكسب كسب يد العامل إذا نصح). [أحمد (2/334)].
ترى لو نصح كل مسلم لأخيه المسلم وأسرته المسلمة ومجتمعه المسلم، هذا النصح
الشامل الذي لا يشذ عنه أي مجال من مجالات الحياة، هل يخاف أحد من أحد على
نفس أو مال أو عرض؟.
وهل يفقد الأمن في أغلب المجتمعات الإسلامية، كما هو الحال في هذا الزمن:
((وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم
سلطانا، فأي الفريقين أحق بالأمن إن نتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا
إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون)). [الأنعام: 81ـ82].