(42)
الفصل الثاني: حقوق
أفراد الأسرة بعضهم على بعض
وفيه مقدمة وسبعة مباحث.
المبحث الأول: حقوق الوالدين على الأولاد.
المبحث الثاني: حقوق الزوج على المرأة.
المبحث الثالث: حقوق المرأة على الزوج.
المبحث الرابع: حقوق الأولاد على الآباء.
المبحث الخامس: حقوق السادة على العبيد.
المبحث السادس: حقوق العبيد والخدم.
المبحث السابع: العدل الأسري.
المقدمة
إن الأسرة في المنزل صورة مصغرة للمجتمع، فيها أفراد لهم حاجات وحقوق، وعليهم
واجبات، وفيها الكبير الذي يعتبر أميرا، والصغير الذي يعتبر مأمورا، وفيهم من
له فضل على غيره ويد على من سواه، وفيها القوي القادر، والضعيف الحاسر، وفيها
العالم البصير، والجاهل الضرير، وفيها القدوة الحسنة السابق في أعمال الصالحين،
والفاجر القاعد في ركب المتخلفين، وفيها المقتصد الذي يؤدي الفرائض ويجتنب
المحرمات، ويكسل عن المندوبات، وينشط في تناول المكروهات، وفيها العدل الذي
يعطي كل ذي حق حقه، والظالم الذي الحلال من رزقه، وفيها القنوع الذي يكفيه
اليسير، والجشع الذي لا يشبعه الكثير.
لهذا كانت عناية الخالق العليم الحكيم سبحانه، بشئون الأسرة في كتابه الكريم،
وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، عناية فائقة، كما وفق الله علماء الشريعة
الإسلامية للعناية بالأسرة، فانبثق عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه
وسلم، وعناية العلماء مؤلفات كثيرة في شئون الأسرة، إما في كتب مستقلة بها، أو
ببعض أحكامها، كالزواج، والطلاق، والرضاع، والحضانة، والنفقة، وحقوق الأزواج
والزوجات، وحقوق الآباء، وحقوق الأولاد، وأحكام الجنين، والميراث، وإما في
أبواب وفصول ضمن كتب الحديث وكتب الفقه في المذاهب الفقهية.
وقد تحتاج الأسرة إلى من يعينها في الخدمة، فينضم إليها الأجير الذي يحتك بها،
وقد يكون لبعض الأسر عبيد-عندما يكون الرق مشروعا-فيكون للأسرة على خدمها
وعبيدها حقوق، ويكون للخدم والعبيد على مخدوميهم وأسيادهم حقوق.
كل ذلك قد عنيت به الشريعة الإسلامية غاية العناية.
ولو أخذت الأسر المسلمة تلك الأحكام والتوجيهات التي عنيت بها الشريعة
الإسلامية، مأخذ الجد وطبقتها حق التطبيق، لَتَكَوَّن منها المجتمع الإسلامي
الآمن تلقائيا، بدون عناء ولا مشقة من خارج الأسر، إلا التوجيه العام الذي
يتلقاه الجميع بالترحاب والتنفيذ.
وما أصعب أن يُتِمَّ كاتب –مثلي- الغرض في هذه الأبواب، وهو يريد الإشارة إلى
موضوعات منها، كل موضوع جدير بمؤلف خاص به!
ولكنني أرجو أن يتحقق أمن الأسرة والمجتمع بما يُسَجَّلُ في هذا الكتاب، ما
اجتهدوا في العمل بما فيه من الآداب والسلوك والأحكام، وبما يحققون من الولاء
الذي شرعه الله له ولرسوله وللمؤمنين. وبالله التوفيق.
(43)
حقوق الوالدين
إن الوالدين هما السبب المادي المباشر في وجود الولد، والذي يكون سبباً في
وجودك يكون حقه عليك أعظم من حق غيره.
ولعلّ ذلك يظهر شيئاً من الحكمة في أن الله تعالى قرن حق الوالدين بحقه تعالى
في القرآن العظيم، كما قال تعالى: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا
الله وبالوالدين إحسانا ... [البقرة: 83] وقال تعالى: واعبدوا الله ولا
تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً [النساء: 36] وقال عز وجل: قل تعالوا
أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ... [الأنعام:
151] وقال جل وعلا: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما
يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا
كريما، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا
[الإسراء: 23-24].
فقد أمر الله تعالى بحقه وهو عبادته، ونهى عما يضاده، وهو الشرك به كما أمر
بحقوق الوالدين، وهو برّهما، ونهى عما يضاده، وهو عقوقهما، وبدأ تعالى بحقه
لأنه الإله الخالق الذي أوجد السبب والمسبّب، ثم ذكر حقوق الوالدين، لأنهما
السبب الذي أوجده الله ليكون مصدراً للأولاد.
وقد أشار سبحانه وتعالى في آيات أخرى إلى بعض معاناة الوالدين وقيامهما على
الأولاد، وأن على الولد أن يشكر الله عل ما هيأه له من تحمل الوالدين مشاق
القيام بحقه في صغره، ويشكرهما كذلك وأن يجزيهما على تعبهما، قال تعالى:
ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي
ولوالديك إلي المصير [لقمان: 14] وقال تعالى: ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا
حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ
أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل
صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين، أولئك الذين
نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي
كانوا يوعدون، والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من
قبلي وهما يستغيثان الله ويلك ءامن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير
الأولين، أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس
إنهم كانوا خاسرين [الأحقاف: 15-18].
فتعب الوالدة بحمله ورضاعه، والسهر على راحته والعناية به. وقيام الأب بتربيته
وتعليمه وجلب رزقه وغير ذلك مما يقومان به يوجب عليه أن يشكرهما وأن يؤدي حقهما
من البر والصلة والخدمة والرحمة وإظهار الفرح والسرور بهما، لاسيما إذا كانا في
حاجة إلى خدمته وعنايته بهما في كبرهما، فإنهما قد يصلان إلى حاجة من العجز في
الكبر تشبه حالته عندما كان صغيراً، وقد قام بحقه وقت عجزه، فعليه أن يقوم
بحقهما بدون تضجّر ولا تأفّف ولا يقذّر، وبدون طلب منهما، بل يبادر هو بذلك،
كما كانا هما لا يتقذران من أوساخه: بوله وغائطه وبصاقه وقيئه وغير ذلك، عليه
أن يتذكر ذلك فيردّ الجميل إليهما على أكمل وجه وبعلم أن القيام بحقوقهما عبادة
لله، ولو يقوما بشيء من العناية به في صغره، فكيف وقد اجتمع لهما ردّ الجميل
وواجب أداء الحق الذي أمر الله تعالى به.
ولما كان جهد الأم وتعبها على الولد أكثر من تعب الأب، كان حقها عليه أعظم، كما
أشارت إلى ذلك آيات لقمان والأحقاف السابقتان: حملته أمه وهن على وهن حملته
أمه كرهاً ووضعته كرها وفسّر ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في حديث أبي
هريرة رضي الله عنه، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول
الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟
قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أبوك" [البخاري (7/69) ومسلم (4/1974)].
ودعا الرسول صلى الله عليه وسلم على من أدرك والديه فلم يبرهما براً يدخله
الجنة، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: ((رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه)) قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((من
أدرك والدين عند الكبر، أحدهما أو كليهما، ثم لم يدخل الجنة)) [مسلم (4/1978)].
(44)
ولعظم حق الوالدين جعل صلى الله عليه وسلم ولد الرجل من كسبه، وجعله هو وماله
لأبيه، بياناً لعظم حقه عليه، كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله
عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجل، فقال: يا رسول الله، إن لي
مالاً وولداً، وإن والدي يحتاج مالي [أي يأتي عليه ويستأصله] قال: ((أنت ومالك
لوالدك، وإن أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم)) [أبو داود
(3/801-802) وابن ماجة (2/769) قال المحشي على جامع الأصول (1/399): "وأخرجه
أحمد .. وإسناده حسن .. وصححه البوصيري وابن القطان، وقال ابن المنذر: رجاله
ثقات .. إلى أن قال: قال الحافظ في الفتح: فمجموع طرقه لا تحطه عن القوة وجواز
الاحتجاج به" اهـ.
لكن بعض العلماء قيّد أخذ الوالد ما شاء من مال ولده بأن لا يجحف بولده ويدعه
محتاجاً، قال ابن قدامه رحمه الله: "وللأب أن يأخذ من ماال ولده ما شاء مع غناه
وحاجته بشرطين، أحدهما: أن لا يجحف بالإبن ولا يأخذ ما تعلقت به حاجته، الثاني:
أن لا يأخذ من مال أحد ولديه فيعطيه لآخر، لأن تفضيل أحد الولدين غير جائز، فمع
تخصيص الآخر بالأخذ منه أولى. فإذا وجد الشرطان جاز الأخذ" [الكافي (2/471)].
(45)
ولعظم حق الوالدين قدّم تعالى برّهما على الجهاد في سبيل الله –إذا لم يتعين-
كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: جار رجل إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذنه في الجهاد، قال: ((أحيّ والداك؟)) قال: نعم
قال: ((ففيهما فجاهد)) [البخاري (7/69) ومسلم (4/1975)].
وحمل العلماء النهي عن جهاد الابن بدون إذن أبويه على ما إذا كان الجهاد فرض
كفاية – أي قام به من يكفي – أما إذا كان فرض عين عليه أن يجاهد أذنا له أو لم
يأذنا، كغيره من ذوي الأعذار، مثل العبد والمرأة ونحوهما، وفي المسألة تفصيل
ليس هذا موضعه [راجع بدائع الصنائع للكاساني (9/4300) وتكملة المجموع (18/57)
وحاشية الدسوقي (2/75) وراجع كتابنا الجهاد في سبيل الله، حقيقته وغايته
(1/90-92)].
لكن ابن حزم رحمه الله قيّد مشروعية جهاد الابن بدون إذن والديه إذا كان الجهاد
فرض عين بما إذا لم يكن في ذلك ضياع لهما، فإن كان فيه ضياع لهما لم يجز له
الجهاد ولو كان فرض عين، قال: "إلا أن يضيعا أو أحدهما، فلا يحل له ترك من يضيع
منهما" [المحلى (7/292)].
(46)
ومما ينافي برّ الوالدين أن يدعهما أو أحدهما يمتهنان في خدمة الناس للحصول على
نفقتهما، ولو كانا قادرين، مادام يستطيع الإنفاق عليهما وعزهما، قال ابن القيم
رحمه الله تعالى: "فليس من بر الوالدين أن يدع الرجل أباه يكنس الكنف، ويكاري
عمل الحمر، ويوقد في أتّون الحمام، ويحمل الناس على رأسه ما يتقوّت بأجرته، وهو
في غاية الغنى واليسار وسعة ذات اليد، وليس من بر أمه أن يدعها تخدم الناس
وتغسل ثيابهم وتسقي لهم الماء ونحو ذلك، ولا يصونها بما ينفقه عليها، ويقول:
الأبوان مكتسبان صحيحان، وليسا بزمنين ولا أعميين، فيا لله العجب! أين شرط الله
ورسوله في بر الوالدين وصلة الرحم أن يكون أحدهما زمناً أو أعمى؟ وليست صلة
الرحم ولا برّ الوالدين موقوفة على ذلك شرعاً ولا لغةً ولا عرفاً .." [زاد
المعاد (5/551)].
وفي إيجاب الله تعالى بر الوالدين وإعطائهما هذه الحقوق على الأولاد أمن لكل أب
أو أم لهما ولد بأن يعيشا عيشة طيبة تحت رعايته لهما، ويزيد من أمنهما
واطمئنانهما أن ذلك ليس من باب التطوع من الولد عليهما، بل هو واجب مفروض عليه
من الله سبحانه وتعالى، فلا منّة له عليهما بما يقوم به من برّهما.
وإن الذي يقارن بين هذا الحق الذي شرعه الله تعالى للوالدين في الإسلام – ولو
كانا كافرين، فإن على ولدهما المسلم أن يبرهما ويحسن إليهما كالأبوين المسلمين
[ما لم يأمراه بمعصية، فإن أمراه بذلك فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق] –
والذي يقارن بين هذا وبين ما يعانيه الآباء والأمهات في دول الكفر من العقوق
والإهمال في جميع الحقوق لاسيما حالة ضعف الوالدين، يرى رحمه الله وحكمته
ومحاسن شريعته، فأي الفريقين أحق بالأمن؟!.
ولقد شرع الله في بر الوالدين ما لم يخطر على بال واضعي الأنظمة البشرية، لقد
جعل من أبر بر الوالدين صلة من له قرابة بصديقهما بعد موتهما، كما جاء عن ابن
عمر رضي الله عنهما، إنه كان إذا خرج إلى مكة كان له حمار يتروّح عليه إذا ملّ
ركوب الراحلة، وعمامة يشد بها رأسه، فبينما هو يوماً على ذلك الحمار، إذ مرّ به
أعرابي، فقال: ألست ابن فلان؟ قال: بلى، فأعطاه الحمار، فقال: اركب هذا،
والعمامة، وقال: اشدد بها رأسك، فقال له بعض أصحابه: غفر الله لك، أعطيت هذا
الأعرابي حماراً تروح عليه، وعمامة كنت تشد بها رأسك؟ فقال: إني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن من أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه، بعد أن
يولي، وإن أباه كان وداً لعمر)) [مسلم (4/1979)].